خالد محمود
يسعى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لتقديم نفسه على نحو صحيح هذه المرة، بعدما نجح في تفكيك المتاهة الدولية التي وجد نفسه فيها قبل سنوات وبعد إنهاء الابتزاز السياسي الذي تعرض له من حلفاء تقليديين للسعودية على خلفية مقتل الصحفي والكاتب السعودي الراحل جمال خاشقجى.
وبينما وجد الأمير الشاب نفسه في مأزق إقليمي ودولي بسبب أحداث القضية التي جرت عام 2018، وجلبت عليه حملات أمريكية وتركية عارمة، بالإضافة إلى المشاكل المتعلقة بحرب اليمن، فإنه في محاولته طي صفحات هذه الحادثة المثيرة للجدل، يتطلع أيضا إلى تكريس نفسه كلاعب رئيسي على الساحتين الإقليمية والدولية، مستغلا ما يمكن اعتباره باللحظة المواتية في الوقت الراهن.
أخيرا، فإن من يوصف بـ “الحاكم الفعلي” للمملكة العربية السعودية، يدرك عن يقين، طبيعة الدور الذي تقوم به بلاده، وحجم المكانة التي يجب أن تصبوا إليها، بغض النظر عن مصالح الآخرين، حتى لو كانوا بحجم الولايات المتحدة.
العلاقات مع أمريكا
تشي كثيرٌ من الروايات غير الرسمية بغضب الأمير من الرئيس الأمريكي جو بايدن وإدارته، وأنه قد حان وقت الانتقام، على اعتبار أن الأمير يدرك كغيره، أن الرئاسة الأمريكية ليست في أحسن أحوالها، وأنه ربما جاء التوقيت المناسب لتغيير المعادلة برمتها.
ووفقا لرواية نقلتها صحيفة الوول ستريت جورنال الأمريكية، فقد كان الأمير يرتدي ملابس صيفية عندما صرخ في قصره على شاطئ البحر، في وجه جيك سوليفان مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جو بايدن، قائلا: “يمكن للولايات المتحدة أن تنسى طلبها لزيادة إنتاج النفط”.
في هذه القصة تقول الصحيفة نقلا عن مصادر أمريكية وسعودية، إن الأمير كان يتحدث بنبرة هادئة في أول لقاء له مع سوليفان في سبتمبر 2021، لكن الأمر انتهى بصراخ الأمير في وجه ضيفه، بعد أن أثار مقتل خاشقجي. وأبلغ الأمير سوليفان إنه لم يرغب أبدًا في مناقشة الأمر مرة أخرى.
الرواية تبدو منطقية للغاية وتتماشى مع حقيقة أن الأمير لم يتحدث إلى بايدن منذ تولي الأخير منصبه، خاصة مع تقارير تحدثت عن شعور الأمير بالغضب، بعدما رفع بايدن خلال العام الماضي السرية عن تقرير استخباراتي خلص إلى أن محمد بن سلمان أمر بالقتل.
لكن موقف الأمير لم يكن في السابق على هذا النحو، فقد سبق له أن وصف في ربيع 2016 شراكة السعودية مع الولايات المتحدة بـ”الهائلة”، واعتبر أن “النفط يمثل جزءا صغيرا” منها.
رغم ذلك، فإن بايدن يعتزم ترشيح مايكل راتني لمنصب السفير فوق العادة والمفوض لدى المملكة العربية السعودية وسط تصدع العلاقات بين واشنطن وحليفتها التقليدية في الخليج.
وفى إشارة إلى محاولة بايدن تحسين العلاقات، يلفت الانتباه في البيان الذي أصدره البيت الأبيض، أن راتني، وهو دبلوماسي أمريكي عتيد سبق له العمل في بغداد وبيروت والدار البيضاء، يتكلم العربية والفرنسية.
كما سبق أن شغل راتني منصبي القائم بالأعمال في سفارة الولايات المتحدة في القدس والمبعوث الخاص للولايات المتحدة لسوريا، فضلاً عن عمله كنائب لرئيس البعثة في السفارة الأمريكية بقطر.
وفقا لمحللين، تحاول الولايات المتحدة إقناع السعودية، وهي أكبر دولة مصدرة للنفط، بإنتاج المزيد من الخام لتعويض الفاقد المحتمل في الإمدادات الروسية بعد تعرض موسكو للعقوبات الغربية بسبب غزوها لأوكرانيا.
ويعني هذا بالضرورة، وفقا لوجهة نظر أمريكية، أن راتني سيكون بمثابة مبعوث بايدن إلى السعودية في وقت غير مستقر بالنسبة للشؤون الأمريكية السعودية، في إشارة واضحة إلى نظرة إدارة بايدن إلى المملكة العربية السعودية وغيرها لزيادة إمدادات النفط وسط ارتفاع أسعار الغاز بعد أن حظرت الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى واردات النفط الروسية بسبب غزو موسكو لأوكرانيا.
