يواصل البُشناق في العالم العربي الحفاظ على تراثهم الثقافي مع إقامة روابط جديدة مع جذورهم البوسنية. تعكس رحلتهم قصة رائعة عن الهجرة والقدرة على الصمود.
يوسف م. شرقاوي
يُعد المجتمع البُشناقي جزءاً أساسياً من جملة الشعوب والإثنيات التي استقرت في العالم العربي. ويعد اندماج البُشناق السريع وانصهارهم في المجتمعات العربية منذ وجودهم فيها، لا سيّما في فلسطين وتونس والمغرب، حالة خاصة للإثنيّات التي استقرت في المنطقة.
ويصل مدى هذا الاندماج إلى الحدّ الذي ساد فيه تصوّرٌ جمعي لدى الناس في الدول العربية مفاده أن البشناق ينحدرون من أصولٍ عربية، وهو تصوّرٌ غير صحيح، سيّما وأن البشناق يعودون بأصولهم إلى أصولٍ سلافية.
موجات الهجرة إلى البلاد العربية
يُطلق مصطلح البُشناق في الأصل على مسلمي دولة البوسنة والهرسك المنحدرين من أصول سلافية. وكان هؤلاء قد اعتنقوا الإسلام إبان الفتوحات العثمانية.
وبعد توقيع اتفاقية برلين مع السلطنة العثمانية عام 1878، تقرّر وضع البوسنة والهرسك تحت إدارة الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية. كما تمّ الاعتراف باستقلال كل من الجبل الأسود وصربيا ورومانيا. وباتت بلغاريا إمارة مستقلة تحت سيادة السلطان العثماني.
وبعد خضوع البوسنة والهرسك لسيطرة إمبراطورية النمسا، اضطر البُشناق إلى مغادرة بلادهم، سيّما وأنهم كان لطبيعة الصراع الدائر في تلك المرحلة بعدٌ ديني كبير.
ومن هؤلاء مَن غادر براً واستقرّ في تركيا الحالية، ومنهم مَن ركب البحر متوجهاً إلى فلسطين والدول العربية الأخرى في الجنوب، سيّما وأنّ هذه الدول كانت تابعة حينذاك للدولة العثمانية. فأطلق الناس عليهم لقب البشانقة أو البُشناق نسبةً لبلادهم.
مع ذلك، لم تكن هجرة المسلمين البوسنيين عام 1878 وما بعد جديدة. فحتى عندما كانت البوسنة والهرسك ما تزال تحت الحكم العثماني، كانت هناك هجرات فردية للعمل أو التجارة أو البحث عن حياة أفضل.
ويسبق وجود البوسنيين المؤتمر المُشار إليه إذن، ذلك أنّ الجيش العثماني كان يضم بعض القادة البوسنيين الذين استُقدموا إلى هذه البلاد. أشهرهم أحمد باشا، والي عكا المعروف بـ «الجزّار»، والذي تصدى لجيش نابليون بونابرت سنة 1799 ومنعه من اقتحام أسوار المدينة.
بيد أن البوسنة والهرسك شهدت العديد من موجات هجرة بعد الاحتلال النمساوي المجري لتلك المنطقة. ولم يكن الكثيرون راضين عن الوضع العام والصعوبات والشكوك المتعلقة بفرص الحياة.
ولهذا، لم يكن لهم أي خيار سوى الهجرة. وهاجر الصرب والمسلمون والكروات واليهود من البوسنة والهرسك، لكنّ المسلمين كانوا الأكثر عدداً.
وعلى الرغم من أنّ السلطات لم تحتفظ بسجلات الهجرة بين عامَي 1878 و1883، فمن المفترض أنّ أكبر عدد من المسلمين غادروا البلاد حتى ذلك الوقت.
وتم تحفيز موجة إضافية من الهجرة من خلال إدخال قانون جديد للدفاع الإقليمي الذي سهّل عمليات التنصير والاضطهاد للمسلمين.
وبطبيعة الحال، ثار مسلمو البوسنة بزعامة الشيخ علي فهمي جابيج على هذه الممارسات وعلى الحكم النمساوي عام 1900. كما أنهم هبوا في وجه النمساويين بعد ضم النمسا للبوسنة والهرسك في عام 1908.
ووفقاً للتقارير، فقد كانت الهجرة الأخيرة التي تلت عملية الضم الأوسع من بين جميع موجات الهجرة. وقد توقفت الهجرات الكبرى إلى الدولة العثمانية بعد حروب البلقان 1912 – 1913.
أما الموجة الرئيسية التالية فقد جاءت بعد 1919، مع ظهور الوضع التاريخي والسياسي الجديد في شبه جزيرة البلقان.
ففي ذلك الوقت، غادرت أعدادٌ كبيرة من الأتراك والمسلمين الذين يتحدثون اللغة الصربية الكرواتية من الأراضي المحررة التي انضمت إلى دولة يوغوسلافيا. وهاجر بعض السكان أيضاً إلى تركيا بعد الحرب العالمية الثانية.
وتعددت أسماء العائلات التي قدمت إلى البلدان العربية خلال هذه الهجرات حسب التقارير، ومنها: لاكشيتش، بيغوفيتش، مرادفتش، جيهانوفيتش، وغيرها.
وأصبحت هذه العائلات كلها فيما بعد تحت مسمى واحد يربطها بالموطن الأصلي: بُشناق.
واجتمع كبار العائلات وتباحثوا في شكل العلاقة مع المجتمع العربي المحيط بهم. وفي هذا السياق، يقول البشناقي مصطفى مرادوفتش نقلاً عن أبيه: «كان الفلاحون العرب طيبين معنا ومتعاونين. لم يكن هناك مشاكل معهم، فاتفق البُشناق أن يذوبوا في المجتمع العربي».
