يناقش هذا المقال العادات والتقاليد الفريدة لشهر رمضان في تركيا والتغيرات المتوقعة بسبب الزلزال والمعاناة التي يعيشها الشعب التركي.
دانا حوراني
رمضان هو أبرز الأشهر المقدسة عند المسلمين في أنحاء العالم، إذ يصوم فيه المسلمون عن الطعام والشراب من الفجر وحتى غروب الشمس. ويبدأ الشهر التاسع الهجري يوم 23 مارس الجاري.
ومع التشابه الكبير بين المسلمين في أنحاء العالم، في نمط استقبالهم الشهر الكريم، وممارستهم الشعائر الدينية الخاصة به، يبرز التأكيد دومًا على روح التعاطف مع معاناة الآخرين. إلا أن المسلمين الأتراك يعيشون بالفعل قدرًا كبيرًا من المعاناة والحزن خلال رمضان هذا العام في أعقاب الزلزال الأقوى الذي ضرب تركيا في 6 فبراير الماضي ، والذي بلغت قوته 7.8 ريختر وراح ضحيته 44,218 شخصًا في 10 ولايات مختلفة. وكانت كهرمان مرعش وغازي عنتاب وهاتاي أبرز الولايات المتضررة من هذا الزلزال الذي لم يشهد له مثيل منذ عام 1939.
ويشكّل المسلمون 99% من سكان تركيا، البلد الغني بعاداته الثقافية ومأكولاته المتنوعة التي تُضفي على الشهر الكريم رونقًا مميزًا . إلا أن الذين يتابعون الأخبار في تركيا، شأنهم شأن الأتراك أنفسهم، يتوقعون أن تفقد أجواء رمضان هذا العام الكثير من بهجتها المعتادة، إذ اضطُر معظم السكان في المناطق المتضررة إلى النزوح أو الإقامة في المخيمات، وهم اليوم يواجهون صعوبة في توفير احتياجاتهم الأساسية.
قال يقظان الشيشكلي، المدير التنفيذي لمؤسسة مرام للإغاثة والتنمية، لفنك: “ارتفعت تكلفة الإيجارات ارتفاعًا كبيرًا في أعقاب الكارثة، والمساعدات التي تلقيناها كانت أقل من توقعاتنا”. وأضاف الشيشكلي أن الحياة في تركيا بعد الزلزال ستختلف تمامًا عما قبله، ورمضان ليس استثناءً.
لمحة عن رمضان في تركيا
يُنطق اسم الشهر الكريم “رمزان” (Ramazan)بالتركية، وهو شهر الروحانيات وتهذيب النفس والاجتهاد في العبادة.
يتناول الصائمون وجبتين في رمضان، إذ يُفطرون مع غروب الشمس، ويتسحرون قبيل الفجر. ويتميز شهر الصيام عند الأتراك بتقاليد عديدة.
ومثلما هو حال المسلمين في أنحاء العالم، يتزاور الأهل والأصدقاء لمشاركة الإفطار في تركيا، كما تنتشر موائد الإفطار لتوفر الطعام للمحتاجين.
ومن أشهر العادات التركية “أجر الأسنان” أو (diş kirası)، وفيها يوزع الناس صررًا من العملات الذهبية أو الفضية لمن هم أكثر احتياجًا.
وترجع هذه العادة إلى التقاليد العثمانية، إذ يُروى أن السلاطين العثمانيين كان من عادتهم توزيع صرر حمراء حريرية فيها نقود ذهبية أو فضية على ضيوفهم. ولان إطعام الطعام في رمضان له ثواب عظيم، كان السلاطين يوزعون هذه الصرر من باب شكر النعمة.
كما يشيع في تركيا رد الديون عن المدينين في المتاجر التقليدية التي ما يزال أصحابها يستخدمون دفاتر الذمم. وتُسدد هذه الديون في السر دون أن يعلم صاحب الديْن نفسه من ردّ ديْنه عنه.
من ناحيتها، تتبارى المطاعم والفنادق في إحياء الليالي الرمضانية على طريقة العهد العثماني، إذ يقدّم النوادل الطعام بالأزياء التراثية، وتعزف فرق الموسيقى نغمات هادئة في الخلفية. وتأتي الوجبات عادة بجانب مشروب الشاي أو القهوة على خلفية نغمات الأناشيد الدينية.