اللافت هنا هو أن العلاقات الأمريكية مع السعودية ظلت معقدة أيضًا نظرًا لما تصفه واشنطن بانتهاكات المملكة لحقوق الإنسان، لا سيما مقتل الصحفي جمال خاشقجي عام 2018، علما بأن بايدن تعهد العام الماضي بمحاسبة السعودية على مقتل خاشقجي بعد أن قرر المسؤولون الأمريكيون أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أمر بقتله.
ومع ذلك، فقد وصف البيت الأبيض تقريرا لصحيفة وول ستريت جورنال الشهر الماضي بشأن رفض ولي العهد الأمير محمد التحدث مع بايدن بشأن حظر الولايات المتحدة لواردات النفط الروسية، بأنه “غير دقيق”.
يقول سايمون هندرسون مدير برنامج الخليج في معهد واشنطن إن الأمير بن سلمان يشعر بالاستياء من عدم استعداد بايدن للاجتماع معه وجهاً لوجه، سواء شخصياً أو عبر الهاتف.
ومع أنه يرجح أن تشتد الدبلوماسية الهاتفية في الأيام القليلة المقبلة لإقناع محمد بن سلمان بالتنازل، فإن هندرسون لا يرى أن الاحتمالات مواتية في الوقت الحالي، لأي تنازل من الجانب السعودي.
بموازاة ذلك، هناك من يراهن على أن “نهاية الحرب الأوكرانية مرتبطة بمدى تحسُّن العلاقات بين الأمير والرئيس بايدن”، مع “توصية البيت الأبيض بضرورة تحسين العلاقات مع حكومة الرياض، وإدراك أهمية المملكة ودول الخليج في الحفاظ على استقرار اقتصادات الولايات المتحدة والعالم”.
في المقابل، ينصح الأمير تركي الفيصل الذي كان رئيسًا للمخابرات السعودية وعمل سفيراً في لندن وواشنطن، أمريكا بأنه يتعين عليها أن تضحك مع المملكة لا أن تقابلها بالعبوس.
الفيصل يلفت الانتباه الى إطلاق السياسيين الأمريكيين من جميع المعتقدات، السهام على المملكة لانتقادها وتحقيرها، مشيرا إلى أن التعليقات الأمريكية الأخيرة حول المملكة وولي عهدها من قبل ما يسمون بالخبراء وحتى السياسيين كانت سلبية بشكل متعمد.
وأضاف: “لسنا تلاميذ مدارس نقبل مثل هذا التأديب أو المكافأة لوقت طويل. قاومنا استهزاء وسائل الإعلام والسياسيين الأمريكيين. من العدل أن تصمدوا أمام استهزاءاتنا الكوميدية”، دون أن ينسى مطالبة “وسائل الإعلام الأمريكية وغيرها بالضحك على الفكاهة”.
رأي الفيصل مرتبط بالمسلسل الذي بثته محطة تلفزيونية سعودية ويسخر من بايدن، وهو ينسى سياق الحديث ويغط في غفوة أثناء مؤتمر صحافي مع نائبته كاميلا هاريس، حيث شوهد المقطع ملايين المرات وأثار تعليقات من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
التحول التركي
لم تعترض وزارة العدل التركية على طلب نقل قضية محاكمة متهمين بجريمة خاشقجي إلى السعودية. وقامت مديرية العلاقات الخارجية والاتحاد الأوروبي بالوزارة بإبلاغ النيابة العامة في إسطنبول رأيها بشأن نقل الدعوى إلى السلطات السعودية، بناءً على طلب المحكمة الجنائية الـ 11 في إسطنبول المسؤولة عن النظر في قضية مقتل خاشقجي.
وتلا ذلك إعلان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو عن وجود خطوات مهمة في سبيل تطبيع العلاقات بين بلاده والمملكة العربية السعودية.
ونقلت وكالة رويترز عن مسؤول تركي كبير إن قرار تركيا بنقل قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي إلى السعودية ليس قرارا سياسيا.
التحول التركي يستند إلى حاجة تركيا للحصول على دعم اقتصادي مع مواجهتها تضخما متصاعدا تفاقم بفعل ارتفاع أسعار الطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
حرب اليمن
مرّت سنوات كافية على حرب اليمن لكي تجعل ولى العهد السعودي يتطلع مع وجود قيادة يمنية جديدة، بما يكفل تأسيس صفحة جديدة في اليمن وتنقله من الحرب للسلام والتنمية. وفي هذا السياق، لم يفوّت بن سلمان الفرصة للإعراب عن حرص السعودية على أن ينعم اليمن بالأمن والاستقرار.
وبينما تتطلع السعودية للخروج من حرب مكلفة أدت إلى توتر علاقات واشنطن مع الحلفاء الخليجيين، وضاقت ذرعا من حرب مكلفة وضعتها في مأزق عسكري منذ سنوات، يعتقد في دوائر السلطة اليمنية أن قرار شن حرب السعودية في اليمن كان بمثابة “تمهيد من أجل إظهار محمد بن سلمان بقوة على واجهة الأحداث كرجل حرب وقائدا عسكريا يمكنه إدارة المعركة والانتصار فيها، وهو ما يعني تعزيز لنفوذه في الداخل السعودي على حساب خصومه”.
