تشكل ديناميكيات النظام السوري المعقدة تحديات في حل الأزمة السورية بعودة سوريا إلى العضوية الكاملة للجامعة العربية بعد تجميدٍ دام نحو 12 عاما.
حسين علي الزعبي
لم ينتظر النظام السوري سوى أيام حتى أعلن انقلابه على مخرجات اجتماع جدّة التشاوري واجتماع عمّان وبيان قمة جدّة التي أعلنت عودته إلى العضوية الكاملة للجامعة العربية. ويبدو أن هذا النظام سيواصل تعنته حول الملفات الرئيسية العالقة التي تحول دون حل الأزمة السورية.
عودة نظام بشار الأسد إلى الحظيرة العربية جاءت بعد تجميدٍ دام نحو 12 عاما. وجاءت هذه العودة كخطوة حسن نية من قبل المجموعة العربية تجاه النظام الذي وافق على بيان عمان. ودعا البيان إلى “إطلاق دورٍ عربيٍ قيادي في جهود حلّ الأزمة السورية وفق منهجية خطوة مقابل خطوة والمبادرة السعودية“.
وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي عاود التأكيد على هذا المبدأ بقوله: “نبني على ما اتفق عليه في بيان عمان لناحية عملٍ مشترك متدرج على مبدأ خطوة مقابل خطوة يضعنا على طريق حل هذه الأزمة”.
وزير الخارجية السوري فيصل المقداد رأيٌ مغاير لتصريحات الصفدي الأخيرة. وقال المقداد في مقابلةٍ أجراها مؤخراً: “لم نتحدث عن خطوة مقابل خطوة، بل تحدثنا عن خطوات للوصول إلى حلول للأوضاع التي مرت فيها سوريا نتيجة تصديها للهجمة الإرهابية”.
ونفى المقداد أن ينسجم الحل السياسي في سوريا مع القرار الدولي 2254. وكما هو معروف، فإن القرار الدولي ينص في أحد بنوده على تشكيل هيئة حكم انتقالي. وفي هذا الصدد، قال المقداد: “قلنا سننفذ ما يهم سوريا في هذا القرار. وعلى هذا الأساس، نحن نسعى للحل السياسي الذي يستلزم القضاء على الإرهاب، والذي يستلزم إعادة إنعاش الأوضاع الاقتصادية. كما ينبغي أن تزول العقوبات الغربية المفروضة على سوريا”.
المقداد ضرب أيضاً بعرض الحائط بما تم الاتفاق حوله بخصوص ملفات الانتخابات والدستور والمعتقلين والمفقودين. وقال المقداد: “ما هذه الملفات التي يتحدث البعض عنها! أجرينا ثلاثة انتخابات رئاسية وأربع انتخابات برلمانية وانتخابات للإدارة المحلية. نحن لا نتلقى تعليمات وأوامر من قبل الآخرين”.
ومن المؤكد أن المسؤولون السعوديون والأردنيون استمعوا لتصريحات المقداد المتوافقة بطبيعة الحال مع توجيهات بشار الأسد والدوائر الحقيقية للحكم في دمشق. ومع ذلك، فقد تجاهلت السعودية، صاحبة الخطوة الأكبر باتجاه النظام السوري، التصريحات. ولم تتناول وسائل الإعلام السعودية ما ورد عن المقداد. وبصورةٍ مماثلة، اتخذ الأردن موفقاً صامتاً لا يختلف بطبيعته عن طبيعة التعاطي السعودي مع تصريحات وزير خارجية النظام السوري.
انتصار الأسد!
شكّل حضور المقداد لاجتماعات القاهرة وجدة وعمان ومن ثم مشاركة الأسد في القمة العربية حالةً من الشعور بالخذلان لدى جمهور المعارضة السورية. ويصف البعض ما جرى بأنه إعلان انتصار الأسد على أكثر من 10 ملايين لاجئ وعشرات آلاف المعتقلين ومثلهم من المغيبين.
في المقابل، غرّد الصحفي السوري نضال معلوف خارج السرب عبر قناته على اليوتيوب. واعتبر معلوف أنّ كل ما جرى لا يوحي بشكل من الأشكال بأي انتصار للأسد. ووصف الصحفي السوري المعروف ما جرى بمثابة “سحب للأسد إلى حيث الفخ”.
وفي سياق تحليله للأحداث، قال إن اجتماع عمان شكّل بدايةً لمسارٍ جديد وحّد الجهود السابقة ووضع القرار 2254 كإطار عام للحل السياسي في سوريا. كما أنّ كافة البنود التي وردت في بيان عمان كانت تؤكد، والكلام لمعلوف، على مسألة التنسيق مع هيئات الأمم المتحدة، لأنّ كلّ شيء يعود إلى القرار الأممي. وبالتالي، فإنّ المسألة تحوّلت من عملٍ ثنائي إلى جهودٍ مشتركة للوصول إلى حل سياسي ترمي لتطبيق القرار الأممي بجهودٍ عربية.
