وفقًا لمنطق نتنياهو، فإن أي اتفاق سلام على قاعدة النديّة بين دولتين، إسرائيليّة وفلسطينيّة، مرفوض من حيث المبدأ.
علي نور الدين
أعلنت لجنة الانتخابات الإسرائيليّة النتائج النهائيّة لانتخابات الكنيست، والتي أفضت إلى فوز معسكر أقصى اليمين، بزعامة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، بـ 64 مقعدًا من أصل 120. في المقابل، لم ينجح المعسكر الآخر، المعروف بمعسكر التغيير الذي يتزعّمه يائير لابيد، بالحصول على أكثر من 51 مقعدًا. باختصار، نال نتنياهو أغلبيّة حاسمة بحصوله على أكثر من نصف أعضاء الكنيست، وبفارق شاسع عن خصومه، ما يضمن له عودة مريحة إلى سدّة السلطة، كرئيس للوزراء للمرّة الثالثة.
نتنياهو وإيديولوجيا أقصى اليمين الشعبوي
لا يحتاج المرء إلى كثير من البحث ليفهم نوعيّة المعسكر الذي قرر نتنياهو تزعّمه في هذه الانتخابات. فهذا المعسكر يتكوّن أولًا من حزب الليكود، الذي يمثّل التيّار اليميني الرئيسي داخل إسرائيل. كما يشمل حزب الصهيونيّة الدينيّة، الذي يوصف كحركة قوميّة متعصّبة، تؤمن بالأعمال العسكريّة والأمنيّة كخيار أساسي للتعامل مع الفلسطينيين. ويضم هذا المعسكر أيضًا حزب شاس للمتدينين الشرقيين، ويهدوت هتوراه للمتدينين الغربيين، وهما حزبان يمثّلان المجتمعات الحريديّة الشديدة التمسّك بالحركة الاستيطانيّة في الضفّة الغربيّة والقدس.
لكل هذه الأسباب، من المرتقب أن نكون قريبًا أمام حكومة إسرائيليّة متطرّفة وقاسية تجاه الملفّات المرتبطة بالفلسطينيين، والتي تشمل الاستيطان والإجراءات الأمنيّة في الضفّة الغربيّة والحقوق المدنيّة، وصولًا إلى وضعيّة مدينة القدس والعلاقة مع السلطة الفلسطينيّة في رام الله، والحصار المفروض على قطاع غزّة. ومن الطبيعي أن تؤدّي هذه التطوّرات إلى المزيد من التعقّدات التي تعيق أي تقدّم في عمليّة السلام، التي تشهد جمودًا منذ سنوات طويلة.
لفهم المرتكزات الإيديولوجيّة التي يقوم عليها هذا المعسكر السياسي، ونوعيّة الأفكار الشعبويّة التي يعتمدها لمخاطبة الرأي العام الإسرائيلي، يمكن العودة إلى كتابات ونظريات نتنياهو.
فرغم تفاوت الأولويّات والتنوّع الفكري الكبير داخل هذا المعسكر، تمكّن نتنياهو من توظيف الرؤية السياسيّة التي لطالما بشّر بها، لوضع أرضيّة مشتركة سمحت ببناء التحالف الذي يتزعّمه اليوم. وفي كل هذا المسار، استغلّ نتنياهو بشكل ماكر هواجس وعواطف جمهوره، بما يجعله مضربًا للمثال في الشعبويّة المتطرّفة، التي تتقن كسب تأييد الرأي العام في الانتخابات.
أبرز الكتابات التي تعبّر عن هذه الخلفيّة السياسيّة، يمكن أن نجدها في كتابين من تأليف نتنياهو. الأوّل، هو كتاب “مكانٌ بين الأمم: إسرائيل والعالم”، والذي نُشر لأوّل مرّة باللغة الإنكليزيّة، قبل أن يعيد نتنياهو نشره بالعبريّة داخل إسرائيل بعنوان “مكانٌ تحت الشمس”. أمّا الثاني، فهو كتاب “بيبي: قصّتي”، والذي نشره نتنياهو هذه السنة قبل أسبوعين فقط من الانتخابات في إسرائيل، وهو ما ساهم بشكل واضح في التسويق لمعسكر أقصى اليمين في هذه الانتخابات.
