يناقش هذا المقال مصالح تركيا في سوريا وكيف توازن أفعالها أثناء التعامل مع مختلف اللاعبين الرئيسيين، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا وإيران وإسرائيل.
حسين علي الزعبي
كراقص التانغو هو حال تركيا في سعيها لتحقيق مصالحها في سوريا. ووسط تعقيد الوضع الراهن في شمال سوريا، على أنقرة أن تمسك بجميع الأيادي الفاعلة، وفي مقدمتها اليد الأمريكية واليد الروسية، وإلا فإنها ستخرج عن الإيقاع.
العملية العسكرية التركية البرية “المحتملة” في سوريا تصدرت الخطاب الرسمي التركي لأكثر من نحو شهرين. بيد أن هذا الخطاب حلّ مكانه خطابٌ آخر بدا وكأنّه في أحد جوانبه يناقض الخطاب الأول، إذ بدأت تظهر نغمة تطبيع العلاقات مع النظام السوري بوساطة روسية. هذه النغمة الجديدة بدأ بوادرها تتجسد على أرض الواقع مع اللقاء الأخير الذي جمع وزيري الدفاع التركي ونظيره السوري في موسكو أواخر عام 2022.
ومع ذلك، فإن الخطابين يصبّان في خانةٍ واحدة: تأمين الملف الكردي المتعلق بالحدود الجنوبية للبلاد وبشكلٍ خاص مع سوريا. وبطبيعة الحال، يعتبر هذا الملف أحد أهم ملفات الأمن القومي التركي، إن لم يكن أهمها على الإطلاق.
تتفق القوى السياسية التركية بشقيها المعارض والحاكم على مقاربة واحدة تجاه الملف الكردي. وتنظر هذه القوى إلى هذا الملف من باب هاجس تقسيم تركيا. وتؤمن القوى السياسية أن أي فرصة لتقسيم تركيا لا بدّ وأن تستند إلى الملف الكردي. وبحسب هذه المقاربة، ستكون أداة تنفيذ التقسيم فرع حزب العمال الكردستاني في تركيا “بي كي كي” والإدارة الذاتية في الشمال السوري وذراعها العسكري قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وهنا تجدر الإشارة إلى أن أنقرة تنظر إلى قسد بالجناح السوري لـ “بي كي كي”.
تركيا في معالجتها لهذا الملف لا بدّ لها أن تتعامل مع قوى كبرى تعيش على وقع صراع إستراتيجي يصل إلى مرحلة كسر العظم. وعلى ذلك، لا بد وأن تأخذ أنقرة بعين الاعتبار الولايات المتحدة، سيّما وأنها الداعم الأول لقوات سوريا الديمقراطية. كما تحضر روسيا باعتبارها الداعم الأول للنظام السوري. وكما هو معروف، فإن القوات الروسية والأمريكية حاضرة على الأرض في سوريا. وأخيراً وليس آخراً، لا يمكن لتركيا إغفال الدورين الإيراني والإسرائيلي في ساحة الصراع الدائرة في شمال سوريا.
تشابك المصالح الكبرى
تفاصيل المنطقة جغرافياً، على صغرها، باتت جزءاً من مشهدٍ دولي يعيش حالة استقطابٍ حاد جرّاء الحرب الأوكرانية.
تعي تركيا أن الولايات المتحدة أكثر القوى تأثيرا في “قسد” والأكثر قدرة على تغيير المشهد في الشمال السوري. وعلى هذا الأساس، تسعى أنقرة لاستغلال ما لديها من ملفات للضغط على واشنطن للحصول على تأييدها للرؤية التركية.
حالة الضغط الأولى كانت في الناتو عندما لم توافق تركيا على انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف. أما الحالة الثانية، فكانت تقارب أنقرة مع موسكو في وقت تخوض فيه واشنطن مواجهة كبرى مع موسكو في أوكرانيا.
واشنطن ستختار أنقرة في حال كان عليها المفاضلة بين الأخيرة وقسد بحسب السياسي والباحث السوري كمال اللبواني. لكن لا يبدو أن هذه اللحظة قد أتت، إذ تملك واشنطن الكثير من الأدوات للضغط على القيادة التركية. ومن هذه الأدوات صفقة طائرات إف 16 وممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تتعلق بالشأن الداخلي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه الضغوط قد تؤثر على مسار الانتخابات التركية التي ربما تغير الخريطة السياسية التركية بشكل كامل.