وبما أنّ النظام وافق على ما ورد في البيان، فهو ملزمٌ بتطبيقها أو هذا ما يتوقعه العرب على الأقل. أما ما يتوقعه معلوف فهو انتهاج النظام السوري لمبدأ لسياسة التسويف، كما أنّ ما تم طرحه من بنود تتعلق باللاجئين السوريين يشكل بلا شك حالة ضغط على النظام غير القادر أصلا على تحمل الأعباء الاقتصادية التي تفرضها عودة اللاجئين في حال عودتهم. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن بيان عمان لم يشر إلى مسألة إعادة الإعمار ولا إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا مثل قانون قيصر.
ولعلّ من الإشارات المهمة التي نص عليها بيان عمان “تحقيق المصالحة الوطنية”. وهذا يعني أن هناك أطراف يجب أن تتصالح وهذا لا يتفق مع رؤية النظام الذي يحصر مفهوم “المعارضة” بالمعارضة الداخلية الموجودة في دمشق. وكما هو معروف، فإن النظام غالباً ما يصف الفئات المعارضة الأخرى بأنها “تشكيلات إرهابية أو داعمة للإرهاب”.
القرار 2254
صدر هذا القرار الأممي في ديسمبر 2015 من 16 مادة، وكان بموافقة حليفي النظام روسيا والصين. وجاء في مقدمة القرار “التأكيد على أنه ما من حل دائم للأزمة الراهنة في سورية إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سوريّة بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف (…) وذلك بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة، وتعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة، مع كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية”.
كما جاء في الفقرة الرابعة “يُعرِب (مجلس الأمن) عن دعمه (…) لعمليةٍ سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة وتقيم، في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكما ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولا زمنيا وعملية لصياغة دستور جديد. ويُعرِب (المجلس) كذلك عن دعمه لانتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرا تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة وأعلى المعايير الدولية من حيث الشفافية والمساءلة، وتشمل جميع السوريين الذين تحق لهم المشاركة، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في المهجر، على النحو المنصوص عليه في بيان الفريق الدولي المؤرخ 14 نوفمبر 2015”.
الجامعة العربية وفي قرار 8914 الذي أقرّ إعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية لم يغفل القرار الأممي 2254. وجاء في البند الثالث من قرار الجامعة: “التأكيد على ضرورة اتخاذ خطوات عملية وفاعلة للتدرج نحو حل الأزمة، وفق مبدأ الخطوة مقابل الخطوة وبما ينسجم مع قرار مجلس الأمن رقم 2254”.
على المستوى الشعبي، يعي السوريون أنّ تطبيق القرار 2254 يعني بشكل طبيعي إنهاء حكم نظام الأسد. ولذلك، هم على قناعة بأن الأسد لن ينفذ هذا القرار. وإذا كان هذا الأمر على المستوى الشعبي، فإنّ صانعي السياسات في العواصم التي اتخذت قرار الانفتاح على نظام الأسد أكثر معرفةً بالنظام. وبطبيعة الحال، فإن هذه العواصم على دراية بأن الأسد لن يطبق ما جاء في قرار الانفتاح وأنه سيقوم باستثمار العودة إلى الجامعة لإعادة تعويم نفسه عربيا ومن ثم عالميا.
من الحضن الإيراني إلى الحضن العربي..
في الحديث عن تفاعلات المشهد، لا يمكن تجاهل الدور الإيراني. وتأتي الخطوات العربية تجاه الملف السوري بالتزامن مع التوافق السعودي الإيراني. وقد يكون ما حصل من انفتاح على الأسد أحد مخرجات الاتفاق غير المعلنة، أو التي تم الإشارة إليها في الاتفاق “بعدم التدخل بشؤون الدول”.
الملف السوري يعدّ أحد الملفات المهمة بالنسبة للسعودية في سياق العلاقة مع إيران. إلا أن هذا الملف لا يحلّ على رأس قائمة أولويات الرياض، سيّما إذا ما تمت مقارنته باليمن التي تخوض فيها حرباً منذ سنوات مع ميليشيات الحوثي الموالية لإيران.
ورغم أنّ الاتفاق الصيني أوجد نوعاً من التهدئة على خطوط الجبهات، إلا أن هذا لا يعني تراجعاً في السخونة الكلّية للملف اليمني. ورغم مرور شهور على الاتفاق الصيني، فإنّ هذا الملف لم يشهد أي تقدم على المستوى السياسي، بل إن التصريحات الحوثية ما زالت تستخدم لغة التهديد.
واشنطن حاضرة
السياق التاريخي لعلاقات الولايات المتحدة بدول الخليج يؤكد تواجد السعودية على الدوام ضمن السرب الموافق للسياسات الأمريكية. ومع ذلك، فقد توتّرت العلاقة بين واشنطن والرياض أحياناً بخصوص بعض الملفات الفرعية، لاسيما خفض إنتاج النفط.
تعليق واشنطن على إعلان منظمة أوبك الأخير خفض الإنتاج بنحو مليون برميل من النفط كان دبلوماسي الطابع. واكتفى المتحدث باسم الأبيض بالقول إن هذا القرار يتعلق بمنظمة أوبك. أما وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وخلال اجتماعه مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون كان أكثر وضوحا.