العودة إلى الكتابين اليوم، باتت تسمح بتوقّع أداء الحكومة الإسرائيليّة المقبلة، انطلاقًا من رؤية نتنياهو لإسرائيل والعالم، بما أنّ نتنياهو ومعسكره سيقبضان على مفاتيح الحكم بعد الانتخابات الأخيرة. كما يمكن عند قراءة الكتابين تفنيد الخطاب الذي اعتمده نتنياهو، والذي سمح بتنامي شعبيّته رغم سجلّه المليء بفضائح الفساد، ورغم وجود تحقيقات قضائيّة مستمرّة حتّى اللحظة بحقّه.
كتاب مكان بين الأمم
في كتابه “مكانٌ بين الأمم”، يقدّم نتنياهو رؤيته الخاصّة للصراع العربي الإسرائيلي، وتصوّراته بالنسبة إلى أفق هذا الصراع. وككل الخطابات الشعبويّة القوميّة، يبدأ نتنياهو كتابه بالتصويب على خصومه السياسيين داخل بلاده بلغة تخوينيّة قاسية جدًّا، معتبرًا أن اليسار الإسرائيلي لم يَأْتِ إلا كنتيجة لتسرّب البروبغندا العربيّة المضادة للصهيونيّة، إلى داخل المجتمع الإسرائيلي. وكنتيجة لذلك، قدّم اليسار الإسرائيلي تسويات خطرة جدًا على وجود إسرائيل، بتوقيعه على اتفاق أوسلو في 13 سبتمبر/أيلول 1993.
يعارض نتنياهو اتفاق أوسلو، كما يعارض أي خطوة من شأنها منح الفلسطينيين دولة خاصّة بهم داخل مناطق الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، أو حتّى وقف الاستيطان الإسرائيلي داخل هذه المناطق. فوجود دولة فلسطينيّة على مرتفعات وجبال الضفّة الغربيّة، مقابل انسحاب إسرائيل إلى الشريط الساحلي الضيّق الذي يقابل هذه المناطق، سيشكّل بالنسبة إلى نتنياهو خطرا أمنيا وعسكريا وجوديا وداهما. وبهذا المنطق، فأي اتفاق سلام على قاعدة النديّة بين دولتين، إسرائيليّة وفلسطينيّة، مرفوض من حيث المبدأ.
وباستخدام التهويل بالمخاطر العسكريّة والأمنيّة، لا يتقبّل نتنياهو فكرة الانسحاب من هضبة الجولان، التي تمثّل بدورها موقعًا عسكريًّا إستراتيجيًّا مرتفعًا، بما يمكن أن يهدد إسرائيل إذا انسحبت منها.
كما لا يثق نتنياهو بأي معاهدة سلام يمكن أن توقّعها إسرائيل مع الدول العربيّة، بالنظر إلى غياب الأنظمة الديمقراطيّة لدى هذه الدول، وهو ما يسهّل اندلاع الحروب معها وفقًا لأهواء حكّامها. مع الإشارة إلى أنّ نتنياهو يتناسى هنا أنّ عددا كبيرا من هذه الدول غير الديمقراطيّة وقّعت بالفعل معاهدات سلام مع إسرائيل، وبعض هذه المعاهدات ظلّت قائمة منذ عقود وحتّى اليوم (كحال مصر والأردن).
بهذا المعنى، يمكن تصوّر الوضع النهائي الذي يريده نتنياهو كالتالي: إبقاء الاحتلال الإسرائيلي لمناطق الضفّة، مع توسّع النشاط الاستيطاني، دون منح الفلسطينيين هناك دولة مستقلّة لهم، ودون ضمهم إلى إسرائيل أو منحهم حقوق مدنيّة كمواطنين لديها (وهو يرفض ذلك حتمًا لاعتبارات ديموغرافيّة).
أي باختصار، بقاء إسرائيل كقوّة احتلال، وبقاء فلسطينيي الضفة مطوّقين بوضع هجين ومتعارض مع القانون الدولي بشكل دائم. كما يرغب نتنياهو بالتطبيع مع العرب، لكنّه لا يثق بهم ولا بأي معاهدة يوقّعها معهم. أمّا معادلة السلام الوحيدة الممكنة مع الفلسطينيين أو العرب، فهو السلام الذي يتحقق من خلال القوّة القاهرة، أي من خلال سيطرة إسرائيل وهيمنتها الدائمة، والتي يمكنها وحدها فرض الاستقرار.
