وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أنطاكيا: اندثار جوهرة حضاريّة

بعد أن اشتهرت أنطاكيا بتنوّعها الحضاريّ وغناها التّاريخيّ، أصبحت تواجه مشاقّ لا سابق لها من حيث الخسارة الأثريّة، والمادّيّة، والنّفسيّة.

أنطاكيا
تُظهر هذه الصورة التي التقطت في 19 فبراير 2023 مبنى منهارًا في مدينة أنطاكيا. سمير الدومي / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

المقدمة

يوم الاثنين الواقع في السّادس من شهر شباط 2023، دمّر زلزال هائل قوّته 7.8 على مقياس ريختر مدينة أنطاكيا.

ومن القرقعة الأولى، وجد العديد من السّكّان أنفسهم في وضع ميؤوس منه، إذ انهارت عليهم وهم نيام مجمّعات سكنيّة شاهقة اندثرت بالكامل.

خلّفت هذه الكارثة الطّبيعيّة المدمّرة وهزّاتها الارتداديّة العنيفة أكثر من 41,200 قتيل على امتداد جنوب شرق تركيا وشمال سوريا، في وقت كتابة المقال. قال النّاطق الرّسميّ لوكالة الأمم المتّحدة للأطفال، جيمس ألدر، إنّ 4.6 مليون طفل يعيشون في المقاطعات التّركيّة العشر الّتي ضربتها الكارثة، مقابل 2.5 مليون طفل يعيشون في سوريا.

لقد كان الزّلزال أحد أكثر الكوارث الطّبيعيّة الّتي ضربت تركيا تدميرًا في التّاريخ الحديث، مُسجِّلًا 7.8 درجة على مقياس ريختر، وهو الأقوى منذ 1939 حين سبّب زلزال بالقوّة نفسها مقتل 30,000 شخص بحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS). ومن بين أكثر المقاطعات التّركيّة تأثّرًا نذكر غازي عنتاب، وكهرمانماراس، وهاتاي.

تُظهر لقطات من طائرات من دون طيّار المئات من المباني المدمَّرة في أنطاكيا، عاصمة مقاطعة هاتاي الّتي كانت من أكثر المناطق تضرّرًا.

وبعد أن اشتهرت أنطاكيا بتنوّعها الحضاريّ وغناها التّاريخيّ، أصبحت تواجه مشاقّ لا سابق لها من حيث الخسارة الأثريّة، والمادّيّة، والنّفسيّة. ويتوقّع الخبراء أن تتطلّب إعادة ترميم المدينة سنينًا من العمل لتعود إلى سابق عهدها المجيد.

لكن في الوقت الرّاهن منذ سنوات عديدة، يجد السّكّان أنفسهم من دون كهرباء، أو ماء، أو حمّامات، ومع خطر تفشّي مرض الكوليرا. إضافة إلى ذلك، وسيلتهم الوحيدة للاحتماء من البرد القارس هي الخيم، وهم مستمرّون في الاعتماد على المساعدات المحلّيّة والدّوليّة للحصول على المأكل والمشرب.

نبذة تاريخيّة

أسّس الإسكندر الأكبر مدينة أنطاكيا، وهو الاسم المعرّب من “Antiocheia” الّتي بُنيت بأمر من الإمبراطور سلوقس الأوّل على أنقاض مدينة السّويديّة ومدن أخرى مجاورة لها. وبالمقارنة مع روما الّتي تجزّأت عام 395 قبل الميلاد، مُنحت أنطاكيا للإمبراطوريّة البيزنطيّة وتطوّرت بسرعة لتصبح إحدى أهمّ ثلاث مدن فيها إلى جانب الإسكندريّة وروما. وصل المسلمون إلى المنطقة بعد حصار مطوّل فرضته القوى الإسلاميّة خلال معركة اليرموك، محوّلين أنطاكيا إلى جبهة (ثغور) وقاعدة عسكريّة تحت سيطرتهم.

