وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الاتفاق النووي الإيراني والتوازنات الإقليميّة الهشّة

الاتفاق النووي الإيراني
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يتحدث خلال مؤتمر صحفي في طهران في 29 أغسطس 2022. وكالة فرانس برس

علي نور الدين

منذ شهر نيسان/إبريل 2021، بدأت المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، ما بين إيران من جهة، وفرنسا وبريطانيا والصين وروسيا والولايات المتحدة وألمانيا من جهة أخرى.

وبينما كانت إيران قد عقدت بالفعل صفقة من هذا النوع في تمّوز/يوليو 2015، بهدف رفع العقوبات الدوليّة المفروضة عليها تدريجيًّا مقابل كبح نشاطها النووي، عاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب وانسحب من هذا الاتفاق في أيّار/مايو 2018.

لكن وبمجرّد مغادرة ترامب البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير 2021، أعاد خلفه بايدن تحريك ملف الاتفاق النووي، في محاولة لعقد صفقة أخرى بدل الصفقة التي انسحب منها ترامب، وهو ما أطلق مسار المفاوضات الجديدة التي بدأت منذ نسيان/إبريل 2021 ولم تنتهِ حتّى اللحظة.

ومنذ إعادة إطلاق المفاوضات، انكبّت جميع الأطراف المعنيّة بالملف على تحديد مواقفها من إمكانيّة إعادة الاتفاق النووي الإيراني، وفقًا لمصالحها الخاصّة.

فالدول الكبرى المشاركة في المفاوضات باتت تقدّر الموقف وفقًا لحساباتها الاستراتيجيّة، بما فيها أثر الاتفاق المحتمل على أسواق النفط والغاز والنزاعات الدوليّة. أمّا دول المنطقة الغائبة عن طاولة المفاوضات، فباتت تقدّر الموقف وفقًا للتوازنات الإقليميّة الهشّة أساسًا، وخصوصًا من جهة تأثير الاتفاق المحتمل على عوائد إيران الماليّة بعد رفع العقوبات، وقوتها العسكريّة وقدرتها على التدخّل في النزاعات المسلّحة في دول الشرق الأوسط واليمن.

مواقف الأطراف المشاركة في المفاوضات

منذ سنة ونصف، تستمر جولات التفاوض المتفرّقة على الاتفاق الجديد، بشكل متقطّع، فيما تلعب جميع الأطراف لعبة تمرير الوقت ومحاولة فرض شروط جديدة. وفي هذه المفاوضات، تملك جميع الأطراف حساباتها الخاصّة، التي تأخذها بعين الاعتبار عند تحديد مطالبها وسقفها التفاوضي.

الدول الأوروبيّة تملك المصلحة في تمرير الاتفاق بالسرعة القصوى، أملًا بإعادة إيران كمصدّر أساسي في أسواق الغاز العالميّة، في ظل شح مصادر الطاقة التي تعاني منه أوروبا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. مع الإشارة إلى أنّ إيران تحل في المرتبة الثانية عالميًّا من جهة احتياطات الغاز التي تملكها، ما يرشّحها للعب دور أساسي في تلبية حاجات السوق الأوروبيّة، بمجرّد رفع العقوبات عنها.

أمّا إدارة الرئيس بايدن، فتبدو مهتمّة اليوم بتمرير هذا الاتفاق، لإراحة السوق الأوروبيّة من الضغوط الناتجة عن تقليص واردات الغاز الروسي، والتي يستعملها الرئيس الروسي كورقة ضغط على الأوروبيين في سياق الحرب الأوكرانيّة.

في المقابل، يبدو أن إيران تدرك جيّدًا حاجة الأطراف الغربيين لإعادة إحياء الاتفاق النووي، ما يدفعها لرفع سقف شروطها باستمرار، والمماطلة طمعًا بتحقيق مكاسب أكبر، مع إبداء تمسّكها الدائم بالتوصّل إلى تفاهم مع الدول الغربيّة.

بمعنى آخر، يبدو من الواضح أن إيران تملك المصلحة في عقد صفقة نوويّة جديدة، لكنّها ترغب بلعب جميع الأوراق لتحصيل أكبر قدر ممكن من النقاط في الاتفاق الجديد قبل عقده. ولهذا السبب بالتحديد، عادت إيران خلال الأيام الماضية لتُطالب بإضافة بنود جديدة على الاتفاق، بما يعطي المزيد من الضمانات التي تحول دون انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق كما حصل في السابق، وبما يتخطّى في بعض الأحيان نطاق خطة العمل المشتركة المرتبطة بالملف النووي.

