على مدى عقود والمملكة العربية السعودية تعاني من القحط بسبب طبيعتها الجغرافية وبسبب طبيعة المشهد الفني كذلك. فغالبا ما يشار إلى الفن في العالم الإسلامي خطأ بأنه فن إسلامي وأداة، إذا جاز التعبير، لخدمة الدين الإسلامي. وهو في الواقع أشبه ما يكون بفن العمارة الذي ازدهر خلال فترات الحكم الإسلامي، كما هو الحال بالنسبة لمغاربة اسبانيا أو مغول الهند. وهناك العديد من الأمثلة على تطور فن العمارة الإسلامية عبر التاريخ، كتاج محل في مدينة أغرا الهندية — وهو ربما المعلم الأكثر شهرة — والذي بني بإمكانيات فنية لا مثيل لها قاومت تقادم الزمن حتى يومنا هذا.
ومع ذلك، غابت تلك الإبداعات الفنية لعقود من الزمن في السعودية، والتي تعتبر مهد الإسلام. إلا أننا لمسنا في الآونة الأخيرة بعض التقدم في العروض الفنية العامة وبعضا من التقدير للفنون التقليدية في السعودية. ولفهم الأسباب الحقيقية وراء ذلك، لا بد من أن نعود بالزمن خطوة الى الوراء.
فبعد سنوات الطفرة النفطية في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، شهدت المملكة العربية السعودية الكثير من الاضطرابات والتفكك الاجتماعي والأسري. حيث صعدت في تلك الحقبة قوة مؤثرة ومتشددة داخل مؤسسة التعليم السعودية تنكرت لكل ما له علاقة بالفن والموسيقى والدراما. ويعتقد أتباع هذا التيار المتشدد أن تلك الفنون لا تتوافق مع تعاليم الدين الإسلامي وأنها من عمل الشيطان.
وقد أدار العديد من هؤلاء الأفراد شؤون وزارة التربية والتعليم وحصروا المناهج التعليمية بالمواضيع الدينية والعلمية. يذكر أن ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فيصل بن عبد العزيز قد تصدى للمؤسسة الدينية المتزمتة في فترة الستينيات. وكشكل من أشكال التحدي، قام الأمير فيصل بافتتاح أول مدرسة للبنات في المملكة. وعلى الرغم من أن الأمير فيصل كان في نظر الكثيرين رجل إصلاح وملكا محدثا، كان يتمتع بذكاء حاد مكنه من معرفة الحد الذي يمكن فيه المناورة مع المجتمع القبلي المغلق في السعودية. إلا أنه سمح للجناح المحافظ في البلاد بوضع يده على مناهج تعليم البنات كحل وسط ، وهو ما كانت له تداعيات بعيدة المدى حتى بعد وفاته بفترة طويلة.
ورغم ظهور الطفرة النفطية في المملكة، لم يكن هناك أي تشجيع يذكر لأي من أشكال الفن كالرسم أو الموسيقى أو الرقص لثلاثة عقود متتالية. حيث كان ينظر إلى الفنون بأنها محفزات لارتكاب المعاصي؛ على الأقل هكذا كان يغرس في أذهان كثير من طلاب المدارس الحكومية. وفي الوقت الذي كانت المملكة المنغلقة على ذاتها تشهد بعض الانفتاح، كانت العقول المسيطرة على الأجيال المتعاقبة من طلاب المدارس أكثر تزمتا وانغلاقا من أي وقت مضى، كما بدأ حينها الفصل بين الذكور والاناث في المدارس اعتبارا من الصف الأول الابتدائي.
ولا يزال السعوديون يتذكرون الجدل الكبير الذي دار في ثمانينيات القرن الماضي عندما أحضر محافظ جدة، وهي المدينة الأكثر تطورا في البلاد، بعض المنحوتات إلى إحدى المعارض السعودية، حيث أثار ذلك الكثير من الغضب والاحتجاج من قبل المحافظين، وجرى إزالة بعض القطع الفنية من المعرض لأنها كانت تجسد كائنات حية. لم يجرؤ الأفراد العاملون في أي من أشكال الفن إبراز مواهبهم للجمهور. في مثل ذلك الجو المتوتر.
