بحسب برامج الخصخصة، من المفترض أن تبيع مصر خلال الفترة المقبلة أصولًا تتخطى قيمتها ال40 مليار دولار.
علي نور الدين
تتسابق دول الخليج على ضخ الاستثمارات في مصر، وخصوصًا تلك التي تتصل بمشاريع الخصخصة، أو الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص. فعلى ما يبدو، بات هذا النوع من المشاريع بالتحديد يثير شهيّة الرساميل الخليجيّة، الباحثة عن فرص مغرية للاستثمار، في القطاعات التي لطالما كانت حكرًا على الدولة المصريّة في الماضي. أمّا مصر، فتندفع إلى عمليّات الخصخصة أو الشراكة مع القطاع الخاص، تحت وطأة الضغوط الاقتصاديّة والديون والحاجة الملحة إلى العملة الصعبة، فضلًا عن سياسات تحرير السوق التي يصرّ عليها صندوق النقد الدولي.
اندفاع الدول الخليجية للاستثمار في مصر
منذ العام الماضي، تعيش دول الخليج العربي طفرة ماليّة ظاهرة للعيان، نتيجة الارتفاعات السريعة في أسعار النفط والغاز. وهذا العامل بالتحديد، هو ما يفسّر حاجة هذه الدول للاستثمار في مصر، وذلك لاستعمال فوائض رساميلها، خصوصًا في ظل العلاقة الجيّدة التي تربط النظام المصّري بمعظم دول مجلس التعاون الخليجي.
وبمعزل عن العوامل السياسيّة، مثّلت مصر عامل جذب للاستثمارات الخليجيّة نتيجة الاستقرار الأمني الذي تعيشه، مقارنة بالدول التي تجاورها، بالإضافة إلى عدد سكانها الكبير وحجم سوقها الضخم. أمّا أهم ما في المسألة، فهو اهتمام دول الخليج بالانشطة الاقتصاديّة المربحة والواعدة في مصر، وتحديدًا تلك التي تم فتحها أخيرًا أمام الاستثمارات الأجنبيّة، بعد أن خضعت طويلًا لهيمنة القطاع العام وحده.
تجلى الاندفاع الخليجيّ في شهر نسيان/أبريل الماضي بدخول شركة “أبو ظبي القابضة”، المملوكة من إمارة أبو ظبي، في صفقة بقيمة ملياري دولار أميركي، لشراء حصص في شركات مملوكة من الحكومة المصريّة. وقد شملت الصّفقة تملّك نسبة من أسهم شركة “أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماويّة”، وشركة “الإسكندريّة لتداول الحاويات”، بالإضافة إلى حصص في “البنك التجاري الدولي – مصر” وشركة “مصر لإنتاج الأسمدة – موبكو”. وفي قطاع التكنولوجيا، دخلت الشركة الإمارتيّة كمساهم في شركة “فوري لتكنولوجيا البنوك والمدفوعات الإلكترونيّة”، بصفقة زادت قيمتها عن 54.9 مليون دولار.
أمّا المملكة العربيّة السعوديّة، فلم تكن بعيدة عن هذه التطوّرات. فصندوق “الاستثمارات العامّة السعودي” وضع منذ شهر آذار/مارس الماضي خططًا لضخ نحو 10 مليارات دولار كاستثمارات مباشرة في مصر، في قطاعات الصحّة والتعليم والزراعة والماليّة والشحن والنقل، ضمن إطار عمليّات الخصخصة أو الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص. وسرعان ما نفّذ الصندوق أوّل مرحلة من هذه الخطط في شهر آب/أغسطس، عبر شراء حصص بقيمة 1.3 مليار دولار، من الحكومة المصريّة، في شركات صناعيّة وتكنولوجيّة وزراعيّة.
أمّا قطر، التي بدأت علاقتها بالقاهرة بالتحسّن هذه السنة، فوجّهت “جهاز الاستثمار القطري” لضخ 2.5 مليار دولار في السوق المصريّة، واستثمارها في عمليّات الخصخصة. ولهذه الغاية، بدأت قطر بالتفاوض لتملّك 20% من أسهم شركة الاتصالات “فودافون”، المملوكة جزئيًّا من قبل الحكومة المصريّة. وفي الوقت نفسه، كانت شركة قطر للطاقة تدخل على خط الاستحواذ على حصص في منطقة استكشاف الغاز شمال مراقيا، التابع لمصر في مياه البحر الأبيض المتوسّط.
من المهم الإشارة هنا إلى أنّ جميع هذه الدول كانت تملك أساسًا استثمارات وازنة في السوق المصريّة، واتفاقات استثماريّة مع الحكومة المصريّة. إلا أنّ المسألة التي استجدّت منذ أواخر الربع الأوّل من هذه السنة، ولغاية اليوم، كانت الهجمة المفاجئة والمتزامنة من قبل هذه الدول الثلاث، التي تنافسوا فيها على شراء حصص الشركات التي تملكها الدولة المصريّة.
أزمات مصر الاقتصاديّة وبرامج الخصخصة
لم تأتِ لهفة دول الخليج على مشاريع الخصخصة من فراغ. فمصر عانت طوال السنوات الماضية من أزمات اقتصاديّة قاسية، وهو ما دفعها إلى اللّجوء إلى برامج خصخصة واسعة النطاق. فوفقًا لأرقام البنك المركزي المصّري، بلغ حجم الديون الخارجيّة المتوجبة على الدولة المصريّة، والمقوّمة بالعملات الأجنبيّة، نحو 157.8 مليار دولار، وهو ما يوازي خمسة أضعاف هذا الدين مقارنة بالفترة المماثلة قبل 10 سنوات. أما حجم الديون الداخليّة فبلغ نحو 194 مليار دولار (وفقًا لسعر صرف الجينيه المصّري الحالي).
