مات ناشد
قام المجلس العسكري السوداني بتعزيز سلطته منذ الإطاحة بالحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيّون في 25 تشرين الأول 2021. وبعد أقل من شهر، عَيّنَ رئيس المجلس العسكري الأعلى عبد الفتاح البرهان نفسه رئيسًا لهيئة حاكمة جديدة ما يدل على تصميمه على المضي قدمًا في الاستيلاء على السلطة.
ومن المرجح أن يدخل برهان التاريخ باعتباره خائنًا قوّض الطموحات الديمقراطية في السودان. وفي بداية المرحلة الانتقالية عُين رئيسًا للمجلس السيادي الذي حُل الآن،وكان يضم 11 عضوا، ويُعدأعلى سلطة حاكمة آنذاك. وعلى الرغم من ذلك فقد كان موقع برهان رسميًّا من الناحية التقنية – بما أن المجلس مارس السلطة كجماعة – في حين تمَّ تفويض السلطات التنفيذية إلى مجلس الوزراء المدني في الغالب بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ومع ذلك كان من المفترض أن يسلم برهان منصبه إلى مدني في الأشهر المقبلة، ولكنه بدلًا من ذلك، اعتقل حمدوكوسَجَنَ عددًا من الوزراء المدنيين وحلّ الحكومة.
لقد أدى انتزاع السلطة الوقح إلى زجِّ السودان في أزمة بسبب أنانية المجلس العسكري، ورغبته في الحفاظ على ميزاته الاقتصادية المربحة ونفوذه السياسي. وكان ذلك مؤشرا عندما انتقل برهان بسرعة إلى حل لجنتين عقب الانقلاب. وكانت الأولى لجنة إزالة التمكين – المعروفة باسم ” تمكين” باللغة العربية – التي كلفت باسترجاع الممتلكات التي سرقها أبناء الدكتاتور السابق عمر البشير ، غير أن ولاية اللجنة هدّدت المصالح التجارية للنخب العسكرية.
وكانت اللجنة الثانية مسؤولة عن توجيه اتهامات جنائية ضد الأفراد الذين يعتبرون مسؤولين عن تنظيم مذبحة الخرطوم،خارج وزارة الدفاع في 3 حزيران 2019. و قال المسؤولون في الولايات المتحدة للصحفيين،إن كبار جنرالات السودان يخشون أن يحاسبوا على الجريمة الخطيرة المرتكبة ضد الإنسانية إذا فقدوا حصانتهم القانونية التي لا تمنح إلا لأعضاء في الحكومة،ولهذا رفض كبار الضباط في السودان التنحي عن السلطة ومواجهة حركة العصيان المدني رغم ارتفاع حدّتها.
ففي نهاية المطاف، لا يطالب المتظاهرون بالعودة إلى الوضع الراهن ما قبل الانقلاب، والذي شهد مشاركة ضباط الأمن في السلطة مع تحالف مدني يعرف باسم ” قوى الحرية والتغيير”، ولكنهم يطالبون بالانسحاب الكامل للجيش من الحياة السياسية. يتم حشد الاحتجاجات من قبل لجان المقاومة ، وهي مجموعات الجوار مع هيكل القيادة الأفقية، وقدرتهم على تنظيم احتجاجات مئات الآلاف من الناس ــ على الرغم من التعتيم على الإنترنت ــ تشكل شاهدًا على الشرعية التي اكتسبوها في الشوارع.
إن المجلس العسكري السوداني يدرك أنه لا يستطيع الحكم دون إخضاع سكان المدن وهو ما يحاول القيام به من خلال الإكراه والاندساس. وما زال المجلس العسكري حتى الآن يعتمد على الأسلوب الأول أكثر من الاسلوب الثاني. ويقول الأطباء إن أكثر من 38 من المتظاهرين لقوا حتفهم بما في ذلك مقتل 15 شخصًا في 17 تشرين الثاني، وإصابة المئات بجروح. ولكن من المرجح أن يكون العدد الحقيقي للضحاياأعلى بكثير،بسبب انقطاع الإنترنت لمدة ثلاثة أسابيع، ما جعل تسجيل الأعداد الحقيقية الكاملة للإساءات أمرًا مستحيلًا. وفي الإقليم الغربي من دارفور وحده أفاد راديو دبنقا في 4 تشرين الثاني بأن 43 شخصًا على الأقل احتجزوا بشكل تعسفيّ واقتيدوا إلى مواقع مجهولة. وواجه عشرات من كبار قادة الاحتجاجات والمسؤولين المدنيين نفس المصير في الخرطوم. وتعتبر هذه الأشكال من الاعتقالات حالات اختفاء قسري بموجب القانون الدولي.