في المقابل، مازالت روسيا تبدي شكليًّا الإيجابيّة في المفاوضات، دون أن تقدم حتّى اللحظة على أي خطوة من شأنها عرقلة مسار التفاهم بين إيران والشركاء الغربيين. ومن المعلوم أن روسيا تملك دورًا كبيرًا في تيسير تنفيذ بعض شروط الاتفاق النووي، من قبيل التعامل مع مخزون اليورانيوم المخصّب الإيراني الذي يتجاوز الحدود المسموح بها في الاتفاق النووي.

ولهذا السبب بالتحديد، من الأكيد أن الاتفاق بأسره قد يكون على المحك، إذا لم يحظَ ببركة موسكو في النهاية. ومن الناحية العمليّة، يبدو أن بوتين يوازن هنا بين رغبته بحرمان الأوروبيين من مصادر الطاقة، التي يمكن أن يقدّمها لهم الاتفاق النووي، والمنافع الاقتصاديّة التي يمكن أن تستفيد منها روسيا في حال رفع العقوبات على إيران، من خلال مشاريع الغاز الإقليميّة المشتركة.

أمّا الصين، فتبدو أكثر الأطراف حماسةً لإنجاز الاتفاق الجديد، نظرًا لحاجتها للحصول على إمدادات غير مقيّدة من احتياطات إيران من النفط والغاز، بالإضافة إلى استثماراتها الكبيرة في الصناعات الإيرانيّة المهمّة مثل التعدين. كما تدرك الصين أهميّة موقع إيران الاستراتيجي، الذي يمكن أن يسمح لها بلعب دور أساسي على مستوى طرق الشحن والنقل التجاريّة الرئيسة، ما يصب تلقائيًّا في مصلحة الصناعات الصينيّة. مع الإشارة إلى أنّ الزعيم الصيني شي جين بينغ استهدف مؤخرًا زيادة التجارة الثنائيّة مع إيران إلى حدود ال600 مليار دولار بحلول العام 2026، في إشارة إلى حجم التعاون الاقتصادي الكبير الذي يسعى إليه.

الحملة الاسرائيليّة على الاتفاق النووي

في المقابل، يبدو أن دول المنطقة تمتلك مصالح وهواجس متباينة في ما يخص الاتفاق النووي المحتمل، ما انعكس تلقائيًا في مواقفها المتباينة. وكما بات واضحًا، تبرز إسرائيل في طليعة الأطراف المتوجّسة من الاتفاق النووي المحتمل، ما دفعها إلى إطلاق حملة دبلوماسيّة وإعلاميّة منظّمة، لإقناع جميع الأطراف الغربيين بالتريّث وعدم التوقيع على إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني.

فإسرائيل تقدّر أن رفع العقوبات عن إيران سيزيد من عوائدها الماليّة من بيع النفط والغاز بنحو 100 مليار دولار سنويًّا، وهي أموال ستصب تلقائيًّا في خزينة الدولة الإيرانيّة التي تُستعمل لتمويل أذرع إيران العسكريّة في المنطقة. باختصار، تقدّر إسرائيل أنّ رفع العقوبات عن إيران سيعوّم الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا ولبنان، ومنها حزب الله، ماليًّا وعسكريًّا، ما سيعني تزايد مخاطر هذه القوى المسلّحة على المصالح الإسرائيليّة.

وهنا، من الواضح أن إسرائيل لا تبدو مهتمّة بالأولويّات التي تضعها الدول الغربيّة، أي عدم تحويل إيران إلى قوّة مسلّحة نووية، بل تبدو في المقابل أكثر اهتمامًا بالأولويّات التي تتعلّق بنزاعاتها المسلّحة في سوريا ولبنان.

ولهذا السبب بالتحديد، لم يبدِ رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد الكثير من الاهتمام بمناقشة القيود التي سيفرضها الاتفاق على نشاط إيران النووي، بل بدا أكثر اهتمامًا بمناقشة العوائد الماليّة التي يمكن أن تستفيد منها إيران عند رفع العقوبات. مع الإشارة إلى أنّ يائير اعتبر أنّ ما تقوم به إسرائيل اليوم يمثّل “معركة ناجحة من أجل لجم الاتفاق النووي ومنع رفع العقوبات عن إيران”، مشيرًا إلى أنّ هناك “مؤشرات مشجعة”، في تلميح واضح إلى اقتناعه بإمكانيّة عرقلة الاتفاق بأسره.

