وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الحروب الأهلية في السودان

تظهر الصورة التي تم التقاطها في أبريل 2004 أفرادًا من الجيش الشعبي لتحرير السودان المتمرد في الجنوب AFP PHOTO/Julie FLINT (Photo by JULIE FLINT / AFP)

الحرب الأهلية في الجنوب

أسس المصريون في عام 1874 محافظة الإقليم الاستوائي، حيث كثّف تجار الرقيق العرب نشاطهم، مستهدفين الأسواق المحلية والخارجية. تضررت المجتمعات المحلية بشدة؛ حيث إنّ ذكرى هذا الاستغلال ستبقى إلى أمد الآمدين.

ومنذ عام 1922 وحتى عام 1947 (عندما تمّ التخلي عن هذه السياسة)، طبّق البريطانيون إدارةً منفصلة في جنوب السودان. وتمّ تجاهل التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، باستثناء بعض الخدمات الاجتماعية التي تقدمها البعثات التبشيرية المسيحية.

عارض الجنوبيون السياسة الجديدة، خوفاً من أن تجلب الهيمنة الشمالية وعودة العبودية، ممّا سيعرض حقوقهم الثقافية والسياسية للخطر. عبّر مؤتمر جوبا عام 1947 عن هذه المخاوف، إلّا أنّه لم يصدر أيّ قرارٍ بشأن الوحدة، على الرغم من التأكيدات اللاحقة الكاذبة لخلاف ذلك.

تأكدت مبررات مخاوف الجنوبيين من الهيمنة الشمالية في المفاوضات حول حق تقرير المصير في السودان في أوائل الخمسينيات. استبعد القوميون الشماليون، الجنوبيين من هذه المفاوضات، وخرقوا وعود ما قبل الاستقلال بإنشاء نظام اتحادي. وبعد اتفاق الحكم الذاتي في فبراير 1953، بدا أنّ زعماء الشمال تراجعوا عن التزامتهم بالفيدرالية. سرعان ما أدّى هذا إلى تطور الصراع المسلح الانفصالي. بدأت الحركة في عام 1955، قبل بضع أشهر من الاستقلال، عندما تمرّد فيلق الاستوائية في توريت.

استمرت حرب العصابات في الجنوب من عام 1955 إلى عام 1963، إلّا أنّها افتقرت إلى التنظيم الجيد. ومع ذلك، تطوّر المتمردون تدريجياً إلى حركة انفصالية، وشكّلوا جيش عصابات أنيانيا. وانطلاقاً من الإقليم الاستوائي، انتشر الأنيانيا إلى أجزاء أخرى من المنطقة بين عامي 1963 و1969، إلّا أنّ الحركة استنزفت بسبب الصراعات القبلية الداخلية.

لم يتم فعل شيء في ظل الحكومة المستقلة الأولى في السودان، التي تمّت الإطاحة بها في عام 1958 بانقلابٍ عسكري بقيادة رئيس الأركان، الفريق إبراهيم عبود. ظنّ المجلس العسكري للانقلاب أنّ بالإمكان هزيمة المتمردين وإعادة السلام، إلّا أنّ ست سنواتٍ من القمع أثبتت العكس. أدّى الاستياء من الحكومة العسكرية إلى موجة من الاحتجاجات الشعبية التي نتج عنها إنشاء حكومة ديمقراطية مؤقتة في أكتوبر 1964. وفشل مؤتمر المائدة المستديرة الذي عُقد في الخرطوم والذي تضمن بعض ممثلي المتمردين، في حل المشكلة.

وفي أعقاب انقلابٍ عسكري ثانٍ، في 25 مايو 1969، اقترحت الحكومة الجديدة الحكم الذاتي الاقليمي ووضع حدٍ للأعمال العدائية. وبعد يوليو 1971، وفي أعقاب فشل الانقلاب الشيوعي، أصبحت الأجواء مواتية لمبادرات السلام.