وتزدان المآذن بزينة “المحيا“، وهي زينة من الأضواء المتلألئة على شكل عبارات دينية اشتهرت بها مساجد العهد العثماني لتضيء سماء تركيا بالعبارات الإيمانية.
يحفل شهر رمضان بمظاهر البهجة والتجمعات العائلية وزيادة العمل الخيري. إلا أن مظاهر الاحتفال بهذا الشهر يتراجع حضورها في جنوب شرق تركيا.
الحزن والفقد
في غازي عنتاب، تسترجع سيرين ألجايك، 27 عامًا، ذكريات رمضان في الماضي التي تحفل بالبهجة والأطعمة الشهية.
قالت ألجايك لفنك: “المتنزهات العامة والمراكز الثقافية في المدينة كانت تستضيف عديدًا من الفعاليات الرمضانية يوميًا، من ضمنها أنشطة الأطفال وعروض العرائس ومعارض الكتب وعربات بيع الطعام وعروض الموسيقى. كما تضمنت هذه الفعاليات الشعر والموسيقى الصوفية وعروض الطبول، والأهم من ذلك فقرات التلاوة القرآنية”.
وبينما كان يستمتع الأطفال بالعروض المسرحية وعروض خيال الظل المعروفة بعرائس كراكوز وعيواظ، كان البالغون يتابعون الفعاليات وهم يتناولون الإفطار أو السحور ويرقصون على أنغام الموسيقى الشعبية والتراثية.
وقد وصفت عمدة غازي عنتاب، فاطمة شاهين، المدينة بأنها “مفعمة بالحيوية والألوان” في تغريدة لها عام 2022، وأرفقت صورًا للجموع الحاشدة التي تجوب الشوارع المتزينة في رمضان.
وذكرت ألجايك: “أما الآن، فمعظم سكان المدينة إما غادروها وإما يبيتون في المخيمات”. وأشارت إلى أن السكان ما يزالون ينعون ذويهم من ضحايا الزلزال، ويزيد صعوبة الأمر عجزهم عن توفير متطلبات معيشتهم.
وتقول ألجايك: “اعتاد سكان المدينة التجمع إلى مائدة الإفطار في بيوت مختلفة. بينما الآن، فقد شُرد كثيرون ولا يكادون يجدون الغذاء أو المياه”.
رمضان مختلف
بينما تستعد تركيا لاستقبال رمضان بالتزامن مع حلول الربيع، تسترجع ألجايك ذكريات تجمع ربات البيوت لإعداد الطعام للفقراء قبل بدء رمضان بأسبوعين، إذ تمتلئ الموائد بخبز البيدا وشربات الفاكهة الشهير وحلويات الجلاش المعروفة، وكلها مظاهر تكاد تختفي هذا العام.
وتضيف ألجايك: “كانت المؤسسات الخيرية توزع المساعدات في رمضان بصفة خاصة، لكنني أشك في قدرتها هذا العام على مساعدة جميع المنكوبين نتيجة حجم الدمار والأضرار البالغة”.
وعلى الرغم من المساعدات التي وُزّعت بعد الزلزال، أعلنت منظمات الإغاثة والعمل الإنساني أنها ما تزال بحاجة إلى توفير مزيد من المساعدات على الأرض.
من جانبه، أعرب الشيشكلي عن قلقه نتيجة قلة موارد مؤسسة مرام وضعف ميزانيتها، مشيرًا إلى أن المؤسسة اضطُرت إلى تقليل قوافل الطعام هذا العام نتيجة توجيه الموارد لجهود الإغاثة في أعقاب الزلزال.
وأكّد الشيشكلي: “من الضروري تقديم الدعم من جميع القادرين. لا يمكننا ترك المتضررين دون توفير المتطلبات الأساسية للمعيشة، فهم يستحقون فرصة لحياة أفضل بعد هذه الفاجعة”.
