جوناثن باري
نشر موقع “The Conversation” مقالة سلطت الضوء على تاريخ تأسيس قناة السويس وما كانت تعنيه للإمبراطورية في ذلك الوقت. ويقوم صاحب المقالة جوناثان باري، وهو أستاذ التاريخ البريطاني الحديث ومدير قسم الدراسات التاريخية والسياسية لدى كلية بيمبروك بجامعة كامبريدج، بتناول ما واجهته القناة من اختناقات مرورية منذ إنشائها بسبب ضيق ممرها.
وبحسب باري، فإن انسداد قناة السويس لمدة أسبوع بسبب ناقلة الحاويات “إيفر غرين” يذكرنا بمدى هشاشة القناة رغم أهميتها الكبيرة بالنسبة للتجارة العالمية.
ومنذ الانتهاء من حفرها عام 1869، مثلت القناة رمزاً لترابط العالم. لكنها أظهرت أيضاً كيف أن المخاوف، والمنافسات، والاختناقات المرورية تهدد بإعاقة هذا الترابط. فقد ولَّد ضيق مجراها نوبات ذعر متكررة لدى الدول التي تعتمد عليها في كثير من الأحيان -ويعني هذا غالباً بريطانيا.
في عام 1882، غزت بريطانيا مصر واحتلتها مدفوعةً بالقلق على ممرها الإمبريالي المؤدي إلى الهند، الذي كان تهدّده الاضطرابات المصرية. ولم تغادر قواتها مصر حتى عام 1956، بعد كارثة أزمة قناة السويس في ذلك العام.
ورغم أن المجرى المائي أصبح يحمل معنى رمزياً كبيراً بالنسبة للبريطانيين، فإنه من السطحية اعتبار القناة الدافع الوحيد للإمبريالية البريطانية. وكانت القناة مجرد مرحلة ثالثة ضمن ترتيبات النقل التي تنفذها بريطانيا عبر مصر خلال القرن التاسع عشر: فمن أجل إنشاء خطوط اتصال فعالة مع الهند، أدارت الشركات البريطانية، بمساعدة الحكومة، خطاً ملاحياً عبر النهر وطريقاً برياً يصل بين الإسكندرية ومدينة السويس في ثلاثينات القرن التاسع عشر، ثم ألحقت بهما خط سكة حديدي في خمسينات القرن التاسع عشر. ومنذ عام 1840، تم الربط بين هذه الطرق وبواخر شركة P&O البريطانية على الجانبين.
في عام 1854، نُقلت عملات تقدر قيمتها بـ 6.4 مليون جنيه إسترليني عبر مصر، وحوالي 4 آلاف مسافر. وفي عام 1851، أرسلت البحرية الملكية سفينتين حربيتين إلى الإسكندرية لتوفير “الدعم المعنوي” للخديوي المصري وموافقته على إنشاء خط السكة الحديد، والذي كان يعارض إنشاؤه سلطان الإمبراطورية العثمانية.
في عام 1855، أوضح اللورد كلارندون، وزير الخارجية البريطاني، للسلطان، والخديوي، والإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث أن بريطانيا لا تسعى للاستحواذ على أراضي في مصر، لكنها أصرت على تأمين “ممر مجاني وخالي من أي مضايقات” عبر البلاد. ويمكن رؤية أهمية هذا الأمر بالنسبة لبريطانيا في إرسالها عام 1857 حوالي 5 آلاف جندي عبر مصر لقمع التمرد الهندي.
في خمسينات القرن التاسع عشر، حتى نابليون الثالث قَبِلَ أن تتمتع بريطانيا بالأولوية في مصر نظراً لوجود سفنها في البحرين الأبيض المتوسط، والأحمر. ووافق على هذا أيضاً ولاة مصر المتعاقبون.
ورغم أن القناة أصبحت سريعاً أهم ترتيبات النقل المصرية بالنسبة لبريطانيا، إلا أن وجودها لم يكن سوى تأكيداً لما كان واضحاً بالفعل. وكانت بريطانيا عازمة على منع أي قوة من السيطرة على مصر في الأوقات التي كانت تترنح فيها الإمبراطورية العثمانية.
سلطة أم تجارة
في نهاية خمسينات القرن التاسع عشر، عارض رئيس الوزراء البريطاني آنذاك اللورد بالمرستون فكرة إنشاء القناة. ولم يكن هذا لأنه تصور أن فرنسا قد تسيطر عليها لمعارضة بريطانيا (رغم أن بعض الناس كانت تخشى من هذا السيناريو). بدلاً من هذا، خشي اللورد أن يكون إنشاء القناة مصدراً جديدا للتوتر بين القوى الأوروبية، ويؤدي إلى إثارة تساؤلات بشأن مدى سلامة الإمبراطورية العثمانية، التي يبدو أن هزيمة روسيا في حرب القرم قد حسمتها.
