ليتم وضع اسمك على قوائم التنسيق الأمني، يتوجب عليهم دفع مبلغ يتراوح بين 1800 دولار أمريكي و3000 دولار. لا يُعرف على وجه التحديد إلى أين تذهب تلك المبالغ، لكن الجميع يتحدث عن أن الجزء الأكبر منها يذهب إلى ضباط المخابرات المصرية الذين يقومون بتخليص الموافقة الأمنية على العبور.
أطفال فلسطينيون يلوّحون بأيديهم من داخل إحدى السيارات المحملة بالحقائب أثناء رحلة عودتهم من مصر إلى قطاع غزة، عند معبر رفح الحدودي في جنوب قطاع غزة، 2019. Photo AFP
بعد الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 وحدوث الانقسام بين حركتي فتح وحماس، مما شهد وجود سلطتين إحداهما في الضفة الغربية بقيادة حركة فتح، وأخرى بسيطرة حماس على قطاع غزة، ضربت كل من حكومة إسرائيل والحكومة المصرية حصاراً خانقاً على غزة، ليتحول القطاع إلى أكبر سجن مفتوح في العالم.
يسكن غزة حوالي 1,8 مليون نسمة، يربطهم بالعالم سبعة معابر، ستة منها تُسيطر عليها إسرائيل، التي نادراً ما تسمح بعبور أشخاص أو بضائع عبرها. أما المعبر السابع فهو معبر رفح الذي يصل القطاع بجمهورية مصر العربية عبر شمال سيناء.
تسمح الحكومة المصرية لفئاتٍ معينة من أهل قطاع غزة بالعبور من المعبر عبر قوائم تنسيق يتم إرسالها من داخل القطاع إلى المخابرات المصرية للتحري عنها وإبداء الموافقة الأمنية على العبور. غالبية تلك القوائم تكون من المرضى الذين يتحصلون على طلبات من وزارة الصحة الفلسطينية لاستكمال علاجهم في الخارج. أما العدد الأقل فهو للطلاب الذين يُكملون تعليمهم بالجامعات المصرية، أو المسافرين إلى إحدى دول العالم عبر مطار القاهرة.
ففي أوائل يوليو 2019، عاد المواطن الغزيّ خليل إلى القطاع عبر معبر رفح قادماً من إحدى الدول الأوروبية حيث كان يحضر أحد المؤتمرات. استغرقت رحلته من أوروبا إلى القاهرة بضع ساعات بينما استغرقت رحلته من القاهرة إلى غزة خمسة أيام. يصف خليل المعبر بالرحلة إلى الجحيم المحقق، التي تبدأ بتقديم طلب إلى إحدى شركات السياحة التي تُعتب وسيطاً بين المواطن وبين المسؤولين في غزة والقاهرة. وليتم وضع اسمك على قوائم التنسيق الأمني، يتوجب عليهم دفع مبلغ يتراوح بين 1800 دولار أمريكي و3000 دولار. لا يُعرف على وجه التحديد إلى أين تذهب تلك المبالغ، لكن الجميع يتحدث عن أن الجزء الأكبر منها يذهب إلى ضباط المخابرات المصرية الذين يقومون بتخليص الموافقة الأمنية على العبور.
على الرغم من أن الغرض الرئيسي لقوائم التنسيق هو تسهيل عبور الغزيين من المعبر، إلا أن اجتياز المعبر جزءٌ كبير من المعاناة، بحسب ما يقوله خليل. ويُكمل خليل قائلاً “إجراءات التفتيش ومراجعة الأوراق على المعبر من المفترض أن تستغرق بضعة دقائق، إلا أنها فعلياً تتراوح بين 15 ساعة ويومين، حيث يُطلب منا التواجد في المعبر صباح اليوم المتفق عليه، وتظل في انتظار إتمام الإجراءات مُلقى على الأرض التي ستفترشها وتنام عليها حتى تأتي اللحظة الموعودة ويتم الموافقة على بدء إجراءات التفتيش، وهي الفترات التي تتعرض خلالها إلى معاملة الضباط والجنود المصريين، الذين على الرغم من تحسن معاملتهم مؤخراً لا يزال البعض منهم يسيئون معاملتنا وإبراز بغضهم وكراهيتهم للفلسطينيين. بينما هناك آخرون تكون معاملتهم بكامل الود، وهناك مجال لتسهيل عملية العبور عبر نفس الوسيط الذي وضع اسمك على قائمة التنسيق بزيادة المبلغ الذي ستدفعه، ولكن لا نخاطر أبداً بمحاولة الرشوة أو الجدال مع أحد داخل المعبر خوفاً من بطشهم ومنعنا من العبور، ولكن لا شيء يضمن لك العبور بنسبة مائة بالمائة، فمن الطبيعي جداً أن تأتي الموافقة ويدون اسمك على القوائم ثم تُمنع من العبور دون أسباب!!”