في 878 ميلاديّ، ضمّ أحمد بن طولون، حاكم مصر العبّاسيّة ومؤسّس الدّولة الطّولونيّة الّتي لم تدم طويلًا (868 – 905)، شمال سوريا إلى ما تبقّى من المنطقة، بما فيها أنطاكيا، وأبقاها في حيازته حتّى عام 898. وتولّى حكمها عام 944 سيف الدّولة، وهو حاكم شمال سوريا ومؤسّسها وأبرز أمراء السّلالة الحمدانيّة العربيّة في حلب، قبل أن يستولي عليها الجنرال البيزنطيّ مايكل بورتز عام 969، أمّا بعد ذلك، فظلّت تحت حكم الدّوقات البيزنطيّين حتّى عام 1084.

شكّلت هذه المدينة في بدايتها مركزًا مزدهرًا تحت حكم البيزنطيّين، إلى أن هزّها نشاط زلزاليّ في القرن الرّابع ميلاديّ نتج عنه 200,000 قتيل من السّكّان. وفي القرن السّادس عشر، حاولت الإمبراطوريّة العثمانيّة إعادة المدينة إلى مجدها السّابق، لكن بدلًا من ذلك صُغِّرت وحُصِرت ببلدة واحدة صغيرة.

في شباط 1919، اجتاحت القوّات الفرنسيّة المدينة بعد الحرب العالميّة الأولى، وضمّتها إلى سوريا الّتي كانت تحت الحكم الفرنسيّ آنذاك. وفي عام 1938، تأسّست دولة مستقلّة اسمها لواء الإسكندرون واختيرت أنطاكيا عاصمة لها. أمّا في 23 حزيران 1939، فتنازل الفرنسيّون عن لواء الإسكندرون لصالح ما يسمّى تركيا اليوم.

استحقّت أنطاكيا مكانة مميّزة في التّاريخ المسيحيّ نتيجة إرثها الفريد. ومنذ أن بشّر الرّسولان بولس وبرنابا في المدينة، ظهرت التّأثيرات الدّينيّة وما زالت موجودة حتّى اليوم.

أمّا ما ساعد على بروز المدينة وتميّزها، فهي الوجهات السّياحيّة الأساسيّة: معبد أنطاكيا اليهوديّ، وجامع حبيب النّجّار، ومتحف هاتاي للآثار.

خسارة حضاريّة ثقافيّة

لطالما كانت المدينة معقلًا لحضارات وثقافات حيّة ومتنوّعة، إذ يتألّف سكّانها من الأتراك، والعرب (من مختلف الأديان والطّوائف، منهم الإسلام السّنّة، العلويّين، الرّوم أورثودوكس، اليهوديّين، والكاثوليك)، والسّريان، والأكراد، والأرمن.

لكنّ الجزء الأقدم من هذه المدينة الّذي تشاركته الجوامع والكنائس والمعابد اليهوديّة، مشكّلًا المثال النّموذجيّ للتّعايش المسالم، قد دُمّر الآن.

كما دمّر الزّلزال جزءًا من المعبد اليهوديّ البالغ من العمر 250 سنة، فيما تسارع رجال الدّين اليهود إلى إنقاذ مخطوطات التّوراة القديمة المُدرجة ضمن لائحة الآثار في المتاحف.

أكّدت الجالية اليهوديّة التّركيّة، الّتي لا يسكن منها في المدينة إلّا 14 فردًا، وفاة زعيمها شاول سينودي أوغلو وزوجته فورتونا (المعروفة بـ”تونا”).

راثية على تويتر: “إلى جانب كنيس أنطاكيا (الّذي دمّر)، انتهت الحياة اليهوديّة الّتي استمرّت 2500 عام بألم شديد”. نحن نتألّم بشدّة من فقدان الرّئيس المخضرم لمجتمعنا اليهوديّ في أنطاكيا، الأخ الأكبر للمدينة، رمزها، وكبيرنا الأكبر، شاول سينودي أوغلو المثالي وزوجته، تونا سينودي أوغلو، في زلزال أنطاكيا.”

ويُعتقَد أنّ سينودي أوغلو صرّح قبل وفاته بوجود علاقة حميمة بين اليهود والمسلمين في ما مضى، تتضمّن زيارة وتهنئة بعضهم بعضًا في المناسبات الدّينيّة.

