دانا حوراني
منذ ثمانية أشهر، قرر الباحث والناشط على مواقع التواصل اللبناني جهاد سمرا أن يبيع جميع ممتلكاته وينتقل للعيش في العاصمة التركية أنقرة.
أما ما دفعه إلى اتخاذ هذا القرار فهو الضغط الذي تعرّض له من قبل سياسيين غاضبين بسبب ما كان ينشره على مواقع التواصل الاجتماعي. إذ يتمحور نشاط سمرا على موقع تويتر حول فضح السياسيين الفاسدين، ونشر التوعية حول مسائل قومية مستترة. وبناء على ذلك، اضطر الناشط أن يبحث عن المخرج الأسرع والأقل كلفةً، بعد أن استحال عليه البقاء في لبنان.
وصرّح سمرا لموقع “فناك” قائلًا: “تنتظرني مذكرات توقيف في المطار، وإذا اخترت العودة إلى لبنان قد أقع في مأزق مع الأحزاب السياسية التي انتقدتها في الماضي.”
حاليًا يؤكد سمرا أنه راضٍ عن حياته الجديدة كـ “رحّالة رقمي” في تركيا، حيث يحق له تجديد إقامته لوقت قصير ما لم يكن موظفًا في البلد، ويتقاضى مدخوله من الخارج. كما أنه الآن حرٌّ في التعبير عن آرائه السياسية على مواقع التواصل، طالما يحترم القوانين التركية المعنية، بحسب قوله.
احتضنت تركيا حوالي خمسة ملايين عربي في السنوات العشر الأخيرة، وقد أصبحت ملجأً لسكان الشرق الأوسط الذين يودون السفر من دون مواجهة أي عائق في الحصول على تأشيرة دخول، مقارنةً مع الدول الغربية التي تفرض قيودًا أكثر تشددًا على حاملي الجوازات غير الغربية.
ونظرًا إلى العوائق المفروضة على سكان الشرق الأوسط، وبالأخص الدول التي تعصف فيها الحروب مثل سوريا والعراق والسودان واليمن، إضافةً إلى الدول التي تشهد توترات سياسية، على غرار لبنان وإيران، أمسى الكثيرون مقيّدين في السفر ويتطلعون نحو تركيا كوجهة للترفيه والسياحة والعمل.
نبذة تاريخية
هاجر حوالي مليوني عربي من بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين إلى تركيا خلال الحرب العالمية الثانية. وتبعها تدفق كثيف خلال الحرب العراقية –الإيرانية في الثمانينات والغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
وفي عام 2011، أضحت تركيا ملاذًا لجميع الهاربين من الاضطرابات في العالم العربي، من لاجئين ومهاجرين أجانب.
فأصبح نظام الحماية المؤقتة في تركيا ملجأً لجميع السوريين الفارّين من النزاع الذي نشب في بلادهم عام 2011. وبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، باتت تركيا تحتضن ما يقارب 3.64 مليون سوريٍ، إضافةً إلى 322.188 من المتقدمين للحصول على الحماية الدولية، ومعظمهم من العراق وأفغانستان وإيران.
ووفقًا لصحيفة Le Monde Diplomatique، أصبحت تركيا موطنًا لمئات آلاف العراقيين وما يفوق 30.000 مصريٍ وعشرات الآلاف من الليبيين واليمنيين والفلسطينيين والأردنيين، إضافةً إلى الجزائريين والمغربيين والتونسيين.
وعلى الرغم من أعدادهم الهائلة، يؤكد سمرا أن العادات والتقاليد المشتركة تسهّل اندماج شعوب الشرق الأوسط في تركيا.
التشابه الثقافي
في ظل الدولة العثمانية، حكم نظام سنيّ إسلامي ما يعرف اليوم بتركيا الحديثة، ما أدى إلى نشوء عدد كبير من المعالم والعمارات من الطراز الإسلامي. كما تظهر العادات الاجتماعية التقليدية من خلال ممارسات يومية، على غرار إقامة الصلاة في المساجد وصلاة الجماعة يوم الجمعة.
وفي حين تُظهر الأرقام أن 99.8% من سكان تركيا يعتبرون أنفسهم مسلمين، إلا أنها لا تأخذ بعين الاعتبار وجود الأشخاص غير المتدينين والأقليات الدينية. ومع هذا، يعتبر جهاد سمرا أن تواجد الدين الإسلامي بشكل واسع قد سهّل على المسلمين العرب تبدُل أحوالهم، وبخاصة من ناحية العادات الغذائية. إذ يعتبر اللحم الحلال والوصفات التقليدية عاملين مهمّين في الاندماج الاجتماعي، وفقًا لسمرا.
أما من ناحية الحياة الاجتماعية، فيشير الناشط إلى أن حسن الضيافة في أنقرة مماثلةٌ لما قد نجده في الشرق الأوسط. ويساهم ذلك في رأب الصدع ما بين حضارات قد تختلف في الظاهر ولكنها تتشابه في الباطن.
ويضيف سمرا قائلًا: “نجد العنصرية أينما ذهبنا، وتركيا ليست استثناءً. إنما يقدرك الناس هنا إذا أظهرت لهم الاحترام. وستلاحظ مدى لطفهم إذا تعرفت عليهم عن كثب.”
“تنجح إسطنبول عادة في جذب الأجانب، وبخاصة الغربيّون منهم، بفضل سحرها وجمالها. ولكنني شخصيًا أفضل الحياة الهادئة هنا في أنقرة.”
