وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

في تونس: ارتفاع معدلات الإنتحار حرقاً مع تراجع الاقتصاد

Tunsia- Arab spring tunsisa
تونسيون يُصلون في مدينة تونس القديمة في 17 ديسمبر 2013، يوم الذكرى السنوية الثالثة لإنتحار بائع متجول شاب حرقاً، والذي أشعل أول انتفاضةٍ في الربيع العربي. Photo AFP

في عام 2010، ورد قيام عشرة أشخاص في تونس بإشعال النار في أجسادهم احتجاجاً على فساد الشرطة والمصاعب الاقتصادية، حيث توفوا جميعاً في وقتٍ لاحق متأثرين بجراحهم. فقد كان طارق محمد البوعزيزي، وهو بائعٌ متجول أشعل النار في نفسه أمام مبنى البلدية في مدينة سيدي بوزيد في 17 ديسمبر، آخرهم.

حفز انتحار البوعزيزي الاحتجاجات التي يُنسب إليها إشعال شرارة الربيع العربي، الذي أسقط في نهاية المطاف الأنظمة الاستبدادية لزين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا. حصل البوعزيزي على لقب شخصية عام 2011 من مجلة تايم. ومن الجدير بالذكر أن أسماء الأشخاص التسعة الآخرين الذين أشعلوا النار في أنفسهم ما زالت مجهولة.

ومما يثير القلق أن عدد حالات الانتحار حرقاً قد تضاعف ثلاث مراتٍ منذ الثورة، إذ يبدو أن الإنتحار حرقاً أمام العامة في تونس قد أصبح أمراً طبيعياً.

وبحسب ما قاله مهدي بن خليل، الطبيب والباحث في مستشفى شارل نيكول في العاصمة تونس، لنا في فَنَك، “أمرٌ اعتيادي، هذا هو المقصود تماماً.” وأضاف “أصبح الانتحار حرقاً ثاني أكثر طرق الانتحار شيوعاً، بدلاً من الانتحار بالسم. ففي عام 2018، أدخلت وحدة الحروق الرئيسية في تونس ما يقدر بنحو 45 شخصاً قاموا بإضرام النار في أنفسهم، إذ لا يتضمن هذا عدد محاولات الانتحار حرقاً، التي قد تكون أعلى بسبع أو ثماني مرات.”

كما ذكر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو منظمة مجتمع مدني، ورود أربع محاولاتٍ للانتحار حرقاً أثناء الاحتجاجات العفوية، بما في ذلك محاولة مجموعة كاملة الإنتحار حرقاً، في أبريل 2019 وحده.

إجمالاً، وصلت عدد حالات الانتحار في شمال تونس إلى الضعف تقريباً بعد ثورة 2011، من 1,8 إلى 3,12 حالة انتحار لكل 100 ألف شخص في عام 2016، وهو ما يقرب من المعدل الوطني البالغ 3,29 حالة انتحار لكل 100 ألف شخصٍ في السنة، وفقاً لوزارة الصحة؛ إذ يعتبر معدلاً يمكن مقارنته بالدول الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أنه أقل من أوروبا.

لجأ البوعزيزي، الذي لم يكن حاصلاً على شهادة الدراسة الثانوية وكان عاطلاً عن العمل، إلى بيع الفاكهة والخضار على إحدى العربات لإعالة أسرته. فالقطاع غير الرسمي في تونس غير منظم إلى حدٍ كبير، ويقع الباعة تحت رحمة القرارات التعسفية من جانب السلطات المحلية والشرطة فضلاً عن المضايقات التي يتعرضون لها، مما يجعل من الصعب كسب لقمة العيش. وبعد سلسلةٍ من العداوات مع الشرطة، كانت مصادرة عربته ما دفع البوعزيزي أخيراً إلى احتجاجه المميت.

وضعه لم يكن فريداً من نوعه، ففي عام 2010، وصل معدل البطالة بين الشباب الذين لا يحملون شهادة الدراسة الثانوية إلى ما نسبته 40,5%. وفي السنوات التسعة التي تلت وفاة بوعزيزي، ارتفعت معدلات البطالة بين الشباب إلى 33,4%.

وفي هذا الصدد، قال بن خليل: “لم تكن قضية البوعزيزي استثنائية، ولكن بعد سقوط بن علي في 14 يناير 2011 على وجه التحديد، اختلق الإعلام قصةً جعلته رمزاً ثورياً.” وأوضح أن الصور التي نشرتها وسائل الإعلام لاحتراقه تعود في الأصل لراهبٍ بوذي أو تم التلاعب بها من الناحية الفنية.