والإشكاليّة الأساسيّة بالنسبة إلى الحكومة المصريّة، باتت تكمن في استنزاف فوائد الديون لنحو 33% من إجمالي نفقات الميزانيّة العامّة، وهو ما قلّص من قدرة الدولة على الإنفاق على شبكات الحماية الاجتماعيّة ومشاريع البنية التحتيّة. ومع ارتفاع الفوائد العالميّة، من المتوقّع أن يستمر الارتفاع في كلفة فوائد الدين الخارجي، وهو ما قد يهدد في المستقبل قدرة مصر على الإيفاء بالتزاماتها.
هذه المشكلة، تقاطعت مع التضخّم العالمي في أسعار المحروقات والغذاء إثر الحرب الأوكرانيّة، ما أدّى إلى ارتفاع كلفة الاستيراد من الخارج. ولذلك، تقلّصت احتياطات النقد الأجنبي الموجودة لدى المصرف المركزي المصري إلى نحو 33.1 مليار دولار، مقارنة ب45 مليار دولار في شهر شباط/فبراير الماضي. وهذا التراجع السريع في حجم الاحتياطات، هو ما دفع المصرف المركزي مؤخّرًا إلى تخفيض سعر صرف الجينيه المصري مقابل الدولار، نتيجة تراجع قدرته على الدفاع عن سعر صرف الجينيه السابق.
لكل هذه الأسباب، اضطرّت مصر للجوء إلى برامج الخصخصة، بهدف تعويم ميزانيّاتها العامّة بالسيولة، والتعامل مع أزمة الدين العام والفوائد المتنامية. كما وجدت مصر في هذا النوع من البرامج حلًّا لاستقطاب السيولة بالعملة الصّعبة من الخارج، والتعامل مع شح احتياطات العملات الأجنبيّة لديها. وأخيرًا، حاولت مصر من خلال هذه العمليّات زيادة معدلات النمو الاقتصادي، عبر استقدام الاستثمارات الأجنبيّة القادرة على إنعاش الشركات المحليّة، وتوسيع نطاق عمل هذه الشركات. مع الإشارة إلى أنّ مصر حاولت من خلال الخصخصة التخلّص من إدارة الدولة لبعض الشركات، بهدف تطوير إداراتها.
وفي الوقت نفسه، جاء اتفاق القرض المعقود بين مصر وصندوق النقد الدولي في 27 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي ليزيد من اتجاه مصر نحو برامج الخصخصة. فهذا الاتفاق، جرى بعد أشهر من المفاوضات بين الحكومة المصريّة وبعثة صندوق النقد الدولي، والتي تم الاتفاق خلالها على جملة من الإصلاحات الهيكليّة التي طلبها الصندوق قبل توقيع الاتفاق. ومن هذه الشروط مثلًا، تعزيز دور القطاع الخاص وزيادة الاستثمار الأجنبي، وتحجيم الدور الذي تلعبه الحكومة والجيش عبر الشركات المملوكة منهما. كما طلب الصندوق بشكل واضح زيادة التنافسيّة في الأسواق، وتحرير النشاط التجاري، وهو ما يفرض بشكل تلقائيّ انحساب الدولة تدريجيًّا من العديد من القطاعات الاقتصاديّة.
هواجس المصريين
كل هذه التطوّرات، أطلقت العنان لمخاوف فئات واسعة من الشّعب المصّري، خصوصًا بعد أن تبيّن أن الحكومة المصريّة تخطط لخصخصة قطاعات حيويّة وحسّاسة، بدل أن تقتصر عمليّات الخصخصة على قطاعات الأعمال والتجارة. فبحسب برامج الخصخصة، من المفترض أن تبيع مصر خلال الفترة المقبلة أصولًا تتخطى قيمتها ال40 مليار دولار، بما يشمل موانئ وشركات اتصالات وطاقة ومياه وبنى تحتيّة ومؤسسات نقل برّي وشحن بحري وغيرها. أمّا خطورة هذه المشاريع بحسب المنتقدين، فتكمن في تسليمها خدمات عامّة استراتيجيّة مرتبطة بالمواطن لشركات خاصّة تبحث عن الربح السريع، وهو ما سيمس بمصالح وحقوق المصريين من ناحية أسعار هذه الخدمات، وتوفّرها لجميع الطبقات دون استثناء.
لكل هذه الأسباب، يعتبرُ كثيرون أنّ الحكومة المصريّة تعالج أزماتها الماليّة بحلولٍ مكلفةٍ على المستوى الاجتماعي. كما يعتبر البعض الآخر أن مصر تقايض الدعم المالي الخارجي بصفقات تصب في صالح الشركات الأجنبيّة، التي ستضع يدها قريبًا على مرافق عامّة مربحة، وبعقود تمتد لعشرات السنين. كما تتعرّض عمليّات الخصخصة الحاليّة لانتقادات شعبيّة تعتبر أن هذه الصّفقات ستؤمّن بعض الأرباح على المدى القصير، لكنها ستفقد الدولة عوائد مرافقها العامّة على المدى الطويل، وهو ما سيفاقم من الضغوط الاقتصاديّة التي تتعرّض لها مصر.