لم يساور القلق العديد من البريطانيين بشأن مثل هذه الأمور، وكانوا يرحبون بفكرة إنشاء القناة كرمزٍ للحداثة العالمية التحررية والسلمية. وبالمثل في فرنسا، حثَّ نابليون بونابرت على فكرة إنشاء قناة مصرية كوسيلة لتحدّي الحكم البريطاني في الهند. لكن معظم أنصاره الفرنسيين في العقود اللاحقة، تصوروا مشروعاً مدنياً يوحد بين الشرق والغرب وينهي الحرب.
ومع إتمام خطوط السكة الحديدية والتليغراف عبر الولايات المتحدة والهند، بدا أن افتتاح قناة السويس جزء حيوي من ثورة الاتصالات العالمية – وهو أمرٌ احتفت به رواية الكاتب الفرنسي جول فيرن المسماة “حول العالم في ثمانين يوماً”، “Around the World in Eighty Days” عام 1872.
عالمية لكنها بريطانية
كانت بريطانيا تمتلك ثلاثة أرباع حركة الشحن عبر القناة في عام 1870 وأصبحت أكبر مستفيد منها. وبحسب ما ذكرته المؤرخة فاليسكا هوبر في كتابها عن القناة، فإن القناة أنعشت السوق الحر العالمي بكل تأكيد، لكن ذلك لم يكن في عملية سهلة ودون مشاكل.
فقد ساهمت القناة في تجارة العبيد في شرق إفريقيا وخلقت ضغوطاً جديدة للسيطرة عليها. كما ساهمت في انتشار الأمراض المعدية، ما استدعى إنشاء هيئة تنظيمية لمراقبة الركاب، وشملت هذه العملية معايير عنصرية.
ولاحظ المسافرون الاختناقات المرورية المملة عبر القناة. ويعني هذا أن الجمال والمراكب الشراعية كانت أحياناً تتجاوز في سرعتها البواخر. كما أن القناة كانت معرضة في كثير من الأحيان إلى التعطل بسبب أعمال في المجرى المائي، والإضرابات، والحوادث. وبحلول عام 1884، تم إرساء حوالي 3 آلاف سفينة على طول الطريق.
علاوة على هذا، ظلّت السياسة البريطانية تجاه القناة متناقضة. فإن الموافقة على إتاحة القناة أمام التجارة العالمية قد يثير بسهولة الذعر من قيام الدول المنافسة، كروسيا، باستخدام القناة لشن هجوم على الهند. وفي عام 1888، وافق مؤتمر كبير على تدويل القناة. واشترطت كلّ القوى الأوروبية، والولايات المتحدة، والإمبراطورية العثمانية على ضرورة منح السفن حريّة المرور عبر القناة – ليس فقط في أوقات السلم بل الحرب أيضاً.
غير أن بريطانيا أضافت ملحقاً للاتفاق يمنح الحكومة المصرية، التي كانت تسيطر عليها تماما الحكومة البريطانية، حق إغلاق القناة وقتما يتعرض النظام العام لأي تهديد. وفي الحرب العالمية الأولى، أغلقت بريطانيا القناة أمام سفن الأعداء وقصرت الاستخدام التجاري لها على ساعات النهار.
وبهذا الخصوص، ساعد ضيق مجرى القناة القوة المسيطرة على تقييد حركة المرور عبرها. وأشار غلادستون عام 1877 إلى أن أبعاد المجرى المائي جعلت الذعر من شنّ روسيا هجوماً على الهند عبر القناة أمراً سخيفاً – إذ يمكن إغراق السفن بسهولة هناك، أو يمكن أن يحيلها المهندسون العسكريون في ساعات إلى ممر يتعذر العبور منه.
من المفيد أن نتذكر، في نهاية المطاف، السبب وراء الاختناقات المرورية عبر القناة. فقد أنشأتها شركة خاصة فرنسية مصرية تمتلك موارد مالية محدودة وكانت تعتمد على العمالة المحلية القسرية حتى عام 1864. لقد كانت قناة حفرها المصريون المجبرون على العمل. ومات الآلاف منهم خلال إنشائها.
ويقول بالي: “سمح المشروع للمعارضين بوصف مصر باعتبارها أرض العبودية. هرب بنو إسرائيل من هذه العبودية بتدخل إلهي، تمثل في شق البحر الأحمر. وبصورةٍ مماثلة للأهرامات، فإن القناة، التي تعد امتداداً لنفس البحر، بدت رمزاً لقهر الروح البشرية”.
ويختم بالي مقالته بالتالي: “بهذا المعنى، فإن مشهد الشاحنة إيفر غرين وهي عالقة عبر القناة يعد مثالاً آخر يذكرنا بحقيقة جلية مفادها أن الرأسمالية العالمية قائمة على جهد العمال – جهد هؤلاء الذين يكدحون حالياً لإنتاج السلع التي تملأ الحاويات العملاقة المصطفة عبر القناة. وجهد هؤلاء الذين بذلوا العرق من أجل بناء هذا الممر الضيق الذي يربط المصانع بأسواقها”.
ملاحظة
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.
ملاحظة
تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع https://theconversation.com في 31 مارس 2021