فقد أظهرت أبحاث المقارنة بعد الثورة تأثيراً جانبياً مثيراً للقلق لخرافة قصة البوعزيزي. فقبل عام 2011، كان الإنتحار حرقاً الطريقة الثالثة أو الرابعة الأكثر شيوعا للانتحار، إذ كانت معظم هذه الحالات مرتبطةً بالمرض العقلي، والصراعات الزوجية (وخاصة النساء) والمشاكل المالية، وحدثت في منزل الضحية. وبعد الثورة، أفادت الدراسات نفسها زيادةً بنسبة ثلاثة أضعاف في حالات الإنتحار حرقاً. وعلى وجه التحديد، ارتفعت بسرعة حالات الإنتحار حرقاً في الأماكن العامة وخارج مباني الإدارة العامة. وفي الوقت نفسه، كان الدافع وراء المزيد من حالات الانتحار هو المصاعب المالية أو الصراع مع أحد ممثلي الدولة.

والجدير بالذكر أن الأشخاص الذين يلجأون إلى الانتحار حرقاً، مثل البوعزيزي، تتطابق معلوماتهم الشخصية مع المهاجرين غير الشرعيين أو المشاركين في الجهاد: ذكورٌ شباب، غير متزوجين أو متزوجين حديثاً، عاطلين عن العمل أو من عمال المياومة، دون أي اضطراباتٍ نفسية معروفة.

وأضاف بن خليل “التغطية الإعلامية واسعة النطاق تسببت في عددٍ كبير من [محاولات] الانتحار المقلدة.” وتابع “مع تلاشى افتتان وسائل الإعلام بالبوعزيزي، بات تحديد وقع التأثير جدياً: أصبح ضحايا الإنتحار حرقاً أشخاصٌ ‘مثلي ومثلك‘؛ أشخاصٌ يمكن للعديد من الشباب أن يضعوا أنفسهم مكانهم.”

وبحسب ما قالته نجمة عرفة، المدافعة عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية من المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لفَنَك، “أصبح شكلاً من أشكال الاحتجاج.” وأضافت “هؤلاء هم أشخاصٌ يحاولون بيأس تحسين ظروفهم المعيشية. إنه نداء استغاثة للسلطات؛ يريدون أن يتم إنقاذهم.”

وتابعت: “الأشخاص الذين نعمل معهم على استعدادٍ في نهاية المطاف لتعريض حياتهم للخطر. عندما تتحدث إليهم، يقولون، ‘لقد خسرت نفسي وروحي بالفعل، جسدي هو كل ما تبقى لي‘.”

وقال بن خليل “أعرّف التضحية بالنفس أمام العلن باعتباره شكلاً من أشكال التواصل، وليس بالضرورة انتحاراً.” وأضاف “الشباب – معظمهم – يبحثون عن وسيلة للتعبير عن يأسهم للمجتمع. علينا أن نعلّم المراهقين تقنياتٍ مختلفة للتغلب على التوتر والقلق.”

الصحفي التونسي عبد الرزاق الزرقي، الذي أشعل النار بنفسه في مدينة القصرين في 24 ديسمبر 2018، نشر رسالةً عبر شريط فيديو قبل وفاته يعبر فيها عن خيبة أمله من الربيع العربي ويدعو إلى ثورةٍ أخرى. أشعلت دعوته أياماً من الاحتجاجات والاشتباكات مع الشرطة.

أولئك الذين لا يفقدون أرواحهم بعد محاولة الإنتحار حرقاً يواجهون عواقب وخيمة، إذ قالت عرفة “تصبح ظروفهم المعيشية مُتعبة أكثر بعد محاولة الإنتحار مما كانت عليه.” وأضافت، “تتجاهل السلطات (المحلية) والحكومة احتياجات المواطنين ولا تقدم سوى الإسعافات الأولية لإنقاذ الضحايا، لكن لا توجد أي رعاية بعد ذلك.”

فقد قالت أن تحولاً جذرياً مطلوبٌ بشدة، “نحتاج إلى كسر النزعة القبلية السياسية وإنشاء نظام ديمقراطي أكثر شمولية. وعلى الاتحاد الأوروبي أن يفتح حدوده.”

وفي الوقت نفسه، تتمثل استراتيجية المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في حشد المواطنين وخوض المعركة معاً، وتزويد الناس ببديلٍ للعزلة التي يعيشونها.

بن خليل، وهو عضو في لجنة منع الانتحار التابعة لوزارة الصحة، طمأننا بعض الشيء، إذ قال “يتم تغطية الانتحار عن طريق التضحية بالنفس بشكلٍ عام في أجندة الرعاية الصحية العامة. فقد وضعت الوزارة استراتيجيةً لمنع الانتحار. دربنا أخصائيي علم النفس على ترجمة إشارات الانتحار ونقوم بإجراء مزيدٍ من الأبحاث.”

بيد أنه يُشاطر عرفة مخاوفها، إذ قال “تحسين الأوضاع الاقتصادية أمرٌ بالغ الأهمية. إن استراتيجية الوقاية من الإنتحار لن تجدي نفعاً إذا ما استمر الاقتصاد التونسي بالتراجع.”