وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

موسيقى الأندرجراوند في مصر: استقلالٌ بثمن

بعد حوالي ستة أشهرٍ من التأخير، أحيت الفرقة المصرية كايروكي أخيراً الحفل الذي طال انتظاره في مايو 2018، حيث أقيم الحفل في مركزٍ تجاري على مشارف القاهرة تحت حراسةٍ مشددة، كما اصطفت شرطة مكافحة الشغب على طول طريق مدخل مواقف السيارات. وكانت عربات الشرطة متوقفة خارج الأسوار المحيطة بالجمهور، وكان بإمكان المجندين الذين كانوا داخلها إلقاء نظرةٍ على الحشود من خلال النوافذ المسيجة.

حققت فرقة كايروكي، وهي فرقة مستقلة (أندرجراوند) تأسست عام 2003، شهرتها في الفترة التي تلت ثورة يناير 2011. تعكس العديد من أغانيهم الوضع في البلاد في ذلك الوقت، فقد أصبحت أول أغنية لهم والتي حملت عنوان صوت الحرية، التي أنتجتها بالاشتراك مع فرقة وسط البلد، النشيد غير الرسمي للثورة.

وفي حين تم منع الفرقة من أداء عددٍ من أغانيهم، تم تقديم أغنية صوت الحرية في حفل مايو 2018. فقد غنى أمير عيد، المغنى الرئيسي في الفرقة، مقاطع الكورس فقط والتزم الصمت في الأبيات الأخرى، بينما ردد الجمهور، ما لا يقل عن 10 آلاف شخص، بما في ذلك العديد من المراهقين الصغار الذين لم يشاركوا بنشاطٍ في الثورة، باقي كلمات الأغنية.

ومن السهل أن يدرك المرء لمَ ترى الدولة المصرية، التي تنفر، تقريباً، من جميع أشكال المعارضة أو العصيان المدني، تهديداً في مثل هذه التجمعات الضخمة.

ومن السهل أن يدرك المرء لمَ ترى الدولة المصرية، التي تنفر، تقريباً، من جميع أشكال المعارضة أو العصيان المدني، تهديداً في مثل هذه التجمعات الضخمة.

فمنذ حفلة سبتمبر 2017 لفرقة مشروع ليلى، التي أثارت ضجةً برفع علم قوس قزح المرتبط بحقوق المثليين، وحملة القمع اللاحقة التي طالت مجتمع المثليين، بات الحصول على تصاريح لإقامة حفلاتٍ موسيقية ضخمة أكثر صعوبة.

تم إلغاء حفلة كايروكي عدة مرات في أواخر عام 2017 وبداية عام 2018. وتم إلغاء مهرجان موسيقي آخر في أواخر عام 2017، يضم فرقاً بما في ذلك فرقة السبعة وأربعين (47 Soul) الأردنية الفلسطينية. كما لم منعت لجنة الرقابة أربع أغانٍ من أحدث ألبوم كايروكي، مما أجبر الفرقة على إصدار ألبومها عبر الإنترنت فقط.

فرقة أخرى نجحت في تحقيق شهرةٍ في المشهد الموسيقي المصري هي فرقة مسار إجباري من الإسكندرية. تعتبر الفرقة أقل تطرقاً للسياسة من كايروكي، إلا أنهم عادةً ما يستعرضون المشاكل الاجتماعية في كلمات أغانيهم. يُشير إسم الفرقة إلى إملاء المجتمع على الفرد مسار حياته.

فقد قال لنا في فَنَك عازف الكيبورد في الفرقة، أيمن مسعود، “تذهب إلى المدرسة، وتدرس، وتعمل، وتتزوج، وتنجب أطفالاً.” وأضاف عن تنميط أسلوب الحياة “يجب أن تكون ضابطاً أو طبيباً أو مهندساً وأن تشبه الآخرين.” وتابع القول “إذا ما قابلت والد الفتاة التي تحبها وأخبرته أنك تلعب التنس أو أنك مصوّر، سيقول لك إذهب بعيداً وافعل ما تشاء. إذا ما كنت تعمل في مصرف، فهذا جيد.”