يمثّل نتنياهو هنا مثالًا صارخًا للشعبويات القوميّة المتطرّفة في الكثير من دول العالم. إذ غالبًا ما تستعمل هذه الحركات السياسيّة فكرة التهويل المستمر بالأخطار الوجوديّة المحدقة، والتي لا يمكن التعامل معها إلا بالتفوّق العسكري والأمني الدائم، ولو على حساب تجاوز القانون الدولي أو حقوق الشعوب الأخرى.
والسلام الدائم مستحيل، إلا وفق قاعدة الغالب والمغلوب، والتي تقتضي أن تبقى الدولة في حالة عداء واشتباك دائم مع محيطها. أمّا الحكومات التي عقدت معاهدات سلام في السابق، فمناهضة لمصلحة الأمّة، وتعمل لحساب العدو سواء علمت ذلك أو لم تعلم.
بيبي: قصّتي
إذا كان كتاب “مكانٌ بين الأمم” قد عرض رؤية نتنياهو النظريّة للصراع العربي الإسرائيلي، فكتاب “بيبي: قصّتي” عرض مذكرات نتنياهو وتجربته الفعليّة في السياسة.
في هذا الكتاب، يشرح نتنياهو كيفيّة استعانته بتكتيكات المحافظين الجمهوريين المتشددين في الولايات المتحدة الأميركيّة، عبر تنظيم إحصاءات داخل إسرائيل لاكتشاف أبرز هواجس الناخبين ومخاوفهم، للتمكن من العمل على أساسها في حملاته الانتخابيّة. وبعد أن تبيّن له أن “تقسيم القدس” يمثّل أبرز هواجس الإسرائيليين، نظّم حملته الانتخابيّة مشددًا على مخاطر تقسيم المدينة، في حال فوز خصومه من الليبراليين واليساريين الإسرائيليين.
وكحال معظم الزعماء الشعبويين، بنى نتنياهو دبلوماسيّته على أساس البحث عن حلفاء من أحزاب أقصى اليمين في الدول الغربيّة، حين يحكم هذه الدول زعماء لا يكنّون الكثير من الود له. وهذا تحديدًا ما فعله خلال ولايتي الرئيسين الأميركيين باراك أوباما وبيل كلينتون، حين استعاض عن علاقته المتوتّرة بهما ببناء علاقات داخل الكونغرس، مع النوّاب المحافظين الأكثر تفهّمًا لهواجس أقصى اليمين الإسرائيلي. ولتسويق نفسه أمام أعضاء الكونغرس، كان من الضروري التشديد دائمًا على التهديدات التي تحيط بإسرائيل من كل حدبٍ وصوب، والتي لا تسمح لها ببناء سلام مستدام مع جيرانها.
أمّا أقوى العلاقات الدبلوماسيّة التي تمكن نتنياهو من نسجها، فكانت مع زعماء غير ديمقراطيين كالرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المصري السابق حسني مبارك والزعيم الصيني شي جينبينغ، أو مع زعماء غربيين محسوبين على أقصى اليمين المحافظ كالرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو ورئيس الوزراء السابق سيلڤيو برلسكوني. وبخلاف ذلك، لم يتمكن نتنياهو من بناء علاقات متينة وموثوقة مع الغالبيّة الساحقة من القادة الغربيين أو العرب، الذين لم يثقوا كثيرًا بتطرّفه وشعبويّته.
في النتيجة، من الأكيد أنّ نتنياهو يمثّل بكتاباته وسيرته الذاتيّة مرجعيّة يمكن الرجوع إليها، كمثال عن خطاب الأحزاب القوميّة المتطرّفة وإستراتيجيّاتها السياسيّة، سواء في ما يتعلّق بعلاقاتها الدبلوماسيّة في الخارج، أو بخطاباتها السياسيّة في الداخل.
أمّا الملفت للنظر، فهو تشابه التكتيكات التي اعتمدها نتنياهو مع تكتيكات غيره من الزعماء الشعبويين القوميين في الكثير من دول العالم، ما يشير إلى أنّ هذا النوع من الإيديولوجيّات يتغذّى من الخوف والهواجس الجماعيّة والقوميّة، ويعيش على تضاؤل فرص السلام وتنامي النزاعات الإقليميّة.