وأدخل الآباء أبناءهم في مدارس عربية وزوجوا بناتهم إلى شباب عرب، كما عمل الفلاحون العرب معهم في الزراعة.
والآن، بعد مرور أربعة أجيال، لا يعرف الأحفاد اللغة البوسنية ولا عادات أهل البوسنة. كل ما يعرفونه أنّ لهم أصلاً بوسنياً.
بناء قيسارية في فلسطين والنكبة
قرر البشناق، وفقاً لتقارير، أن يطلبوا من الحكومة العثمانية تسهيل إعادة توطينهم شرط أن يتمكنوا من البقاء معاً. ووافق الحكومة حينذاك على هذا الطلب ومنحتهم حرية اختيار مكان إقامة جديد.
وعلم البشناق عن قيسارية، وهي موقعٌ أثري شبه مدمر بالقرب من حيفا. وانطلقت مجموعة منهم إلى هناك، فيما انقسمت مجموعة أصغر مؤلفة من عائلات لاكيشيش وسيليتش وميزيفتش وميكيسيتش وذهبت إلى قرية يانون بالقرب من نابلس.
في البداية، كان المهاجرون إلى قيسارية هم الوحيدون الذين يعيشون في القرية الجديدة. وبعد ذلك، قامت السلطات العثمانية بتوطين سبع عائلات شركسية وعائلة بلغارية مسلمة وعائلتين تركيتين هناك. وتمتّع البُشناق بعلاقات ودية معهم ومع جميع المجتمعات المجاورة.
جديرٌ بالذكر أنّ السلطات العثمانية لم تقدم للمهاجرين أي مساعدة في بناء قريتهم، وبهذا تُرك البُشناق لحل مشاكلهم بمفردهم، واستخدموا مواردهم الخاصة لتوظيف مهندس ألماني.
تم بناء القرية داخل أسوار المستوطنات البيزنطية والرومانية القديمة، وجاء تصميمها على غرار قرى الهرسك القريبة من موستار كما يتذكرها المهاجرون.
وحسب كتاب المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي “كي لا ننسى“، فقد جعل البُشناق من قيسارية منطقة آهلة. وبنوا فيها أقبية ومخازن للمؤن ومسجداً. وأسسوا فيها سنة 1884 مدرسة ابتدائية للبنين.
وأدى النزوح الجماعي لمهاجري البوسنة إلى قيسارية إلى تغييرات أسرع في أنماط حياتهم، مما أدى إلى تسريع انصهارهم بين السكان العرب المحيطين. وفي إحصاءات السكان التي قام بها الاحتلال البريطاني لفلسطين، تمت معاملة البشناق كمسلمين عرب.
وفي عام نكبة فلسطين، تم تهجير البُشناق من قيسارية بشكل نهائي مثل بقية الفلسطينيين. ونزحوا إلى الدول العربية المجاورة مثل سوريا والأردن والكويت ولبنان ومصر. ومع رحيلهم، توقفت قيسارية عن الوجود كقرية.
موقع قيسارية جعلها تدخل ضمن أجندة المنظمات العسكرية الصهيونية في وقت مبكر بعد صدور قرار تقسيم فلسطين سنة 1947. ويذكر المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه “التطهير العرقي في فلسطين” متى طُرح لأول مرة التصور الصهيوني لـ: اجتياح عميق للأراضي الفلسطينية، يؤدي إلى طرد السكان منها.
وفي الخامس من فبراير 1948، صدر الأمر بتنفيذ هذا المخطط على ثلاث قرى من بينها قيسارية. وتضمن الأمر: احتلالها وطرد سكانها وتدميرها.
وكانت قيسارية أول قرية في فلسطين ضحية لهذا المخطط الجديد في 15 فبراير 1948. وقد حصل ذلك خلال النهار تحت نظر القوة البريطانية الموجودة في مخفر قريب منها.
نتيجة لذلك، أُرغِم سكانها، أي البُشناق، على الرحيل. وتوزّعوا نحو البلدان العربية المجاورة. وبرزت منهم لاحقاً شخصيات معروفة في الكفاح الفلسطيني مثل عبد الرحمن بشناق (1913 -1999).
الوقت الراهن
يعيش البشناق اليوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة في مدن الضفة الغربية، طولكرم ونابلس ورام الله. وفي العاصمة الأردنية عمّان ثمة قرابة ستين أسرة. كما يوجد عددٌ منهم في الكويت.
وفي لبنان، تعيش عائلات بشناقية معروفة، ففي بيروت عائلة دراتشي. وفي صور، عائلة ريبافاك. وفي طرابلس، عائلة تشامبو.
أما في سوريا، فيعيش البشناق في دمشق وطرطوس. وثمة منهم في مصر وفي غزة. كما يوجد عدد كبير منهم في تونس والمغرب العربي، وكذلك في السعودية.
وعاد الكثير منهم إلى تركيا. في حين أنّ عائلة واحدة هي عائلة د. سليمان كاثودا التي كانت تعيش في العاصمة الأردنية عادت في الثمانينات إلى البوسنة والهرسك. وتمكنت من استرجاع جنسيتها، وتعيش العائلة في موستار حالياً.
أتيح للجيل الجديد من البشناق وآبائهم أن يتواصلوا بصورة أكبر مع جذورهم البوسنية، فظهرت الرحلات الجماعية التي ينظمها أحد أفراد العائلة. وتقول إكرام مرادوفتش: “سافرت إلى هناك مع زوجي وأبنائي وتعرفت إلى شخص ينتمي لنفس عائلة أمي ودعانا لبيته. الأمر كان أشبه بالحلم”.