وفي عام 1971، جمع اللواء جوزيف لاقو، الزعيم الجديد للمتمردين، جميع فصائل حرب العصابات في حركة تحرير جنوب السودان، وهي أول هيئة يمكن أن تطالب بتمثيل الجنوب بأكمله. قاد مجلس الكنائس العالمي ومؤتمر عموم إفريقيا للكنائس الوساطة بين أطراف النزاع. أدّى ذلك في نهاية المطاف إلى اتفاقية أديس أبابا في مارس 1972، لإنهاء الصراع الذي استمر 17 عاماً بين أنيانيا والجيش السوداني بين الشمال والجنوب. نصّت الاتفاقية على إنشاء منطقة إدارية جنوبية أحادية مع بعض القوى المحددة، وأن تُحكم المنطقة من قِبل هيئة تشريعية وهيئة تنفيذية مستقلة، بالإضافة إلى دمج الأنيانيا في صفوف الجيش والشرطة السودانية.

للأسف، أصبح نميري، بطل السلام، خلال عقدٍ من الزمان، المحرّض على الحرب من خلال تقويض الاتفاقية، حيث أصدر مرسوماً بتقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم، في انتهاكٍ صريح لاتفاقية عام 1972.

اشتعلت حرب الجنوب الثانية في مايو 1983، عندما تمرّدت كتيبة الجيش المرابطة في بور بقيادة العقيد جون قرنق ديمابيور، الذي لجأ إلى إثيوبيا. جذبت الكتيبة الجنوبيين الساخطين العازمين على حل مظالمهم بالوسائل العسكرية المنضوية تحت لواء الحركة الشعبية التي أعلن عن تأسيسها في الآونة الأخيرة، وجناحها العسكري جيش التحرير الشعبي السوداني.

استمرّت الحرب الأهلية لمدة 22 عاماً. وقعّت العديد من معاهدات وقف إطلاق النار، والاتفاقيات، ومحادثات السلام خلال التسعينيات، إلّا أنّها لم تثمر سوى القليل. وفي نهاية المطاف، وقّعت الحكومة السودانية والمتمردين، بعد ضغوطاتٍ من القوى الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، اتفاقاً في يناير 2005، والمعروف باسم اتفاق السلام الشامل، منهياً الحرب الأهلية الطويلة في البلاد. ونصّ اتفاق السلام الشامل على وضع دستورٍ جديد، فضلاً عن تحديد تدابير جديدة لتقاسم السلطة وتوزيع الثروة، وتوفير الأمن. كما سمح بإدارة منفصلة لجنوب السودان، ونصّ على إجراء استفتاءٍ شعبي حول استقلال هذه المنطقة في غضون ستّ سنوات.

في الفترة ما بين 5-9 يناير 2011، صوّت المواطنون في جنوب السودان في استفتاءٍ شعبي على استقلال الجنوب. اختار ما يقرب 99% من الأصوات الانفصال عن الشمال، ليعلن استقلال جنوب السودان في 9 يوليو 2011.

الحرب الأهلية في دارفور

تقع منطقة دارفور في غرب السودان، قرب حدودها مع ليبيا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى. وقد أدّى الصراع الدموي في المنطقة إلى وفاة الآلاف من الناس وتشريد أكثر من مليونيّ شخص. وقد وُصف ذلك بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم وأُطلق عليه الإبادة الجماعية، وغالباً ما تتم مقارنته بالإبادة الجماعية في رواندا، فقد قُتل ما يقدر بنحو 300,000 شخص في هذا النزاع منذ عام 2003. ومنذ ذلك الوقت، يتعرض سكان تلك المناطق لهجوم متكرر من قبل القوات الحكومية والميليشيات الموالية للحكومة، الجنجويد، والجماعات المتمردة. كما أنّ هناك أيضاً معارك متكررة بين القبائل.

تعود جذور الصراع إلى الوضع المعقد في دارفور، عندما حلّت المجالس المحلية المبجلة، الصراعات سلمياً. في النزاعات السابقة، لم تنحز الحكومة المركزية لأي طرفٍ من أطراف النزاع، إلّا أنّها حاولت التوفيق بين الأطراف. فتحت الحكومة الإسلامية التي تولّت السُلطة عام 1989 الأبواب للتخلص من الآليات التقليدية لتسوية النزاعات بالوسائل السلمية.

بدأ الصراع في عام 2003، عندما حمل المتمردون في دارفور السلاح متهمين الحكومة بإهمال المنطقة التي تعاني من عدم المساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن ردّت الحكومة بعنف.

