وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أصحاب ولا أعز بين الكوير والجندر والمعايير المزدوجة

أصحاب ولا أعز
تُظهر هذه الصورة التي التقطت في 23 يناير 2021 في القاهرة هاتفًا يعرض مشهدًا من الفيلم العربي الذي أنتجته نتفليكس “أصحاب ولا أعز” (غرباء مثاليون). خالد دسوقي / وكالة الصحافة الفرنسية

يوسف شرقاوي

يحيلنا الفيلم العربي الجديد “أصحاب ولا اعز”، الذي تمّ عرضه يوم الخميس الماضي على منصة البثّ التدفّقي الأميركية «نتفليكس»، إلى عددٍ غير محصور من الأسئلة في قضايا الجندر واصطلاح الكوير – بين تاريخيّته والتمثّلات التي شهدها في الساحة العربيّة – كما يتيح لنا قراءة مقارناتيّة بين النظرة الذكورية male gaze، والنظرة النسويةfemale gaze ، وغيرها من الأسئلة حول حريّة المشاهدة وتصنيف الأفلام وتغيّر علاقة الجمهور بالسينما وتفضيله معايير أخلاقيّة على معايير فنيّة.

بين النظرة النسويّة والذكوريّة

اتّفق البعض بسخرية مريرة على أنّ الفيلم يهدّد بالفعل حالة عربيّة دائمة، هي حالة النكران السائدة منذ عشرات السنين في العالم العربي، نكران الممارسات الدوريّة في المجتمع، حيث لا يوجد في الفيلم “تحرّش، ولا اغتصاب، ولا اغتصاب زوجي، ولا زواج مبكّر، ولا سلب لحقوق النساء، ولا تعنيف، ولا قتل، ولا تنمّر، ولا ذكوريّة مطلقة”، كما يجيء في منشور للمنصة السوريّة عبر فيسبوك “طاولة”.

بمعنى آخر، إنّ وجود كيان نسويّ – أنثويّ – ذي إرادة حرّة، غير خاضع للهيمنة الذكوريّة المطلقة، ولا يخنع للخطاب الذكوريّ، ويرمي بعرض الحائط بقانونَين سادا السينما العربيّة لزمنٍ طويل، هما: “المرأة كصورة، والرجل كحامل للنظرة”، و”الشاشة أنثى، والمشاهد ذكر”، إنّ هذا كلّه لم يجعل الانتقادات تطال فقط الشخصيّة التي تلعبها الممثّلة المصريّة منى زكي في الفيلم، بل تعرّضت هي وزوجها لحملة شعواء في مواقع التواصل الاجتماعي، وصلت إلى المطالبة بالمقاضاة القانونيّة.

لقد أهمل الفيلم “متعة المشاهدة” الذكوريّة، التي اعتيد عليها في السينما العربيّة. بمصطلحٍ آخر، أهمل سيكولوجيا شبق النظر “سكوبوفيليا”، من خلال تصوير المرأة ككيان حر، قادر على الاختيار، غير خاضع للهيمنة. أُهمِلَت النظرة الذكوريّة التي رفضت أن ترى في المرأة – في أغلب الإنتاجات السينمائية – قوّة وهُويّة إنسانيّة، وأُهمِلَ كذلك المنظور الشائع للهيكليّة الأبويّة، أي أن تمثّل النساء وسائل متعة، كصورة، ولا يُراد من الإمرأة الممثّلة إلّا أن تدعم الرجل الممثّل بصرياً، وتقديم صورة البطل الذكر.

يجدر بنا العودة إلى الأصل التاريخيّ لمصطلح “النظرة الذكوريّة” التي صاغته صانعة الأفلام البريطانيّة لورا مولفي، في مقالتها الشهيرة “المتعة البصرية والسينما الروائية” المنشورة سنة ١٩٩٩، وتضع فيها جملة أفكارها عن النظرة الذكوريّة كما تراها في ضوء التحليل النفسي. عبّرت مولفي في مقالتها عن عدم توازن القوى بين الرجل والمرأة في الأدب والفن كما في المجتمع والسياسة، وذلك من خلال تقديم النساء في الفنون المرئية والمكتوبة من منظور ذكوريّ، يستخدم المرأة بتشئ مطلق، أي كأداة جنسية لمتعة المشاهدين الذكور.

