Chronicle of the Middle East and North Africa

تركيا وعضويّة “بريكس”: تحوّل جذري أو مناورة؟

إن سعي تركيا للانضمام إلى مجموعة البريكس يمثل خطوة استراتيجية تهدف إلى توسيع تحالفاتها العالمية مع الاستفادة من مكانتها مع الشركاء بالغرب.

تركيا وعضويّة "بريكس"
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في قمة البريكس العاشرة. جيانلويجي جويرسيا / بول / أ ف ب

علي نور الدين

في شهر أيلول/سبتمبر 2024، فاجأت تركيا الاتحاد الأوروبي وحلفاءها في الـ “ناتو” بخطوة في التقدّم بطلب الانضمام إلى مجموعة “بريكس”. وخلال قمّة المجموعة المنعقدة بين 22 و24 تشرين الأوّل/أكتوبر 2024، من المفترض أن يتم البت رسميًا بهذا الطلب، كما صرّح مساعد الرئيس الروسي يوري أوشاكوف.

لم تكن تركيا الدولة الأولى في منطقة الشرق الأوسط التي تقدم على خطوة كهذه. ففي شهر آب/أغسطس 2023 وافقت “بريكس” رسميًا على دعوة ستّة أعضاء جدد، ومن بينهم أربع دول شرق أوسطيّة، وهي مصر وإيران والإمارات العربيّة المتحدّة والمملكة العربيّة السعوديّة. لكنّ الجانب الاستثنائي في حالة طلب تركيا، يكمن في كونها الدولة الأولى من بين أعضاء الـ “ناتو”، والمرشّحين لعضويّة الاتحاد الأوروبي، التي تذهب بهذا الاتجاه.

تحوّل جذري ويأس من الغرب؟

كان الطّبيعي أن يُنظر لخطوة تركيا المُستجدّة كمسار بديل عن محاولة الانضمام للاتحاد الأوروبي، أو التكامل مع اقتصاده، وذلك بالنظر إلى طبيعة الأهداف الاقتصاديّة والنقديّة التي تسعى مجموعة “بريكس” لتحقيقها. بل إن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان نفسه حرص على الإشارة إلى محاولة بلاده البائسة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، منذ ترشّحها إلى هذه العضويّة عام 2005، قبل أن يبقى هذا الترشيح معلّقًا حتّى اليوم. بصريح العبارة، قال أردوغان أنّ من يدعون تركيا لعدم الانضمام إلى “بريكس”، هم “أنفسهم من تركونا ننتظر لسنوات على باب الاتحاد الأوروبي”.

على هذا الأساس، رأت الكثير من التحليلات أنّ خطوة أردوغان مثّلت عمليًا استدارة نحو الشرق، كخيار إستراتيجي على المدى البعيد. وقد تمّ دعم هذه النظريّة بالتذكير بأن دول “بريكس” – دون الأعضاء الجدد- باتت تمثّل عام 2024 نحو 34.92% من حجم الاقتصاد العالمي، مقارنة بـ 30.05% فقط بالنسبة لأعضاء مجموعة الدول الصناعيّة السبع. وهذا ما شكّل واقعًا مثيرًا للاهتمام بالنسبة لتركيا، بما يسمح بالبحث عن مصالحها الاقتصاديّة بعيدًا عن الغرب.

وما يدعم هذه النظريّة أيضًا، هو طبيعة السياسات الخارجيّة والداخليّة التي اعتمدها أردوغان، والتي لم تنسجم مع القيود التي يحاول فرضها الـ “ناتو” أو الاتحاد الأوروبي على تركيا. فبينما يميل حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم إلى سياسات مُحافظة اجتماعيًا، يصر أردوغان على الاحتفاظ بعلاقات دافئة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دون التماهي مع الـ “ناتو” في موقفه من روسيا.

في المقابل، تبدو مجموعة “بريكس” كمساحة شديدة المرونة بالنسبة لأردوغان اليوم. فالمجموعة لا تضع أي شروط متعلّقة بسياسات الدول الداخليّة، قبل قبولها كأعضاء. وبخلاف الـ “ناتو” والاتحاد الأوروبي، تضم “بريكس” دولًا ذات سياسات خارجيّة متباينة وأحيانًا متناقضة، كما هو حال الصين والهند مثلًا، وهو ما يعطي المجموعة طابعًا متنوّعًا وليّنًا ومناسبًا لدولة ذات علاقات دوليّة معقّدة مثل تركيا.