تتحدث أغنية “مساومات” في آخر ألبوم فرقة مسار إجباري، والتي تم إطلاقها في ديسمبر الماضي، عن كون الحياة مليئة بالتنازلات، إلى أن تدرك أنك عشت حياتك برمتها وأنت تساوم إلى الحد الذي لم تعد تعرف فيه نفسك. تستعرض الأغنية قصصاً شخصية لأعضاء الفرقة، وكما يقول مسعود “كان لدينا حلم منذ عام 1992، أن نصبح فرقةً مثل داير سترايتس أو بينك فلويد. ولكن اضطررنا إلى اتباع القوانين وشكلنا الفرقة في عام 2005 فحسب.” وفي عام 2011، قرر ترك وظيفته والتركيز بشكلٍ كامل على الموسيقى، إذ قال “كان الأمر صعباً حقاً، قال والداي أني مجنون، ثم عرفت أني أسير على الطريق الصحيح.”

أصبح الحلم حقيقة، “بدأنا العزف أمام 12 شخصاً، واليوم أصبح لدينا جمهوراً يبلغ 30 ألف شخص.”

ومع ذلك، واجهت فرقة مسار إجباري أيضاً مشاكل بالحفلات الكبيرة، وبحسب مسعود “عليك الإلتزام بالعديد من الخطوات، وهذه ليست وظيفتنا كموسيقيين.” وأضاف، تم إلغاء إحدى الحفلات إلا أن البقية سارت بشكلٍ جيد.

يؤمن مسعود بأن نجاح الفرقة يكمن في أن الجميع يستطيعون إيجاد علاقةٍ شخصية بكلمات الأغاني، “حلمٌ يهرب منك ولا تستطيع اللحاق به- هذا أمرٌ يهم الجميع.”

إلا أنه شهد تغييراً إيجابياً في المواقف الاجتماعية منذ الثورة، “بدأ الناس يرون الأشياء بطريقةٍ مختلفة، تركوا الوظائف ليصبحوا مصورين أو اتجهوا إلى عالم الموسيقى. رأى الناس أشخاصاً اعتبروهم قدوة وبدأوا بتقبّل مسارٍ مختلف. أصبح مقبولاً أكثر أن تكون مختلفاً.”

وأضاف “يحفظ المراهقون كلمات جميع أغانينا، وتغني الكثير من الفرق أغانينا، يمنح هذا الأمل [لموسيقى الأندرجراوند].”

ومع ذلك، لا يزال العمل كفنانٍ في مصر يُمثل تحدياًـ فقد قررت عازفة الأكورديون والملحنة والمغنية يسرا الهواري أن تقوم بتمويل أول ألبومٍ مسجل لها وعدم التعاون مع شركة إنتاجٍ لتبقى مستقلة والاحتفاظ بالسيطرة على خياراتها الفنية.

نجحت في ذلك، إلا أن بيع الألبوم في المتاجر سبب لها متاعب جمة. فبعد أن تخطت لجنة الرقابة، توجب عليها الحصول على العديد من التصاريح لكل أغنية تمنحها حقوق التوزيع. وبما أن الهواري مُلحنة ومغنية وموسيقية، توجب عليها أيضاً الحصول على تصاريح لتحصل على حقوقها الموسيقية، إذ قالت لفَنَك “تتطلب كل أغنية ثلاثة تصاريح تبلغ قيمة كلٍ منها 350 جنيه مصري (20 دولاراً). أي لألبوم يضم 12 أغنية، تحتاج إلى أكثر من 12,000 جنيه مصري.”

يصف العديد من المعجبين أغاني الهواري بأنها مبهجة، ولكن عادةً ما تكون مبطنةً بجانبٍ مظلم، إذ قالت: “لا أعتبر أغانيّ مبهجةً قط.” تتحدث أغنية “ببتسم،” عن فتاةٍ تواصل الابتسام على الرغم من المخاوف التي عاشتها وألمها الداخلي. العديد من أغاني الهواري تتطرق إلى كفاحات الحياة، إذ تقول “أنا أكتب عن ما أعتبره في هذه اللحظة أكبر مخاوفي،” وتابعت القول “حياتي، والصراعات، والتعامل مع القاهرة.”