وفي بادرة أمل استجاب المجتمع الدولي بسرعة حيث جمدت الولايات المتحدة 700 مليون دولار كمعونة تبعها البنك الدولي الذي أوقف صرف مبلغ بليوني دولار من المبالغ المقررة. كما أوقفت ألمانيا كل أشكال التعاون الإنمائي مع الخرطوم في حين طرد الاتحاد الأفريقي السودان من تكتله، حتى يتم عكس مسار الانقلاب. ويمكن اتخاذ المزيد من التدابير الجزائية مثل وقف تخفيف عبء الديون بمليارات الدولارات، وهو أمر أساسي، لإعادة تأهيل اقتصاد البلاد المنهك بعد سنوات من الاختلاس والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة.
إن الدول الإقليمية التي من المرجح أن تدعم الانقلاب كالمملكة العربية السعودية و الإمارات العربية المتحدة و إسرائيل و مصر سوف تجد أن الخسائر المالية التي يتكبدها السودان أكبر من أن تتمكن من تغطيتها ، حتى لو تمكنوا من سد الفجوة،فلن يتسنى لأي مستوى من الدعم الإقليمي أن يضفي الشرعية الداخلية على مجلس السودان.
وببساطة يراهن مخططوا الانقلاب على أن المحتجين سوف يستسلمون في نهاية المطاف لفكرة الحكم العسكري، ولإقناعهم خفضوا أسعار السلع لجعل المواد الأساسية بأسعار معقولة، كما كانت في السابق، وكان القصد من هذه الخطوة كسب التأييد الشعبي، نظرًا إلى أنّ تدابير التقشف التي كانت قد فرضتها الحكومة السابقةبقيادة المدنيين ــ والتي دعمتها المؤسسة العسكرية للحصول على تخفيف عبء الديون المطلوب بشدة ــ أدت إلى ارتفاع معدل التضخم.
ويظهر المحتجون على حق ، فمن خلال رشوة المؤسسة العسكرية، يدرك معظم الناشطين أن الجيش قد سيطر على أهم القطاعات المدنية في الاقتصاد ، مثل السمسم والصمغ العربي،و استخدام الأخير في مجموعة متنوعة من المنتجات مثل الغراء وغذاء القطط. السودان هو واحد من أكبر الدول المصدرة للسمسم عالميًّا ، وهو ينتج حوالي 70 في المئة من الصمغ العربي في العالم، ويسيطر الجيش على قطاعات الاستيراد بما في ذلك معظم سوق القمح ،والاتصالات السلكية واللاسلكية، والمصارف، وتوزيع المياه، والمستحضرات الصيدلانية، والأجهزة المنزلية لدى قوات الدعم السريع، وهي واحدة من أقوى الجماعات شبه العسكرية في السودان حيث يتمُّ عدد من الأنشطة التجارية الغامضة التي تتدفقإلى شبكة من الحسابات الخارجية.
وقد أجبرت سيطرة المجلس العسكري على الاقتصاد مجلس الوزراء المدني،على الاعتماد على المؤسسات المالية الدولية والحلفاء الغربيين للحفاظ على اقتصادها على قدم وساق. والأكثر من ذلك ،كان العديد من الناس يعتمدون على صندوق الضمان الاجتماعي للحصول على المعونات النقدية وخدمات الرعاية الاجتماعية والوظائف.
إن سيطرة المجلس العسكري على الاقتصادتعني أن وقف الدعم الغربي من شأنه أن يضر بالسودانيين المستضعفين أكثر مما يضر بضباط الأمن. ولهذا السبب بالتحديد ينبغي لواشنطن وحلفائها الأوروبيين أن يضعوا اليد ، بشكل مباشر، على الممتلكات التابعة لقادة الانقلاب. وبإمكان الدول الغربية أن تبدأ باستهداف الشركات الخاصة التابعة لقوات الدعم السريع ــ وهي المجموعة التي يمقتها قادة الجيش من المستوى المتوسط والثوريين في المناطق الحضرية والقبائل الواقعة على الأطراف. لن يتمكن برهان من المحافظة على تحالفه مع المجموعة بسبب عزل قوات الدعم السريع ، ما سيدفعه إلى الدخول في محادثات جادة مع حمدوك والوسطاء العالميين. ولكن قبل بدء المحادثات يجب على المجتمع الدولي أن يصرَّ، بل أن يهدد باتّخاذ التدابير والإجراءات العقابية ضد كبار القادة العسكريين ــ إلى أن يطلق سراح كل من احتجز منذ الانقلاب.