في كل الحالات، من المعروف أنّ إسرائيل تمسّكت بهذا الموقف تاريخيًّا، تجاه أي تفاهم محتمل حول الملف النووي الإيراني، بما يمكن أن يفضي إلى رفع العقوبات عن إيران. فعام 2015، عارضت إسرائيل بشدّة الاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة أوباما مع إيران، معتبرةً إياه كارثة على جميع الصعد، فيما عادت ورحّبت إسرائيل بحماسة بانسحاب إدارة ترامب من الاتفاق عام 2018.

دول الخليج والقلق الصامت

بعكس ما كان متوقّعًا، لم تتخذ الدول الخليجيّة مواقف حادّة أو متشنّجة بخصوص المفاوضات الراهنة المرتبطة بإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، رغم أن المملكة العربيّة السعوديّة والدول الخليجيّة التي تدور في فلك سياساتها كانت قد أبدت الكثير من التوجّس من الاتفاق النووي الإيراني عام 2015. مع الإشارة إلى أنّ السعوديّة بالتحديد تدرك أن إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني سيعني رفع العقوبات عن إيران، وتعزيز مواردها الماليّة، ما سيفتح الباب لزيادة دعمها العسكري للميليشيات التي تعمل ضد مصالح المملكة السعوديّة في اليمن والعراق.

ولعل الموقف السعودي المنكفئ عن التدخّل في المفاوضات الراهنة، المعاكس لموقف السعوديّة المتشنّج عام 2015، يعود لإدراك السعوديين بمحدوديّة قدرتهم على التأثير في المفاوضات التي تجري اليوم. ولهذا السبب بالتحديد، فضّلت السعوديّة والإمارات والبحرين التريّث في الوقت الراهن، وعدم إبداء مواقف حادّة قد تزيد التوتّر مع إيران، طالما أن هذه المواقف لن تغيّر كثيرًا في مسار المفاوضات.

وهكذا، يبدو أن هذه الدول الخليجيّة في حالة قلقٍ صامت من مآل المفاوضات، ومن إمكانيّة تعاظم النفوذ الإيراني في وجهها في حال إعادة إحياء الاتفاق النووي، دون أن يتم ترجمة هذا القلق بمواقف صريحة.

وحدها قطر ذهبت في الاتجاه المعاكس تمامًا، من خلال إبداء الحماسة لإعادة إحياء الاتفاق النووي، وسعيها الدؤوب لتسهيل مسار المفاوضات من خلال مواقف معلنة وصريحة. وهنا، يبدو هذا الموقف انعكاسًا لرغبة القطريين بتحرير إيران من القيود التجاريّة الغربيّة المفروضة عليها، بما يسمح لقطر باستثمار علاقتها الجيّدة نسبيًّا مع النظام الإيراني، من خلال مشاريع استراتيجيّة مربحة. مع الإشارة إلى أنّ قطر بالتحديد استضافت جانبًا من المفاوضات الرامية لإحياء الاتفاق النووي في شهر حزيران/يونيو الماضي، في مبادرة صريحة لرأب الصدع بين إيران والدول الغربيّة.

في جميع الحالات، من المفترض أن يتم استكمال المحادثات النووية خلال الفترة المقبلة، فيما يبدو أن النقاط الخلافيّة المتبقية قد تم حصرها أخيرًا في مجموعة من القضايا التي تنتظر البت بها في جولات المفاوضات المقبلة.

بالتأكيد، لا يوجد ما يضمن اليوم نجاح المفاوضين بترجمة كل هذه المحادثات في اتفاق نهائي قريبًا، إذ سيتوقّف ذلك على حجم التنازلات التي سيوافق كل طرف على تقديمها للآخر. لكنّ الأكيد أنّ المفاوضات التي دارت على مدى سنة ونصف سمحت بتضييق هامش النقاط المختلف عليها بشكل دقيق، ما قد يسمح بحسمها خلال فترة قصيرة إذا قدّمت الأطراف المشاركة في المحادثات ما يكفي من تنازلات.