شكّلت المدينة أيضًا مركز نشاط تجاريّ يحيط بشارع الاستقلال، وهو أوّل شارع أُضيء في التّاريخ. فالشّارع الّذي ضمّ يومًا مجموعة واسعة ومتنوّعة من تجّار التّجزئة والمطاعم، من بينها مطاعم الكباب، والفنادق، ومحلّات التّوابل والحلوى والخياطة، والصّيدليّات، وصالونات الحلاقة، أصبح الآن مقفرًا.

معالجة الخسائر

أخبر حسن الموسى، النّاشط السّوري من سكّان أنطاكيا منذ 9 سنوات، ومؤسّس جمعيّة جنّة الأطفال Kids Paradise غير الرّبحيّة، بأنّ العدد الأكبر من سكّان المدينة ينام الآن في سيّاراته أو في خيم مؤقّتة.

وبحسب الموسى لم تستطع فرق الإنقاذ الوصول في الـ 24 ساعة الأولى، إنّما بدأت المساعدات تصل في اليوم التّالي من الحادثة.

“للأسف، كان العديد من الأشخاص قد توفّوا أو لا يزالون تحت الأنقاض.”

قبل الزّلزال كان يكسو أنطاكيا غطاء نباتي خصب يشبّهه النّاشط السّوريّ بالمناظر الطّبيعيّة الشّرق أوسطيّة الّتي تميّز لبنان وسوريا. وكان أشهى الأطباق المفضّل لديه هو الكنافة الأنطاكيّة الّتي كانت تذكّره بموطنه المدمَّر أيضًا.

والآن بعد انمحاء معظم معالم المدينة، يقول إنّه لا يمكن إصلاح الخسائر.
مضيفًا: “أنا متأكّد من أنّ الدّولة ستعيد بناء المدينة في مرحلة من المراحل، لكنّ خسائرنا الفرديّة والنّفسيّة لا تعوَّض.” وهو يرثي زوجة وابن وابنة أخيه، كما الكثير من أصدقائه.

لكنّ الكارثة المُترقَّبة فهي عدد الوفيّات النّهائيّ، بحسب قوله.

وأردف لفناك: “لقد عاد المهاجرون الأتراك إلى بلدهم بحثًا عن أفراد عائلاتهم، وأهلهم وإخوانهم وأخواتهم، والعديد منهم ما زالوا يبحثون حتّى اليوم. فبسبب هول الكارثة وتأخُّر وصول فرق الإنقاذ في البداية، لجأ النّاس إلى الحفر بأيديهم عبر الأنقاض، وما زال العديد منهم يؤمن بحدوث العجائب.”

يعمل الموسى مع فريقه لتأمين المساعدة داخل تركيا وسوريا، من حيث المأكل والنّقل والدّعم النّفسيّ والجسديّ. وتجدر الإشارة إلى أنّه ما زال يعيش في سيّارته.

ويكمل قوله: “كسوريّين، أخلينا سوريا بعد سنين من الحرب بحثًا عن مأوى في تركيا، والآن علينا الرّحيل مرّة أخرى بحثًا عن الأمان في مكان آخر.”

واقع جديد قاتم وبارد ومؤلم

يقول بارش يابارالبالغ من العمر 27 عامًا وهو من السّكّان المحلّيّين، أنّه تلقّى للتّوّ خيمة من صديقه وهو يعيش فيها مع عائلته مكافحين درجات الحرارة تحت الصّفر للحفاظ على الدّفء.

ويتوجّه لفناك قائلًا: “لقد خسرنا أجدادنا فيما كنّا ننتظر وصول فرق الإنقاذ، وتعيّن علينا في نهاية المطاف جلب معدّات الإنقاذ بأنفسنا.”

ويصرّح أنّه من الصّعب جدًّا على الأنطاقيّين التّعامل مع ما يخالجهم من مشاعر حاليًّا.