حتى أن الآباء والأمهات في السعودية ممن كانوا يرغبون بإضافة بعض المواد إلى المناهج الدراسية لم يكن باستطاعتهم الاحتجاج على الوضع السائد آنذاك، إلا أن مأساة كبيرة بدأت تغير في ذلك الواقع. ففي عام 2002، شب حريق في مدرسة للبنات في مكة المكرمة أثارت غضبا عارما ضد التزمت الأصولي داخل النظام التعليمي. فقد تسبب الحريق بوفاة 15 فتاة كان سببه المباشر هو رفض هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في البلاد السماح للفتيات المحتجزة بمغادرة مبنى المدرسة دون ارتداء كامل ملابسهن. الأمر الذي أثار سخطا شعبيا وجدلا كبيرا نتج عنه محاولات لكبح جماح المؤسسة الدينية في البلاد.
وساهم صعود الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى السلطة في شهر آب من عام 2005 في تآكل صلاحيات المؤسسة الدينية في البلاد، حيث طلب من وزارة التعليم على سبيل المثال إجراء مراجعة شاملة للمناهج الدراسية واستحداث موضوعات وأساليب حديثة في التدريس. وبدا فجأة بأن الفجوات تتقلص وبدأ الفنانون بعرض أعمالهم الفنية في المعارض الناشئة بعد أن كانت تعرض سرا.
بدأ المشهد الفني في السعودية ينتعش شيئا فشيئا من خلال إقامة معارض الرسومات والشعر والتصوير والموسيقى وما إلى ذلك. وبدأت أعمال فنانين وفنانات سعوديات مثل هيفا المنصور تكتسب اعترافا دوليا. فهيفا على سبيل المثال قامت بتأليف وإخراج فيلم “وجدة،” والذي يحكي قصة فتاة كانت لديها رغبة شديدة في امتلاك دراجة هوائية. حيث عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي عام 2012 ولقي استحسانا كبيرا على مستويات عالمية. كذلك قامت المخرجة السعودية فايزة أمبا بتأليف وإخراج فيلم مدته 44 دقيقة بعنوان “مريم،” والذي أنتج باستخدام استوديو سينمائي سعودي وتم تصويره في فرنسا. حيث تدور أحداث الفيلم حول الفتاة (مريم) المولودة في فرنسا لأبوين عربيين.
كما بدأت صالات العرض واستوديوهات السينما ودورات تعليم الموسيقى بالعمل في العلن بعد أن تحرر أصحابها من قيود المجتمع. ففي شهر حزيران من عام 2015 عرضت الفنانة السعودية فاطمة عمران لوحاتها داخل استوديو ضمن مجموعة كبيرة من اللوحات والمنحوتات العالمية. وحتى العائلة المالكة في السعودية فقد نالها نصيب من تلك الطفرة الفنية. فالأميرة ريم الفيصل، حفيدة الملك فيصل بن عبد العزيز والتي كانت تهوى التصوير وجرى عرض أعمالها التصويرية في العديد من دول العالم، شعرت بارتياح كبير وهي تعرض صورها علنا داخل المملكة العربية السعودية.
كما أظهر آخرون من عشاق الفن في المملكة مواهب فنية متعددة من خلال مسابقات سنوية لرسم الجداريات وكتابة الشعر والقصص وما شابه ذلك. في المقابل أنشأ اثنان من رجال الأعمال موقعا الكترونيا تحت مسمى SaudiArtGuide لإرشاد الفنانين المهتمين إلى مختلف المعارض المقامة في أرجاء المملكة. وفي بداية شهر تموز من عام 2015, أقيم لمدة أسبوع كامل معرض فني في جدة بمشاركة أربعة عشر صالة عرض من منطقة الشرق الأوسط وذلك لإبراز المواهب المحلية والإقليمية.
لقد تم كسر الحاجز بالفعل. وحسبما تقول فاطمة عمران، “فقد شعرنا في البداية بأن كل ما نقوم به هو بمثابة الخدش على الحجر ليس إلا. لم يكن بالأمر السهل، لكننا الآن نرى مدى تفاعل الناس من حولنا. أصبحت جدة الآن ملتقى للفنون.” لقد سقطت اخيرا القيود التي كانت تفرض على الفنان السعودي والتي كانت تحد من حريته في ممارسة العمل الفني.