لجأ المتمردون إلى ثورة مسلحة بعد فقدانهم الأمل في أنّ الحكومة ستتعامل بإيجابية مع هجمات الجنجويد، وتأتي للدفاع عن القرويين المسالمين في سفح جبل مرة، ولكن حكومة الخرطوم نفسها متواطئة مع المعتدين. حدث هذا كلّه عشية التوقيع على اتفاق السلام الشامل مع الجنوب. شجّع هذا متمردي دارفور، على أمل الحصول على ذات النتيجة بعد لفتهم الانتباه للتهميش في منطقتهم.

ذكرت مجموعة الأزمات الدولية أنّ تهجير العديد من الأشخاص من منازلهم كان جزءاً من سياسة التطهير العرقي للحكومة، ويتفق هذا مع ادّعاءات المتمردين بقيام جماعات إفريقية، مثل الفور والزغاوة والمساليت بشن هجماتٍ منظمة، قبل اندلاع الصراع عام 2003.

كُلّف أكثر من 18,000 جندي وشرطي من القوات المشتركة بين الأمم المتحدة والاتّحاد الإفريقي (يوناميد) بحماية المدنيين وعمليات الإغاثة. تولّت القوات المشتركة بين الأمم المتحدة والاتّحاد الإفريقي (يوناميد) زمام الأمور من قوات حفظ السلام الإفريقية وقوامها 7,000 فرد في عام 2007، إلّا أنّها حتى الآن غير قادرة على كبح جماح العنف وحماية المدنيين. في الواقع، استهدفت جماعات المتمردين قوات حفظ السلام الدولية، التي من المقرر انسحابها من المنطقة في يونيو 2016، في مناسباتٍ مختلفة. انخفضت وتيرة العنف بعد عام 2005، إلّا أنّها تصاعدت مجدداً عام 2013، حيث نزح أكثر من 450,000 خلال عام 2014 وحده، كما نزح أكثر من 100,000 شخص خلال عام 2015.

تمّ الآن دمج بعض الجنجويد في صفوف الجيش السوداني، فيما قرر البعض الآخر تغيير ولائهم وانضموا لصفوف المتمردين، بينما اندلعت صراعات داخلية بين آخرين. وفي ضوء ذلك، تمّ نشر إحدى هذه الميليشيات، قوات الدعم السريع، في دارفور، والتي هاجمت مجتمعاتٍ متهمة بدعم المتمردين. ووفقاً لإحدى المنظمات الدولية، قامت قوات الدعم السريع بعمليات اغتصابٍ ونهبٍ وحرقٍ للمنازل، فضلاً عن تشريد عشرات الآلاف من السكان.

وفي مارس 2009، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقالٍ بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، واصفةً الجنجويد كحلفاء للقوات السودانية. رفض البشير هذه الاتهامات.

تواصلت جهود السلام، وتمّ التوقيع على اتفاق سلام دارفور عام 2006، التي كانت نقطة تحوّل في الصراع الطويل. تمّ التوقيع على الاتفاق من قِبل الحكومة وفصيل من حركة تحرير السودان، حيث قام حركة تحرير السودان في وقتٍ لاحق بإبطال الاتفاق، الأمر الذي تمّ رفضه من قِبل الفصائل الأخرى.

في مايو 2008، هاجمت حركة العدل والمساواة مدينة أم درمان بالقرب من العاصمة الخرطوم. أعاق هذا جهود السلام حتى يوليو 2011، عندما وقعت الحكومة اتفاق سلامٍ جديد، وثيقة الدوحة للسلام في دارفور، مع حركة التحرير والعدالة، وهي منظمة مظلة للجماعات المتمردة الصغيرة.

يمكن أن تُعزى هذه الصراعات إلى الفوارق الإقليمية والسياسية والاقتصادية المتجذرة التي استمرت طوال التاريخ الاستعماري ومرحلة ما بعد الاستعمار في السودان. فقد همّشت النخبة الناطقة باللغة العربية التي تولت زمام السُلطة في المركز، بشكلٍ منهجي، سكان العديد من المناطق الريفية في البلاد.

Darfur السودان - الحروب الأهلية
تُظهر الخريطة مناطق دارفور والأماكن المتضررة بالعنف.. ©Fanack

امتداد للخيم في مخيم زمزم للنازحين، في مدينة الفاشر، حيث طلب عشرات الآلاف الحماية بعد تجدد الاشتباكات بين حكومة السودان وقوات المتمردين. Photo Andrew Carter