“حتّى عندما كنّا نعمل على إنقاذ من حوصروا تحت الأنقاض، استولى علينا الذّعر لفكرة استسلامهم للجوع والبرد. وفي الوقت نفسه، أُضيف إلى ذلك قلقنا على أنفسنا؛ كيف سنجد المأكل؟ أين سننام؟ كيف سنتدبّر أمورنا من دون مساعدة؟”

كما أضاف أنّ الحزن والحداد رفاهيّة لا يمكنهم الحصول عليها بعد.

سافر يابار في ذكرياته إلى زمن نشأته في المدينة، حين كان يجلس في الخارج حذرًا من عمليّات اقتحام المتاجر والمنازل المتبقّية. وكان الأطفال يلوّنون البيئة بتنوّع خلفيّاتهم الإثنيّة والدّينيّة. وقال مُستذكِرًا إنّ كلّ ثقافة حملت معها عاداتها وتقاليدها الّتي كانت تتشابه في بعض أوجهها فيما تمثّل شيئًا مختلفًا تمامًا.

غير أنّ الأطفال الآن يواجهون أخطار متزايدة. نبّهت منظّمة الرّؤية العالميّة في بيان لها “سيستهدف بعض الأشخاص هذا الضّعف، ويستغلّون الأطفال في مرحلة يحتاجون فيها إلى الدّعم والحماية.” حتّى أنّ بعض الأهالي في المنطقة عبّروا عن جزعهم من إشاعات اختطاف الأطفال إلى وكالة فرانس بريس (AFP). وبحسب وسائل الإعلام الرّسميّة، أوقفت الشّرطة التّركيّة رجلًا حاول اختطاف مولود جديد من مستشفى في جنوب تركيا. أفادت قناة العربية حدوث ذلك عقب الزّلزال المدمّر الّذي ضرب المنطقة.

يقول يابار: “مع ذلك، نعتبر أنطاكيا موطننا الوحيد، والمكان الّذي ترسّخت فيه جذورنا. وعلى الرّغم من المأساة وآثارها المتكدّسة، لا شيء يضاهي نشأتنا وطريقة عيشنا هنا.”

سنين من الخراب

آري أمايا أكرمانس، ناقد فنّي وأمين متحف عاش في تركيا أكثر من عشر سنوات، في منزل في بلدة السّويديّة جنوب أنطاكيا، قال لفناك أنّ المدينة كانت “فسيفساء” في طور نموّها ونسج هويّتها المعقّدة قبل حدوث الزّلزال المدمّر.

ويؤكّد أنّ بيد أنّها لم تحصل من الدّولة التّركيّة على مستوى الاهتمام نفسه كباقي المناطق، لعبت دورًا مهمًّا في الحفاظ على ثقافات الأقلّيّات وحضاراتهم في المشرق.

قال لفناك: “أصبحت مدينة أشباح، يوقد فيها النّاس النّار بأيّ مادّة يجدونها ليتدفّأوا.”

وفي ما يتعلّق بالمساعدات الّتي توزّع حاليًّا، يقول إنّ الحاجة إلى دعم واسع النّطاق ما زالت مجودة، وإنّ الدّولة كانت بطيئة في الاستجابة بشكل ملائم.

لقد وضع معارضو رئيس الجمهوريّة رجب طيّب أردوغان استجابته للزّلزال في تركيا موضع شكّ. ويسلّم النّقّاد جدلًا بأنّه لم يتّخذ الاحتياطات اللّازمة ليكون البلد مجهّزًا لمثل هذه الظّواهر.

وردّ المسؤولون الحكوميّون بالقول أنّ ما من نسبة تحضير كانت لتكون كافية لاتّقاء مثل هذه الكارثة، وأصرّوا على أنّ الاستعداد لحدث بهذا الحجم مستحيل بكلّ بساطة.

يعتقد أمايا أكرمانس أنّ المدينة ستحتاج إلى سنين عديد لتستعيد عافيتها بعد الأضرار الجسيمة الّتي طالت بنيتها التّحتيّة الرّديئة أساسًا.

ويقول: “استخراج الجثث وحده يحتاج إلى الكثير من الوقت، لكنّنا نأمل بأن تسترجع المدينة مجدها يومًا ما لوفرة مواردها، ولأنّ دمارها خسارة ساحقة.”

Advertisement
Fanack Water Palestine