وقال مخاطبا الوزراء: “الولايات المتحدة موجودةٌ في هذه المنطقة لتقول إننا لا نزال منخرطين بعمق في الشراكة معكم جميعاً. دول مجلس التعاون الخليجي هي جوهر رؤيتنا لشرقٍ أوسط أكثر استقراراً وأماناً وازدهاراً. إننا نعمل معاً للتوصل إلى حل للنزاع في اليمن ومصممون على إيجاد حل سياسي في سوريا يحافظ على وحدتها وسيادتها ويلبي تطلعات شعبها”.
وفي الملف السوري، بدت واشنطن متمسكةً بموقفها الرافض للتطبيع مع الأسد. وفي اتصالٍ هاتفي أجراه مع نظيره الأردني، أكد بلينكن أن تطبيق القرار 2254 الحل الوحيد لإنهاء الأزمة السورية. وشدّد وزير الخارجية الأمريكي في الاتصال على رفض واشنطن لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد.
وعلى الأرض، شهدت الفترة الأخيرة تطوراً ملحوظاً. وأعلنت الولايات المتحدة إرسال منظومة صواريخ من طراز هيمارس إلى سوريا. ونفى بلينكن أن تكون تلك المنظومة قد أرسلت إلى قوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها تركيا الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني.
هذا الموضوع لا يبدو بعيدا لجهة التوقيت عن معطيات أخرى برزت خلال الفترة الأخيرة. ومن هذه المعطيات تجدّد الحديث عن عودة تنظيم “الدولة الإسلامية”. ويتزامن ذلك مع ما ذكرته صحيفة واشنطن بوست عن خططٍ إيرانية لتصعيد الهجمات ضد القوات الأمريكية في سوريا. وبحسب تقريرٍ أخير نشرته الصحيفة، فإن إيران تقوم بتدريب وتسليح ميليشيات في سوريا لمرحلة جديدة من الهجمات ضد القوات الأمريكية. ويأتي ذلك في سياق إستراتيجية روسية واسعة لطرد الأمريكيين من المنطقة، حسب قول مسؤولين استخباريين ووثائق مسربة.
وأُعلن مؤخراً عن تنفيذ القوات السورية لعمليات استطلاع في بادية حمص بالتعاون مع القوات الروسية. وتهدف العمليات إلى العثور على الجماعات الإرهابية وتحييدها. ولا تبعد هذه المنطقة كثيرا عن موقع فصيل “جيش سوريا الحرة” التابع للمعارضة السورية والمدعوم أمريكيا. ويتواجد هذا الفصيل في قاعدة “التنف” الأمريكية الواقعة ضمن ما يُعرف بمنطقة الـ”55″ كم بريف حمص الشرقي.
استفاقة المعارضة
يبدو أن انفتاح الأسد على الجامعة العربية أدى لاستفاقة المعارضة السورية. والتقطت هيئة التفاوض الإصرار العربي على القرار 2254 للتشديد على ضرورة تطبيق القرار. كما أن مساعي هذه الهيئة تتماشى مع المعارضة الأمريكية للتطبيع مع الأسد وإبقاء قانون قيصر وتشريع قانون الكبتاغون.
وأعلنت هيئة التفاوض، التي تضم الشريحة الأوسع من المعارضة السورية، عن قبولها للجلوس مباشرةً مع بشار الأسد للتفاوض على تطبيق القرار 2254. وفي هذا السياق، قال رئيس الهيئة بدر جاموس إن المعارضة السورية مستعدةٌ للتفاوض بشكلٍ مباشر مع النظام في جميع الملفات المتعلقة بالأزمة السورية. وأضاف “هيئة التفاوض السورية تؤمن بأن الحل السياسي هو السبيل الأمثل للتوصل إلى سلام دائم في سوريا. وترى (الهيئة) أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 .. هو الأساس الذي يجب الالتزام به”.
وينظر مراقبون لموقف المعارضة كخطوة “براغماتية تنسجم مع التوجهات العربية والغربية أيضاً”، سيّما وأن هذه المعارضة على دراية كافية بأن الأسد سيرفض المضي قدماً في مثل هذا المسار التفاوضي معها.
ورغم كل الحديث عن الحلّ السياسي، فإن المشهد العام يكاد يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة، لاسيما بعد إعلان النظام عبر فيصل المقداد انقلابه على كل ما سبق. فلا الأردن في الجنوب سيقبل باستمرار تدفق الكبتاغون. وما قامت به عمّان من استهداف لورشات تصنيع الكبتاغون في سوريا بالطيران الحربي دليلٌ على عدم التهاون مع النظام في حال استمراره على سياسته نفسها. كما أن إسرائيل لن تقبل باستمرار وجود الميليشيات الإيرانية بالقرب من حدودها. أما تركيا التي شكلت فيها قضية اللاجئين ملفاً انتخابياً ساخناً، فهي الأخرى تصعّد من لهجتها حول إعادة اللاجئين إلى مساكن داخل الحدود السورية. وقد يتطلب تنفيذ التصور التركي عملاً عسكرياً.