بالمقابل، على أنقرة ألّا تكون على الضفة الأخرى المواجهة لموسكو. فهذه الأخيرة تستطيع ضرب مناطق المعارضة المكتظة بالسكان شمال سوريا، لا سيّما إدلب وريف حلب. ويضع هذا الأمر تركيا تحت ضغط موجة لجوء جديدة، سيّما وأن اللاجئين السوريين في تركيا تحولوا إلى الورقة الأولى في الانتخابات التركية المقبلة. كما أن الدخول في عملية عسكرية دون موافقة موسكو سيضع القوات الروسية بمواجهة القوات التركية.
من الجهة الأخرى، تحرص موسكو على عدم انضمام تركيا بشكل كامل إلى الغرب في معركة أوكرانيا. ولهذا السبب، قد تسعى موسكو للبحث عن مقاربة تدفع باتجاه تطبيع العلاقة بين دمشق وأنقرة.
أما إيران، وهي إحدى القوة الفاعلة في سوريا، فتفاجأت بالإعلان عن التقارب السوري التركي. وبحسب صحيفة الشرق الأوسط، فقد اشتكى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان سماعه لأخبار اللقاءات السورية – التركية عبر وسائل الإعلام. ويمكن تلمّس بعض الإشارات عن عدم رضا طهران على هذا التقارب. ومن هذه الإشارات رفض طهران تزويدها النظام السوري بالنفط دون الدفع سلفا، بالإضافة إلى الإعلان عن تأجيل زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سوريا إلى أجل غير مسمى. ويبدو أن إيران حصلت على ما تريد. ففي وقتٍ لاحق، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن الاتفاق على مشاركة إيران في المباحثات بين سوريا وتركيا وروسيا.
من الناحية العسكرية، ليس من مصلحة إيران حصول هذا التوافق، سيّما وأنه سيؤدي إلى استهداف حزب العمال الكردستاني الذي يحظى بعلاقات جيدة غير معلنة مع طهران وفق ما ذكرته العديد من مصادر فنك. كما أن التحرك التركي العسكري، سواء عبر دوريات مشتركة أو ضمن قوة عسكرية برية بعمق 30 كم يعني تقليص دور الميليشيات الموالية لإيران والتي لها حضورٌ في تلك المنطقة.
وعلى المستوى السياسي، لن يسهل على إيران التخلي عن مكتسباتها في سوريا. وكما هو معلوم، فإن إيران تحظى بحضورٍ عسكري طاغٍ في سوريا عبر أذرعها المسلحة. كما أنها غيّرت من خريطة التوزيع السكاني في سوريا بما يخدم مصالحها. ومع ذلك، فإن إيران حريصة بالقدر نفسه على إعادة الأسد إلى الحياة الدبلوماسية الدولية؛ سيّما وأنه لا أحد يمكن أن يقدم لإيران ما قدمه هذا الأخير.
في الوقت نفسه، تحرص طهران على إبقاء علاقات “جيدة” مع أنقرة. لذلك، فهي تسعى لأن تكون حاضرة في أي تسوية يتم التوصل إليها بين أنقرة وموسكو ودمشق. وفي هذا السياق، ذهب علي أصغر خاجي، كبير مستشاري وزير الخارجية، للقول “لا يمكن حل القضية السورية بسهولة دون وجود إيران”.
الوجود الإيراني على الأرض السورية يستحضر وبقوة الموقف الإسرائيلي وخاصة بعد وصول بنيامين نتنياهو إلى سدة الحكم في تل أبيب. ولا شك أن حكومة نتنياهو ستكون داعمة لأي تحرك من شأنه أن يقلص الحضور الإيراني في سوريا سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
التفاصيل على الأرض
إذا كانت الإستراتيجيات الكبرى تُرسَم في أروقة عواصم القرار، فإنّ تطبيقها يرتبط بالتفاصيل التي تفرضها الأرض. ولاستشراف ما يمكن أن تذهب إليه الأمور، لا بدّ من العودة إلى يوم 17 أكتوبر 2019. حينذاك، أعلن نائب الرئيس الأمريكي السابق مايك بنس عن توصّل الولايات المتحدة وتركيا لاتفاقٍ يقضي بوقف العملية العسكرية التركية “نبع السلام” لتأمين انسحاب “قسد” ذات الغالبية الكردية من منطقة آمنة اقترحت تركيا إيجادها على حدودها مع سوريا.