ثمّة أمثلة كثيرة من السينما العربيّة يمكن سوقها للدلالة على هذه النظرة، نذكر منها واحداً هو الفيلم المصري “التجربة الدنماركيّة”.

يمكن القول إنّ هذا الانقلاب على النظرة السائدة، في فيلمٍ عربي، هو ما أثار حملة الانتقادات، إلى جانب أسبابٍ ثانية، كما يمكن طرح سؤالٍ بسيط يبيّن المفارقة، وذلك عن المشهد الذي كان له نصيبه الأكبر من الانتقادات، مشهد خلع الشخصية التي تؤديها الممثّلة منى زكي لسروالها الداخلي: هل لو انقلب الجندر/ جنس الممثل، تنقلب النظرة؟ يمكن تبيّن ذلك، أي النظرة الذكوريّة، في عرض انتقادات سابقة لأعمال ليست قديمة. الانتقادات التي تطال الممثلة في مشهد قبلة، دون أن يُذكَر شريكها الممثل في المشهد، من جملة الأعمال المعروضة التي يمكن ذكرها في الآونة الأخيرة، المسلسل السوري “شارع شيكاغو” ومشهد القبلة بين سلاف فواخرجي ومهيار خضور.

تنعكس النظرة الذكورية، على الطرف الآخر، في إهمال كل الشخصيّات الذكوريّة في الفيلم، وعدم التعليق على أفعالها وتصرّفاتها في الحدث الفيلمي، ودون محاكمة أيّ فعلٍ يصدر عنها، ضمن الحيّز الأخلاقي. سواء في الشخصية التي يؤديها الممثل اللبناني عادل كرم، وقد خان زوجته مع امرأتين، أو شخصيّة إياد نصار الذي يخون زوجته أيضاً مع فتاة صغيرة، فيما يتم محاكمة لا أفعال الشخصيات التي تؤديها الممثلات، بل الممثلات أنفسهنّ.

قضيّة الكوير والمعايير التي تتغيّر

عُرِّب هذا المصطلح”queer” ، وأُردِف بشروحاتٍ مختلفة: قد يُعرَّب أحياناً بـ”الغريب” أو”الخارج”. أمّا في سياقاتٍ أكثر صوابيّة، قد تتحوّل كوير/كويريّة في اللغة العربية إلى “حرّ/ة-الجنس”، “غير-المنصاع/ة للمعايير”، “اللّانمطي/ة”، “اللّا-معياري/ة”، واليوم يُستخدَم كمرادف لمثليّي الجنس.

إذا عدنا إلى أفلام السينمائي المصري العالمي “يوسف شاهين“، وجدنا بين القضايا التي تتطرّق إليها، قضيّة “المثليّة الجنسيّة”، برؤية مغايرة عن الطرح المزامن له من قِبَل آخرين، إذ طرح شاهين شخصيّة الإنسان المثليّ شخصيّةً سويّة، لا فصاميّة أو شاذّة أو مريضة كما طرحها غيره، ويقترب شاهين بذلك من عرض هذه الشخصيّة في فيلم “أصحاب ولا أعز”، سواء كان ذلك في فيلمه “الناس والنيل” ١٩٦٤، أو فيلم “إسكندرية.. ليه؟” ١٩٧٩، وفيلم “إسكندرية كمان وكمان” ١٩٩٠، الذي طرح شاهين قضية المثليّة فيه ضمن الخط الرئيسيّ لأحداث الفيلم.

تمّ ذلك كلّه دون أن يخرج نائب مصري ببيان لمجلس النواب يتّهم فيها واحدا من الأفلام بالتحريض على المثليّة، كما حدث مع “أصحاب ولا أعز”. يأتي ذلك في جملة من المتغيّرات التي طرأت على علاقة الجمهور بالسينما، وكيفيّة التلقّي.

تنقسم علاقة الجمهور بالفيلم السينمائيّ إلى عدّة مستويات، أوّلها علاقة الجمهور بالبطل. في هذه العلاقة وفقاً للناقد الألماني هانز روبرت ياوس، ثمّة ستة أنماط: التقمّص، الإعجاب، المقارنة، التعاطف، النفور، والحياد.