تبدو الإحصائيات مخيفة بشأن الحرب التي تسببت بمصرع أكثر من 377 ألف شخص بشكل مباشر أو غير مباشر ونزوح نحو أربعة ملايين عن منازلهم. وبحسب منظمة “أوكسفام”، فإنّ 24 ألف غارة تم شنها منذ بدء عمليات التحالف ألحقت الأضرار بـ 40% من المساكن في المدن اليمنية المختلفة.
بيد أن النزاع في اليمن، وفقا لمنظمة العفو الدولية، “لا يظهر أي مؤشرات حقيقية على الانحسار مع دخوله عامه السادس”. ولا زال المدنيون من جميع أنحاء البلاد والأجيال يتحملون وطأة الأعمال القتالية العسكرية والممارسات غير القانونية للجماعات المسلحة الحكومية وغير الحكومية على حد سواء.
وبحسب ما قاله أحد المصادر المطلعة لوكالة رويترز، فإن “السعوديين أيضا لهم مطالب قبل تلبية أي من الطلبات الأمريكية، وعلى رأسها ملف اليمن والاعتراف بولي العهد حاكما فعليا للمملكة”.
ولم يعد خافيا أن العلاقات المتينة بين الرياض وواشنطن قد اهتزت ليس فقط بسبب قضية خاشقجي، لكن أيضا بسبب وضع أمريكا نهاية لدعمها للعمليات الهجومية في حرب الرياض الباهظة التكلفة على الحوثيين المتحالفين مع إيران في اليمن.
وقال مصدر آخر: “ورقة محمد بن سلمان الوحيدة هي السياسة النفطية للضغط على الأمريكيين لإعطائه ما يريد.. الاعتراف والأسلحة (لحرب) اليمن”.
في مقال لـ “ذي أتلانتيك“، ألمح ولي العهد إلى أن دولا أخرى مثل الصين على أهبة الاستعداد للتواجد على الساحة إذا توترت العلاقات مع واشنطن. وقال: “أين الإمكانيات الواعدة في العالم اليوم؟ إنها في السعودية. إذا كنت تريد أن تخسرها، فإنني أعتقد أن آخرين في الشرق سيكونون سعداء للغاية”.
العلاقات مع روسيا والصين
يستغل ولي العهد السعودي صداقته المتنامية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والسلطات الحاكمة في الصين، لمعادلة الضغوط الأمريكية، حتى ولو من زاوية “مساندة المملكة للجهود التي تؤدي إلى حل سياسي للأزمة في أوكرانيا ويحقق الأمن والاستقرار”.
وقال بيان رسمي إن الأمير تلقى اتصالا هاتفيا من بوتين جرى خلاله بحث العلاقات الثنائية التي تجمع البلدين وسبل تعزيزها في مختلف المجالات، بما يحقق مصالح البلدين والشعبين الصديقين.
وتزامن الاتصال مع اتصال آخر من الرئيس الصيني شي جي بينغ، ما لفت انتباه الكثيرين الذين اعتبروه دليلاً على الثقل الدولي للسعودية على كافة المستويات.
التحولات الداخلية
جرت تحولات هائلة في الداخل السعودي على مدى السنوات الماضية، فكثير مما كان ممنوعا بات متاحا، وتبدلت إلى حد كبير أحوال المجتمع بشكل سريع خاصة في العلاقة المفتاحية بين الدولة والفن والمرأة وحقوق الإنسان.
هذا التطور الضخم، جرى بإيعاز من الأمير الذي يحلم بمملكة جديدة، عبر عنها في رؤيته لمستقبل السعودية عام 2030.
لا يبدو ولي العهد السعودي قلقا على مستقبل بلاده، فهو يراه مبشرا وواعدا، لافتا الى رغبته في تحويل أرامكو من شركة لإنتاج النفط إلى عملاق صناعي يعمل في أنحاء العالم، وتحويل صندوق الاستثمارات العامة إلى أكبر صندوق سيادي في العالم.
لا ينسى هنا “أن يبقى تسليح جيشنا قوياً، وفي نفس الوقت نريد أن نصنّع نصف احتياجاته العسكرية على الأقل محلياً، لنستثمر ثروتنا في الداخل، وذلك من أجل إيجاد المزيد من الفرص الوظيفية والاقتصاديّة”.
لا ينقص الأمير محمد الخيال للتطلع إلى مملكة جديدة، بيد أن طموحه لم يكتمل بعد، في انتظار تتويجه ملكا على البلاد لاحقا.
لكن سلطاته الواسعة تتشعب حاليا دون وجود تهديد داخلي على الأقل داخل العائلة المالكة، بعدما تخلص من منافسيه تدريجيا، وبات فعليا الحاكم الذي يدير الشؤون اليومية للمملكة.
وتوحد آل سعود علنا حول الأمير عقب تصعيده بموجب أمر ملكي عام 2017، بعد إعفاء والده الملك للأمير محمد بن نايف، من منصبي ولي العهد ووزير الداخلية.