بالنسبة لها، لا يتعلق الفن ببث رسالة بل هو وسيلةٌ للتعبير، “أغاني قريبة من شخصيتي وطريقتي في التعامل مع الأمور.”

وإلى جانب إصدار الألبوم، يمثل تقديم العروض تحدياً للفنانين الجدد أيضاً، وفي هذا الصدد، تقول الهواري “هناك العديد من القيود.” وأضافت “يتطلب تنظيم حفلٍ موسيقي الكثير من التصاريح، وهي مكلفة للغاية. يجب أيضاً أن تكون عضواً في نقابة الموسيقيين من أجل تقديم العروض.” وقد يكون من الصعب الانضمام إلى عضوية النقابة، حيث أوضحت الهواري “يمكنني الحصول بسهولة على عضوية كموسيقية، ولكن الحصول على عضويةٍ كمغنية هي الأصعب. المغني يحمل الميكروفون ويتحدث للجمهور.”

ومن ثم تأتي الضرائب: 25% من أسعار التذاكر، وهي نسبة مرتفعة لحفلات الفنانيين الجدد تماماً كما هو حال الحفلات التجارية الضخمة. “هذا ليس عدلاً،” بحسب الهواري التي أضافت “من المفترض أن تدعم وزارة الثقافة والنقابة المشهد الموسيقي، ولكنهم يفرضون قيوداً بدلاً من ذلك.”

يرى مسعود أن المشكلة ذاتها تواجه الفرق الجديدة، “هناك الكثير من الفرق في الإسكندرية، لكن ليس لديهم أي فرصة لتقديم العروض. يتطلب الأمر الكثير من الأعمال الورقية، ويجب أن تكون عضواً في النقابة. الفكرة جيدة لكن لا يجب فرضها.”

إن متطلبات العضوية تحد من الأماكن النادرة بالفعل التي يمكن للفنانين تقديم عروضهم فيها. تُقدم الهواري حفلاً واحداً شهرياً، الأمر الذي لا يعدّ كافياً لتكسب رزقها، “لا أجني المال في مصر، فقط من الجولات في الخارج.”

بل يمكن أن يصبح تقديم العروض في مصر أكثر تعقيداً، إذا ما دخل قرارٌ تمت الموافقة عليه في يوليو 2018 حيز التنفيذ. ووفقاً للقرار، شكلت مصر لجنةً دائمة لتنظيم ومنح التراخيص للمهرجانات. تضم اللجنة ممثلون عن وزارات الثقافة والداخلية والخارجية والطيران المدني والسياحة والآثار والتمويل والشباب والرياضة والتنمية المحلية.

وبحسب ما قاله طارق الشناوي، وهو ناقدٌ سينمائي لمدى مصر، “إن وجود وزارة الداخلية يعني أن الفنون ستخضع لتفحص عدسة الأمن، وهو أمر غير مبرر تماماً. يضعنا هذا القرار في موقفٍ خطيرٍ للغاية.”

وبموجب القرار الجديد، تتطلب إقامة حفلٍ موسيقي ما يصل إلى ثمانية تصاريح. وينص القرار أيضاً على أن لوزير الثقافة الحق في إلغاء مهرجان ما إذا كان الحدث “يشوه سمعة مصر.”

وعليه، كتبت المؤسسة المصرية لحرية الفكر والتعبير: “لا يمكن فهم هذا القرار بمعزل عن الهجوم المستمر على الإبداع.”

وقالت الهواري “عندما أرى الأماكن والفرص [للفنانين] عندما أسافر، أشعر بالحزن.” وأضافت “هناك أيضاً تحدي الموسيقى غير التجارية مقابل الموسيقى التجارية، ولكن لديهم على الأقل المساحة، مساحة للتنفس.”

وعلى الرغم من هذه التحديات، إلا أنها لا تكفي لتجبرها على مغادرة مصر، إذ تقول “لا تزال القاهرة المكان الذي يُلهمني، لا أعرف ماذا أفعل حيال ذلك. إنها مدينة تزخر بالتناقضات، مما يُثر التساؤلات.”