جوهرة سياحية
تقع تركيا ما بين آسيا وأوروبا، وهي مشابهة لهما من الناحية الثقافية والمعمارية. كما تقع في ملتقى البلقان والقوقاز والشرق الأوسط وشرق المتوسط، مما ينعم عليها بمناخ متعدد الأوجه ومناظر طبيعية متنوعة.
ونظرًا إلى تنوع الأرض والطبيعة والسواحل، يعتبر سمرا أن “رؤية البلد بأكمله قد تتطلب زيارة عدة مناطق يوميًا لمدة أربع سنوات.”
يستفيد المسافرون القادمون من الشرق الأوسط من الأسعار المعقولة في السوق الناتجة عن تدهور سعر صرف الليرة التركية. إذ يتم التداول بها حاليًا على سعر 15.3 ليرة للدولار الأمريكي الواحد (خلال كتابة هذا المقال)، ما دفع بالأسعار الى الارتفاع بنسبة 70% للمرة الأولى منذ عشرين عامًا. ولا شك في أن الظروف القاسية المتأتية من وضع الليرة قد أثرت سلبًا على الشعب التركي، إلا انها جذبت السياح من حاملي العملات الأجنبية بفضل توفّر العمليات الطبية غير المكلفة لديها، على غرار علاج الأسنان، وزرع الشعر، وجراحة الليزر للعيون.
ويشير سمرا إلى أن العرب الأثرياء يسافرون إلى لندن وميلان، في حين يتوجه العرب من الطبقة العاملة إلى إسطنبول.
وبحسب الناشط، لطالما فضّل الأثرياء من عرب دول الخليج التوجه إلى المدن الغربية مثل لندن، لشراء العقارات أو استكمال دراستهم. كما أدت التوترات الأخيرة بين تركيا وبعض دول الخليج، بخاصةٍ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، إلى تراجع في عدد السياح الآتين من تلك الدول.
وفي حين تحبَّذ زيارة الشرق أوسطيين إلى تركيا، إلا أنه يصعب الحصول على العمل أو على إقامة طويلة الأجل.
تحديات العمل في تركيا
لجأ مئات اللبنانيين إلى تركيا من جراء الأزمة المالية التي حلّت على بلادهم. وفيما يسهل الحصول على إقامة مؤقتة، تصعب الطريق أمام الذين يطمحون إلى البقاء لوقت أطول.
ويشرح سمرا قائلًا: “نادرًا ما يقوم أرباب العمل بتوظيف الأجانب، وإذا حصل فإنّهم يدفعون ما يعادل الحد الأدنى للأجور أو أقل.”
كما أمست السلطات التركية تشدد قبضتها على القادمين. ولتجنّب شروطها الصارمة، ينصح سمرا العاملين عن بعد بتقديم طلب للحصول على بطاقة إقامة قصيرة الأجل التي تتيح لهم السكن في تركيا لمدة أقصاها سنتان.
وفي ما يتعلق بتكاليف العيش، يزعم سمرا أن أنقرة من أيسر المدن كلفةً حول العالم.
وأضاف قائلًا: “بوسعك أن تعيش مرتاحًا في أنقرة بـ 400 دولار في الشهر. أما لتعيش في إسطنبول، فتحتاج الى ضعف هذا المبلغ.”
كما أكد أن الانتقال للعيش في تركيا يتطلب إتقان اللغة أولًا، إذ يعتبر الحاجز الأكبر للاندماج الثقافي.
وصرّح الفنان السوري رامي الكور لـموقع “فناك” أن السفر لتركيا بهدف السياحة أو العمل إنما حلم لأبناء شعبه، زاعمًا أن الحصول على تأشيرة دخول أمسى شبه مستحيل للسوريين. أما قبل الحرب الاهلية، فكان بوسع السوريين الدخول إلى تركيا بعدة طرق، ومنها برًا عبر الباص.
وأضاف قائلًا: “أخبرني أقاربي عن المعالم السياحية التركية والمواقع الجميلة التي زاروها، لكنني لم أرها بنفسي بعد.”
ونظرًا إلى عدم توفر التأشيرات السياحية، بات الجميع يقدّمون طلبات للهجرة، وهي عملية معقدة ومكلفة، بحسب الكور. فيضطر السوريون إلى القدوم إلى لبنان لتقديم طلبهم في القنصلية التركية.
“بكل صراحة، أتمنى أن أجد وظيفة في تركيا، إنما فرص العمل للسوريين محدودة. لدي أصدقاء تمكنوا من الانتقال خلال الحرب، ويخبرونني أن فرحة الحياة في تركيا تطغى على العقبات الثقافية والكلام العنصري.”
وأفادت منظمة العفو الدولية أن المواطنين الاتراك يشعرون بقلق متزايد إزاء التعايش مع اللاجئين السوريين، وذلك على الرغم من كون تركيا إحدى أكبر الدول التي تستقبل اللاجئين. وعند طرح السؤال على المواطنين، عبّر العديد منهم عن رغبتهم في رؤية اللاجئين ينتقلون إلى مناطق آمنة في سوريا، وذلك علمًا أن السوريين الذين عبروا عن رغبتهم في الانتقال إلى تلك المناطق لم تتجاوز نسبتهم 6%. أما الأكثرية، فعبّروا عن سعادتهم إزاء التعايش مع مجتمعهم المضيف وعن رغبتهم في البقاء في المستقبل.