وفي 22 أكتوبر 2019، توصل الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان إلى اتفاق تكمل “قسد” بموجبه انسحابها مسافة 30 كيلومترًا بعيدًا عن المنطقة الحدودية. كما تمّ الاتفاق على انسحاب قسد من مدينتي تل رفعت ومنبج. وبموجب الاتفاق، تعمل الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري على إخراج عناصر قسد الذين بقوا خارج منطقة “نبع السلام”، لمسافة 30 كيلومترا من الحدود التركية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الاتفاق مع واشنطن على تشكيل المنطقة الآمنة لم يشر إلى مسافة 30 كم ولا لأي مسافةٍ أخرى كما كان عليه الحال في اتفاق أنقرة مع موسكو. واكتفى الاتفاق التركي-الأمريكي بالإشارة في أحد بنوده إلى الإشارة إلى انسحاب من المنطقة الآمنة.
العملية التركية التي شارك فيها “الجيش الوطني السوري” المعارض أسفرت عن السيطرة على مدينة تل أبيض والأراضي الواقعة بينها وبين نهر الفرات. كما تمت السيطرة على مدينة رأس العين. ووصلت القوات المشاركة في العملية إلى الطريق السريع M4، بمساحة كلية تقدّر بـ 4 آلاف كيلو متر مربع.
بعد عام من العملية، أعلنت تركيا أنّ عدد السكان العائدين إلى المنطقة الآمنة وصل إلى 200 ألف نسمة. وفي مايو 2022، أعلن إردوغان عن عودة نحو 500 ألف لاجئ سوري إلى الأماكن “الآمنة” داخل سوريا.
الخطاب الرسمي التركي الحالي يصبّ اهتمامه على ملف اللاجئين السوريين، سواءً أكان ذلك يرتبط بالحديث عن العمليات العسكرية أو عن التقارب مع الأسد. أما من الناحية الأمنية، فإن الاهتمام يتركّز بصورةٍ أكبر على جبال قنديل شمالي العراق، المعقل الرئيس لمقاتلي “بي كي كي”.
مصالح دمشق وأنقرة
لا يستطيع الأسد استيعاب عودة اللاجئين، على الأقل من الناحية الاقتصادية. كما أنّ عودة هؤلاء إلى “المناطق الآمنة” وإدلب لا تبدو ممكنة مع الاكتظاظ السكاني الكبير في تلك المناطق. وإلى جانب ذلك، فإن عودة الملايين إلى مناطقهم الأصلية تعني ضرب كل المخططات التي رعتها بعض أجنحة النظام لإحداث التغيير الديمغرافي على امتداد سنواتٍ طويلة بإشراف إيراني.
أما اللاجئون، فيرفض القسم الأكبر منهم بشكل قاطع العودة للعيش تحت سيطرة النظام. وأثبتت التجربة اللبنانية عدم نجاعة هذه المسألة، علما بأنّ ظروف اللاجئين في تركيا أفضل بكثير منها في لبنان. إلا إذا انتهجت تركيا سياسة الإبعاد القسري. وبالتالي، فإنّ أنقرة قد خسرت أخلاقيا بالإضافة لخسارة حلفائها من المعارضة ومن مؤيديها على المستوى الشعبي.
“إنهاء الاحتلال شرط الاستمرار في تحسين العلاقات مع تركيا”، هذا ما أعلن النظام عنه في آخر مواقفه المعلنة تجاه تركيا. وتعي دمشق أن أنقرة التي تفكر بعملية عسكرية من المستبعد أن تنهي “الاحتلال” ما لم تحقق مكاسب أكبر. وفي هذا السياق، يشير السياسي كمال اللبواني إلى أنّ أقصى ما يمكن أن يقدمه الأسد هو منح شرعية لوجود القوات التركية على غرار الوجود الروسي والإيراني. ومن شأن ذلك أن يتيح للقوات التركية التحرّك بحرية داخل سوريا، شأنها في ذلك شأن إيران وروسيا. وبالوقت نفسه، سيظهر النظام وكأنه هو من يدير العملية في المناطق التي تتحرك فيها القوات التركية.