وعلى أي حال، من الجدير أن نتذكر هنا بأنّ أسباب إحباط تركيا في علاقتها بالغرب لم تقتصر على جمود ترشيحها لدى الاتحاد الأوروبي، بل يشمل كذلك علاقتها الملتبسة بالولايات المتحدة وحلف الـ “ناتو”. وهذا ما تلمّسه أردوغان عند إقصاء بلاده من برنامج شراء طائرات الـ “أف-35” الأميركيّة منذ العام 2019، بعدما أقدمت تركيا على شراء منظومة “إس-400” الدفاعيّة الروسيّة. كما شكا أردوغان بشكل متكرّر من تزايد الدعم الأميركي لليونان، العضو في الـ “ناتو” أيضًا، والتي تملك نزاعات حدوديّة شائكة مع تركيا.

لكل هذه الأسباب، تفاءلت روسيا بهذا التوجّه التركي المُستجد، بوصفه مؤشّرًا لإمكانيّة انضمام أردوغان إلى رحلة البحث عن “عالم متعدّد الأقطاب” على حدّ قول بوتين، بعيدًا عن هيمنة الغرب. ومن هنا يمكن فهم مسارعة المتحدّث بإسم الكرملين دميتري بيسكوف إلى الترحيب الحار بهذه الخطوة التركيّة، بصورة توحي بدعم روسيا لطلب العضويّة التركي. وعلى النقيض تمامًا، عبّر الاتحاد الأوروبي عن “قلقه” من محاولات انضمام تركيا لمجموعة “بريكس”، مذكرًا إياها بوضعيّها كمرشّح للانضمام للاتحاد.

مناورات أردوغان مع الشركاء الغربيين

في مقابل تلك التوقّعات المُبالغة في التفاؤل بنوايا أردوغان، ثمّة ما يرجّح –وبصورة أكثر واقعيّة- بأن تركيا تسعى من خلال هذه الخطوة للمناورة في وجه شركائها الغربيين، للحصول على مكتسبات أكبر في العلاقة معهم.

أي بمعنى أوضح، يمكن القول أن أردوغان لا يسعى فعلًا إلى الاستدارة شرقًا، إحباطًا من الغرب. بل يحاول –وعلى العكس تمامًا- استعمال طلب عضويّة “بريكس” لاستعراض البدائل التي تملكها تركيا، للضغط على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومعالجة إشكاليّات علاقته معهما. وبهذه الطريقة، يحاول أردوغان أن يحسّن شروط شراكاته مع الغرب، لا أن يقطعها كما يعتقد البعض. ومن الملفّات التي يسعى لمعالجتها، ترشيح بلاده المعلّق لعضويّة الاتحاد الأوروبي.

تصريحات أردوغان بعد تقديم طلب عضويّة “بريكس” توحي فعلًا بوجود هذا التوجّه. إذ اعتبر أنّ المناقشات التي تدور حول “تحوّل اتجاه” تركيا نحو الشرق لا أساس لها من الصحّة، بل إنّ بلاده “تتوجّه طبعًا نحو الغرب”، لكن مع فتح “الأبواب أمام الفرص مع كل الكيانات والجهات الفاعلة.” وبهذه العبارات، كان أردوغان يضع خطوة طلب الانضمام إلى “بريكس” في خانة تنويع العلاقات الخارجيّة، لعدم حصر خيارات تركيا في سلّة واحدة، وهو ما يعطيها قوّة تفاوضيّة أكبر أمام المجتمع الدولي.

ما يؤكّد هذا الواقع، هو طبيعة مجموعة “بريكس”، التي لا يمكن أن تعوّض تركيا عن المكاسب التي يمكن أن تحققها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. فبخلاف الاتحاد الأوروبي، لا تشكّل “بريكس” منظّمة اقتصاديّة ذات سوق مشتركة وعملة موحّدة وسياسات نقديّة متجانسة. ونطاق عمل البنك الجديد للتنمية، المخصّص من قبل دول الـ “بريكس” لدعم مشاريع البنية التحتيّة، محدود مقارنة بالدعم الذي يوفّره الاتحاد الأوروبي لأعضائه.