وبخلاف توفير الطعام والشراب، يمثل توفير السكن مشكلة كبرى. إذ يعاني الناس البرد القارس في المخيمات في ظل غياب التدفئة خلال العاصفة الأخيرة في منتصف مارس، مع غياب أي بدائل أخرى للسكن وفقًا لألجايك. فمثلًا، تضررت الخيام في ولاية مالاطيا نتيجة حدوث فيضان في أعقاب العاصفة المطيرة.
وعلى الرغم من نزوح 1.5 مليون شخص من ولايات هاتاي وأديامان ومالاطيا المتضررة من الزلزال، فقد عاني الناجون الارتفاع الحاد في تكلفة الإيجارات في المناطق الغربية والجنوبية من تركيا بسب جشع المؤجرين واستغلالهم الطلب المتزايد على السكن.
قالت ألجايك: “أما الذين لم يغادروا، فأنا متأكدة من أنهم سيصومون ويعدون وجبات إفطار جماعية كما كان الحال في الماضي، ربما داخل الخيام الكبيرة، لكن بمقادير أقل لتقليل التكلفة”.
استرجاع الذكريات
ما يزال زينيل كوتش، 51 عامًا، يحاول استيعاب حياته الجديدة بعدما انتقل للعيش في خيمة مع أولاده السبعة في غازي عنتاب.
قال كوتش لفنك: “نادرًا ما كنا نصلي في البيت، لطالما صلينا في المسجد. وكنا دائمًا ما ندعو جيراننا لتناول الإفطار معنا. نحن مصدومون الآن ولا نعرف ماذا نفعل”.
ويقول كوتش إن 38 فردًا من عشيرته وستة من جيرانه في قرية نورداغي لقوا مصرعهم في الزلزال الأخير. أما الناجون فقد لا يتمكنون من الذهاب إلى المسجد.
وأضاف: “لطالما اقترن رمضان بالبهجة، لكن هذا العام ينعى الجميع ذويهم من الضحايا. لا أعرف كيف سأقدر على تحضير الإفطار أو السحور لأطفالي… الخيام ليست مجهزة بمواقد للطهي”.
وأوضح: “سيواجه ساكنو المخيمات مصاعب كثيرة مع التغيرات الكبيرة التي حدثت، ويجب أن نعتمد على المساعدات لنتمكن من إطعام أهالينا. لن نتمكن من تناول وجبة السحور إلا إذا استمر توزيع المساعدات لساعات السحور المتأخرة”.
أما بالنسبة لحوا إكيكولو، 35 عامًا التي تعيش مع أطفالها الخمسة ووالدتها ذات التسعين خريفًا في خيمة، فقد أصبحت الخيام مكان التجمع على الإفطار.
قالت إكيكولو: “عادةً ما كان سكان المنطقة يتجمعون بعد الإفطار لأداء صلاة التراويح كل ليلة. لكنهم سيصلون التراويح في الخيام هذا العام”.
وكما هو حال كوتش، تقول إكيكولو إن إعداد السحور سيكون الأصعب نتيجة الظروف الجوية المتقلبة في الليل وعدم توفر أدوات الطهي.
وشكت إكيكولو من ضيق الخيمة التي تقيم فيها، حيث وضعت الفرش على الأرض ولا توجد بها منضدة. وأضافت: “أنا راضية بقضاء الله، لكنني لا أدري كيف يمكنني إعداد السحور وتناوله في هذه الظروف. لكننا سنواصل ممارسة عاداتنا رغم كل شيء”.
ومع سعي العائلات من حولها للتعايش وتدبير معيشتهم اليومية، يلجأ الجميع للصلاة في انتظار الفرج.
تقول إكيكولو: “اعتدنا التجمع في رمضان لتلاوة القرآن، لكن قراءة القرآن هذا العام ستكون داخل الخيام”.
أما ألجايك فما تزال ذكريات الماضي تشغل بالها، إذ تسترجع الطوابير الطويلة أمام مطاعم الكباب وقت السحور وسط أضواء الزينة والبسمات في الشوارع؛ تلك المطاعم التي صارت من الأطلال.
وقالت ألجايك: “كان الإحساس بالمحتاجين يُذكر لحض الناس على الصيام، لكن أصبحوا هم المحتاجين الآن، وقد بلغوا من المعاناة ما بلغوا”.
شارك ماز إبراهيم أوغلو في إعداد هذا المقال