وبما أن قولت الدعم السريع قد تكون مخرّبًا أساسيًّا، فإن هذه مناورة محفوفة بالمخاطر. ولتهميش المجموعة يجب أن تبذل القوات المدنية جهودا موازية للتوافق بشكل أوثق مع جماعات متمردي دارفور التي وقعت على اتفاق جوبا للسلام في تشرين الأول 2020 ، وقد أيدت جميع تلك الجماعات الانقلاب، ومن المرجح أنها غير مهتمة بالتخلي عن قوات الدعم السريع أو القوات العسكرية ما لم يصبح التحالف غير مناسب للغاية. هناك كلام مفاده أن المقاتلين داخل صفوف حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان ــ مني مناوي ــ يعارضون قرار قادتهم بدعم الانقلاب.
واستكشاف هذه الفجوة يمكن أن يساعد على تهميش قوات الدعم السريع، ما يجبرهم على الاندماج في قوة أمنية موحدة تحت سيطرة مدنية، وهذا من شأنه أن يمهد الطريق أمام الجهات الدولية لكي تحاول تحفيز المؤسسة العسكرية على التخلص من القطاعات الاقتصادية المربحة،والتخلي عن سلطة صنع القرار. وبإمكانهم أن يحاولوا القيام بذلك عن طريق الوعد بزيادة التمويل والتدريب لجيش موحد يستوعب قوات الدعم السريع. كما يتعين على زعماء الغرب أن يدفعوا المؤسسة العسكرية إلى تقليص حجمها من أجل تخفيف عبء الميزانية العامة. والخطوة التالية هي تحديد قادة من المستوى المتوسط، ممن لديه الطموح والرؤيةلتحقيق دور جديد وبنّاء للجيش. وينبغي دعم هؤلاء الضباط ليحلوا محل الحرس القديم الذي لا يمكن إصلاحه في أعين الشعب، في حال رفض برهان القبول بأي واقع يتجاوز الحكم العسكري. يمكن لواشنطن أن تمارس قانون ماغنيتسكي العالمي. وقد وضع هذا القانون لحظر الأشخاص من الولايات المتحدة والذين يرتكبون جرائم وتجميد ممتلكاتهم إذا اعتبروا أنهم ارتكبوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو أنهم متورطون في فساد على المستويات العليا.
ومن الضروري بالمثل أن ينظر الوزراء المدنيون وقادة الاحتجاجات في عدم مقاضاة كبار القادة إذا وافقوا على الاستقالة والانسحاب من الحياة السياسية. إن هذه الخطوة تحمل في طياتها مخاطرها لأنها قد تنطوي على رسالة مفادها أن الإطاحة بحكومة مدنية لن تسفر عن تداعيات. ومع ذلك ليس هناك سيناريو يتضمن استسلام كبار الضباط في السودان ببساطة ما لم يتم منحهم الحصانة عن جرائم الحرب الماضية. والواقع أن التضحية بالسعي لتحقيق العدالة سيكون مقايضة مريرة لكنها أفضل من العيش تحت أغلال المجلس العسكري.
في حين أن هذه أهداف طموح ، لا ينبغي رفضها باسم البراغماتية. وقد يستسلم المجتمع الدولي لإغراء إعادة صياغة اتفاقية تقاسم السلطة قبل الانقلاب فقط. ولكن هذه النتيجة لن تحقق الكثير لتجنب حدوث أزمة مستقبلية. ويتعين على زعماء الغرب بدلاً من ذلك أن يدعموا مطالب الاحتجاج من خلال ضمان معاناة زعماء الانقلاب من العواقب المالية الوخيمة المترتبة على انتزاعهم السلطة، وإلا فإن المجلس العسكري لن يضغط لعكس المسار.