يلجىء الكثير من أهل القطاع إلى معبر رفح ومحاولة تجنب المعابر الإسرائيلية أملاً في مرور بعض المتعلقات أو البضائع أو الهدايا التي لا تسمح بها إسرائيل، إلا أنه في كثير من الأحيان لا يختلف الوضع كثيراً في معبر رفح، حيث يتم مصادرة كثير من الهدايا والمتعلقات يروي لنا شادي، أحد شباب القطاع الذين اجتازوا المعبر مؤخراً “في كثير من الأحيان تخضع سياسة العبور إلى أهواء الضباط المصريين، فأحياناً يتم السماح بجلب بعض الهدايا مثل السجائر وأحياناً يتم مصادرتها، وفي إحدى المرات تم مصادرة إطار ومرآتين كنت قد جلبتها لدراجتي النارية، على الرغم من وجود امتلاكي للفاتورة وعدم وجود مانع رسمي من إدخالها. وبالطبع هناك قرار إسرائيلي بمنع دخول أي قطع غيار للدراجات النارية عبر معابرهم، ولكن من المفترض أن هذا القرار لا يخص السلطات المصرية، إلا أن الضابط رفض وتمت مصادرتها مني.”
وبعد العبور من معبر رفح تبدأ المرحلة الثانية من المعاناة والذل، فبينما تحتاج المسافة من رفح وحتى القاهرة 6 ساعات فقط، تستغرق بين يوم ونصف ويومين، أما الرحلة العكسية من القاهرة وحتى رفح فتتراوح بين 3 أيام و11 يوماً وفق شهادات مختلفة لسكان القطاع. ويُنفق الجزء الأكبر من هذا الوقت داخل النقاط الأمنية على طول الطريق، بحسب خليل. وكما يقول خليل “هناك 18 كمين ونقطة أمنية يُصر الضباط في كل واحد منهم على إفراغ محتويات جميع الحقائب وتفتيش الركاب تفتيشاً ذاتيا دقيقاً، على الرغم من أن نفس الإجراء تم في النقطة السابقة ولكن هناك إصرار غير طبيعي، وهو ما يجعل هناك تكدس على تلك النقاط بالساعات الطويلة تتراوح وفق قدرك ونصيبك.”
وبجانب كل تلك الإجراءات قد لا يسلم المسافر من بعض التعنت والتنكيل، فيحكي لنا شادي أنه في إحدى المرات كان أحد الشباب يقوم بتصوير تكدس الناس والسيارات أمام العبارات التي تنقلهم من شرق إلى غرب قناة السويس، فأوقف الضباط جميع العبارات وأصّروا على تفتيش جميع الهواتف النقالة التي بحوزة جميع الموجودين، بجانب احتجاز والتعدي على الشاب الذي كان يقوم بالتصوير، وهو ما استغرق يوم كامل أُضيف إلى أيام المعاناة.
تلك الإجراءات السابقة هي الروتين الدوري لسكان القطاع للعبور إلى القاهرة. أما إذا كان سبب دخول مصر هو السفر إلى دولة أُخرى عبر مطار القاهرة فهناك معاناة جديدة، حيث يتم مرافقة الغزيين من قِبل أحد عساكر المخابرات المصرية إلى مطار القاهرة، حيث يتم التفتيش من جديد وإيداع المسافر زنزانة بحجز المطار حالتها شديدة السوء وليس بها منفذ هواء ولا أي من أغراض الراحة دون أغراض أو هاتف أو أي شيء، ويظل بهذه الغرفة حتى يحين موعد طائرته.
يخضع معبر رفح إلى كثير من المحددات السياسية والأمنية، حيث يتم فتحه وفق الظروف الأمنية لكلا الطرفين وحالة القرب السياسي بين الحكومة المصرية وحكومة حماس. ووفق رصدٍ في السنوات الأخيرة، فإن عدد أيام فتح المعبر عام 2015 بلغت 32 يوماً فقط، أما في 2016 فبلغت 41 يوماً، بينما في عام 2017 فبلغت 29 يوماً.
وفي حالاتٍ أكثر تطرفاً، تعرض عدد من سكان غزة إلى الخطف أو الإخفاء القسري من جانب المخابرات المصرية على خلفية انتماءات بعضهم السياسية. كان أشهر تلك الحوادث ما تم لأربعة من الشباب في 19 أغسطس 2015، والذين كانوا في طريقهم إلى مصر من أجل العلاج والدراسة في الخارج. وتحدثت مصادر فلسطينية عدة عن بلوغ إجمالي المختفين من المعبر إلى 15 شخصاً، وبعد انكارٍ من السلطات المصرية لسنواتٍ طويلة مع تجنب الفصائل الفلسطينية الحديث عنهم إعلامياً خشية التوتر مع الحكومة المصرية، أفرجت مصر في شهر فبراير 2019 عن ثمانية بينهم الأربعة السالف ذكرهم والذين اتضح علاقتهم بكتائب القسام، الذراع العسكري لحركة حماس. جاء إطلاق سراحهم وسط التقارب السياسي والأمني بين الحركة والنظام في القاهرة.
دفع الحصار الخانق داخل غزة الآلاف من سكان القطاع إلى الخروج وعدم العودة مرة ثانية، حيث تجاوز عدد أولئك الذين دخلوا مصر ولم يعودوا إلى القطاع خلال عام 2018 الـ35 ألف فلسطيني، بينهم 150 طبيب، بينما يعيش المليون و800 نسمة، ممن لا يستطيعون أو لا يرغبون في مغادرة القطاع، على أمل تحسن الأوضاع أو اتخاذ خطواتٍ للسماح لهم بمزيدٍ من الوصول إلى العالم الخارجي.