أما المستوى الثاني فهو علاقة الجمهور مع الحدث الفيلمي، وتنقسم إلى خمسة أنماط كما يجيء في كتاب نوّار جلاحج: “سلطة السينما، سينما السلطة”. هذه الأنماط هي: التأمّل، التخيّل، التذكّر، الإثارة، واللامبالاة.

لم يُذكَر ضمن مستويات علاقة الجمهور بالفيلم، أي علاقة أخلاقيّة، أي أن يحكم الجمهور على الأخلاقيّات التي يطرحها عملٌ سينمائي، وينتقد الأشكال التي يقدّمها، دون ذكر أي معيار أو عنصر فني.

في حقبة سينمائيّة مصريّة سابقة، انقسمت بين “نادية الجندي “نجمة الجماهير”، و نبيلة عبيد “نجمة مصر الأولى“، وعادل إمام “الزعيم“. قدّم هذا الثلاثي تحديداً سينما خالية من المعايير الأخلاقية في زمن ما قبل التصنيف الرقابي العمري للمشاهدة، ولم يُصب الرأي العام بتشنّجات أمام قبلات عادل إمام لزميلاته ولا مشاهد نبيلة عبيد فوق أسرّة السينما، كل هذا في أوج “الغزو الوهابي” لمصر.

بعد هذه الحقبة سادت فكرة “السينما النظيفة” الشارع المصريّ، وصار النموذج السينمائي “يمينياً متحفظاً”، كما كان هذا النموذج بعموميّته يسيطر على الهويّة المجتمعيّة. كبُر خلال هذا المدّ لمصطلح السينما النظيفة عددٌ من ممثلي مصر، منهم أحمد حلمي ومنى زكي، وشاركا فيها. ثمّ نفت منى زكي خلال ندوة بمهرجان القاهرة السينمائي العام الماضي وجود سينما نظيفة أو محترمة، وقالت إنّ المنتجين هم من روّجوا لهذا المصطلح وأطلقوا على جيلها هذا المسمّى لأهداف تجارية.

هذه التغيّرات التي تجيء في المصطلحات، تمتدّ لتشمل علاقة الجمهور بالسينما والممثل على حدٍّ سواء، خاصةً في اشتباك الممثّل مع الجمهور الذي أتاحته الميديا في الأيام الحالية.

تمتدّ طبيعة التلقّي أيضاً وآليّاته من قِبَل الجمهور، لتشمل الهويّة المجتمعيّة والوضع السياسي السائد، وطبيعة النظامين السياسي والاجتماعيّ ومدى انحيازهما إلى جهة من الجهات.

هذا، في واحدٍ من الاحتمالات، ما يمكن أن يبرّر انفصاميّة التلقّي بين أفلام يوسف شاهين وقضيّة المثليّة فيها، في ثلاثة عقود زمنيّة مختلفة، وقضيّة المثليّة في فيلم ظهر عام ٢٠٢٢. تبرز هذه الانفصاميّة أيضاً في فيلمٍ سوريّ ظهر حديثاً للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، حيث أثار مشهد قبلة في فيلمه “الإفطار الأخير” غضباً شعبياً، دون أن تثير مشاهد العنف والدم في أعمالٍ ذكوريّة أخرى أو في نفس الفيلم أيَّ غضب.

حريّة المشاهدة

تخضع الأفلام وغيرها من المواد اليوم لنظام تصنيفٍ عمريّ، ذلك لمساعدة الآباء على رقابة الأفكار المطروحة أمام أبنائهم، ولمواكبة التطورات العالمية وتطور سبل عرض الحقائق والأفكار، مثل النظام الذي أنشأه جاك جوزيف فالنتي عام ١٩٦٨، والتعديلات التي تطرأ في بعض البلدان العربية، مثل الإمارات التي أدرجت تصنيفاً جديداً هو +21.

في صفحة الفيلم على “نيتفلكس”، نراه مصنفاً تحت بند +16، أي لا يصلح لمن هم تحت سن السادسة عشر، ويعني أنّ الأفكار المطروحة فيه لا تناسب هذه الفئة العمريّة.

لكن، ورغم حريّة المشاهدة هذه، لجأ المشاهدون إلى الحكم الأخلاقي على الأشخاص لا على الشخصيّات، في حالة من النكران السائدة في العالم العربيّ.