أمّا تجربة تركيا مع حلف الـ “ناتو”، فتؤكّد أنّ أردوغان من النوع الذي يذهب حتّى النهاية في الضغط على الولايات المتحدة للحصول على تنازلات معيّنة منها، قبل الالتزام مجددًا بتوجّهاتها في اللّحظات الحسّاسة. وهذا ما جرى عندما عرقلت تركيا بشكل مؤقّت طلب انضمام السويد إلى الـ “ناتو”، قبل التراجع عن هذه العرقلة، بالتوازي مع موافقة الكونغرس على بيع تركيا 40 مقاتلة “أف 16”.

باختصار، لم تُظهر تركيا في أي مرحلة اتجاهها الجدّي للخروج من مظلّة الـ “ناتو”، أو من الشراكة الإستراتيجيّة مع الولايات المتحدة، لكنّها تسعى دائمًا إلى التفاوض على موقعها في المعادلة. وحتّى في علاقة أردوغان مع بوتين، لم تتجاوز تركيا يومًا الخطوط الحمراء الأميركيّة، بل حاولت أن تلعب دورَ الوسيط القادر على نسج تفاهمات مرحليّة مع الكرملين.

على هذا الأساس، يجوز القول أنّ تركيا قد تمضي فعلًا في محاولة الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، ومن ثم تحصيل ما يمكن تحصيله اقتصاديًا من هذه العضويّة. لكنّ هذه الخطوة لن تكون استدارة جذريّة وحاسمة، بعيدًا عن العلاقة مع الغرب. النتيجة العمليّة، ستكون امتلاك أردوغان أوراق أقوى للتفاوض في سياسته الخارجيّة، وخلق شراكات اقتصاديّة بديلة كي لا يحصر خياراته بالاتحاد الأوروبي.

هواجس ومكاسب مرتبطة بطلب تركيا

من الناحية العمليّة، يبدو مفهومًا اهتمام روسيا بتسهيل مسار انضمام تركيا إلى مجموعة “بريكس”، بالنظر إلى حجم الشراكات الاقتصاديّة بين الطرفين، وخصوصًا في مجال الطاقة. وبينما تخطط “بريكس” لخلق منظومة مدفوعات غير مرتبطة بالدولار، بعيدًا عن هيمنة الولايات المتحدة، من البديهي أن تسعى روسيا إلى ضم تبادلاتها التجاريّة مع تركيا إلى هذه المنظومة. وفي المقابل، سيكون متوقّعًا أن تسعى تركيا للاستفادة من مشاريع وقروض البنك الجديد للتنمية، التابع لمجموعة “بريكس”، لتمويل مشاريع بنيتها التحتيّة الآخذة بالتوسّع.

في مقابل هذه المكاسب المتوقّعة، تشير جميع المعطيات إلى أنّ الصين تنظر بعين الريبة إلى طلب الانضمام التركي. وبشكل أدق، ترى الصين أنّ دخول تركيا إلى مجموعة “بريكس” قد يعزّز نفوذ موسكو داخل مؤسسات المجموعة، على حساب بكين، بالنظر إلى العلاقة الوطيدة التي تجمع أردوغان ببوتين. وفي الوقت عينه، لا تنظر الصين بارتياح إلى انضمام عضو في حلف الـ “ناتو” إلى “بريكس”، خصوصًا أنها –وبخلاف موسكو- لا تملك علاقة استثنائيّة مطمئنة مع أنقرة.

على أي حال، من المفترض أن تحسم قمّة “بريكس” المقبلة هذا السجال الداخلي. وعدم قبول الطلب التركي، أو تأجيل البت به، قد يكون احتمالًا قائمًا، بالنظر إلى هواجس بكين، وعدم وجود إجماع على هذه الخطوة. ومن المعلوم أن مجموعة “بريكس” تجاهلت في محطات سابقة طلبات انضمام العديد من الدول لأسباب مشابهة، كحال الجزائر التي حُرمت من العضويّة، بسبب توجّس روسيا من سياساتها الخارجيّة.

user placeholder
written by
Dima
All Dima articles