ما الذي تريده دمشق؟ الصحفي السوري زياد غصن يرى في مقال نشرته قناة الميادين المقربة من النظام أنّ ما تريده هو استعادة السيطرة على إدلب بمعابرها ومناطقها كاملة. وقد يكون ذلك وفق صيغ تتم على مراحل، كأن يبدأ النظام بالسيطرة على طريق حلب-اللاذقية، ثم تدريجياً تتم السيطرة على مدينة تلو الأخرى. أما الفصائل المعارضة، فقد تقبل بدمج بعضها في مجموعات رديفة للجيش السوري لا أكثر. واستبعد غصن القبول بنموذج درعا حيث سلمت الفصائل سلاحها الثقيل والمتوسط واحتفظت بسلاحها الخفيف. وبالتالي، يرجح غصن أن يقوم النظام بعملية عسكرية محدودة تبعاً لمضمون الاتفاق المحتمل مع أنقرة. وبطبيعة الحال، فإنّ هذه العملية من شأنها إنهاء “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على إدلب.
فتّش عن واشنطن
المقاربات المطروحة، وإن بدت قابلة للتحقيق نظريا، إلا أنه من الصعوبة بمكان تطبيقها من الناحية العملية دون موافقة أمريكية. وبطبيعة الحال، فإن واشنطن لن تقوم بذلك إلا إذا قرّرت إنهاء وجودها في شمال سوريا، علماً بأنها تحتفظ بـ 20 قاعدة ونقطة عسكرية متقدمة هناك.
إنهاء الوجود الأمريكي في سوريا سيكون أحد السيناريوهات الثلاثة التي وضعها معهد هدسون للأبحاث في أحد أبحاثه. أما السيناريو الثاني فيتمثل في بقاء القوات الأمريكية شرق الفرات ودفع تركيا نحو مزيد من التقارب مع روسيا. وفي حال ميل واشنطن للمضي قدماً بهذا السيناريو، فإنها ستتفاوض بمرور الوقت مع موسكو على شروط انسحابها من تلك المنطقة. السيناريو الثالث، بحسب بحث هدسون، يستلزم العمل مع تركيا لبناء سوريا تخدم مصالح أميركا وحلفائها.
تقرير هدسون يعتبر الخيار الأخير خطوةً منطقية جيوإستراتيجية سليمة. ويبدو أن واشنطن ليس بوارد التخلي عن قوات سوريا الديمقراطية في حال مضيّها قدماً بهذا السيناريو. ومع ذلك، يبدو أنها في وارد البحث عن توافقات قد ترضي أنقرة مرحليا على الأقل، من دون أن تخسر قسد.
ومن مؤشرات اتباع واشنطن لهذه المقاربة ما تقوم به، حسب ما ذكرته مصادر فنك، من محاولات لاستقطاب العشائر العربية في مناطق سيطرة قسد، وهي مناطق في معظمها ذات أغلبية عربية. كما عقد ممثلو واشنطن لقاءات مع قادة الفرقة 17 لإنهاء تهميش المكوّن العربي في قسد. وتعتبر هذه الفرقة من تشكيلات الجيش الحر. وكانت هذه الفرقة تسيطر على الرقة ودخلت في مواجهات مع تنظيم “الدولة الإسلامية”. واختفت هذه الفرقة كلياً عن الأنظار بعد سيطرة قسد على المنطقة.
إنهاء تهميش المكون العربي قد يسمح بعودة قسم من اللاجئين إلى مناطقهم التي باتت تحت سيطرة قسد. وقد يترافق ذلك مع إمكانية إجراء دوريات تركية أمريكية بعمق 10 كم في المنطقة.
المضي قدماً في هذا المسار ليس مستبعداً. وقد يعود السبب في ذلك إلى حرص واشنطن على عدم منح خصمها بوتين فرصة تسجيل نقطة لصالح حليفه بشار. وكما هو معلوم، فإن واشنطن أقرت مؤخراً قانون “الكبتاغون” الذي يستهدف عائلة الأسد بشكل مباشر. كما أنّ البيت الأبيض أعلن غير مرّة أنه يرفض ولا يدعم تطبيع العلاقات مع نظام الأسد ويشدد على تطبيق قرار مجلس الأمن 2254.
أخيرا، فإنّ الزلزال المدمر الذي ضرب جنوبي شرق تركيا وشمالي سوريا، وهي المنطقة المعنية أساسا بالحراك التركي، سيؤدي إلى توقف هذا الحراك على المدى القصير. لكنّ هذا التوقّف لا يعني عدم مضي تركيا قدماً بعد حين في مقاربتها لما تراه متوافقاً مع مصالحها في تلك المنطقة الحيوية بالنسبة لها.