دانا حوراني
رجل طويل القامة ذو هيبة وحضور أخّاذ، له نبرة هادئة حازمة، مشوبة بلكنة فارسية. إنه موسى الصدر، أو المعروف بالإمام موسى أو الإمام الصدر الذي يحظى بإعجاب العديد لحضور شخصيته وإحقاقه الحق، ما جعله أحد أكثر رجال الدين تبجيلًا في لبنان خلال أشد فتراته اضطرابًا إبان الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990.
وُلد الصدر عام 1928 في مدينة قم المقدسة في إيران لعائلة شيعية عريقة، فأبوه هو الشيخ آية الله صدر الدين الصدر الذي حثه على إكمال دراسته في الفقه الإسلامي.
وبعدما صار الصدر رجل دين شيعيًا، حاز على شهادتين في القانون وفي الاقتصاد من جامعة طهران.
ويُقال إن عائلته تنحدر من قرية شحور جنوبي لبنان القريبة من صور، وهي المدينة التي قصدها الإمام حين زار لبنان عام 1957.
وخلال زيارته، التقى الصدر بالسيد عبد الحسين شرف الدين، وهو إمام شيعيّ بارز في لبنان. وقد أُعجب بشخصيته وصفاته، فطلب من أقرانه أن يختاروا الصدر خليفةً له.
تُوفي شرف الدين عام 1957 وتحققت أمنيته عام 1959. وبعد أن استقر الصدر في لبنان عام 1960 واجه مهمة شاقة وواقعًا مستعصيًا. فقد كان شيعة لبنان في هذا الوقت متفرقين بين وادي البقاع، وجبل عامل (جنوب لبنان)، وضواحي بيروت الجنوبية دون أن يحصلوا على تعليم جيد، أو فرص عمل، أو تمثيل سياسي، لكنه بدأ رحلة الإصلاح السياسي، الاجتماعي والاقتصادي.
ولم يتوقف نشاطه إلا في أغسطس 1978 عندما اختفى أثناء زيارته إلى ليبيا مع اثنين من مرافقيه. لكن إرثه قد صمد على مر الزمن، وتُحيىا ذكراه في 31 أغسطس من كل عام.
رجل الوحدة والحوار
دعا الإمام للحوار بين الأديان وبين أبناء الدين الواحد، وسعى إلى تخليص المجتمع الشيعي من سردية المظلومية التاريخية. وفي عام 1969، انتُخب رئيسًا للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي أُسس ليساند الشيعة في خضم الشبكات السياسية والدينية المعقدة في البلاد.
وقد كانت له بعض اللّفتات العظيمة. وأحد ما تناقلته الشفاه هو ما حدث مع العم أنتيبا، وهو بائع مثلجات مسيحي في مدينة صور كاد يفلس بسبب دعوات مقاطعته أطلقها منافسوه من البائعين الشيعة. وبعد أن قصد الإمام لحل ورطته، توجه الصدر إلى محله واشترى منه وتبعه أنصاره من الشيعة في ذلك.
ونقل مقطع فيديو قصير يوثق ما حدث عن العم أنتيبا قوله: “عندما لا يكون بيننا، نشعر كأننا أيتام”.
وبخلاف روح الله الخميني، القائد الديني الأعلى في إيران، لم يوافق الصدر على الدعوة إلى ولاية الفقيه التي عززتها الثورة الإسلامية. فكان يحضر القداديس، ويعقد الندوات في الكنائس، ويدعو إلى الوحدة بين السّنة والشّيعة، ويتناول العشاء مع السياسيين الموارنة.
ورغم أن الشّيعة كانوا منبوذين والصّراع مع إسرائيل كان متأججًا على الحدود الجنوبية، سعى الإمام إلى المصالحة بين أكثر المعسكرات استقطابًا.
وقالت فاتن مهنا،-الصّحفية اللّبنانية ومنتجة أحد الأفلام الوثائقية عن الإمام- لفنك: “كانت إسرائيل تمثّل تهديدًا وشيكًا على الجنوب وكان الإمام يدرك أنه لا بد من التحرك”.
وأردفت قائلةً: “كان هناك مؤيدون لتشكيل مقاومة وطنية ضد إسرائيل، لكن البعض عارضوا ذلك، وأبرزهم حزب الكتائب المسيحي بقيادة عائلة الجميل. ومع ذلك، كان الإمام يجلس مع القادة المسيحيين لمناقشة الحلول”.
لكن الصدر انهار عندما اندلعت الحرب الأهلية عام 1975، فاحتج بالإضراب عن الطعام في مسجد في بيروت ثلاثة أيام.
فقد كان يعتبر السلم الأهلي والوحدة الوطنية من الوسائل الرئيسة لحماية البلاد من المخاطر الخارجية.
أفعال لا أقوال
كان أحد أبرز إنجازات الإمام الصدر إنشاء “مؤسسة الإمام موسى الصدر” التي تضّم مدارس ابتدائية وثانوية وفنية، ودور أيتام، وملاجئ، وكلية للتمريض، ومركز للدراسات والأبحاث الإسلامية.
وأصبحت مؤسسة جبل عامل –وهي مدرسة مهنية وفرت للأطفال الفقراء في الجنوب فرصة في التعليم- ملجأ لكثير من الأطفال الذين فقدوا آباءهم إبان اجتياح إسرائيل وتوغلها في جنوب لبنان في أواخر السبعينيات.
وقد حدد الإمام الصّدر في مقابلة تلفزيونية هدفه بأنّه “خدمة المتعبين والمعذبين والمحرومين… وسرعان ما انتهى التسول في صور. ولكن، مكافحة التسول وحدها لا تكفي، لأن هناك أسبابًا للفقر وللتسول… على هذا الأساس أُسست هذه المؤسسة التي نرجو أن تكون خطوة كبيرة في سبيل خدمة الفقراء في المنطقة”.
وأضاف أن تمويل هذه المؤسسة قدمه المتبرعون داخل البلاد، والمهاجرون اللّبنانيون، بالإضافة إلى الحكومة الفرنسية.
وعلى أعتاب الحرب الأهلية عام 1974، أسس الصدر حركة المحرومين، وهي حركة إصلاحية اجتماعية دافعت عن الشيعة خلال الصّراع، مصحوبة بجناح عسكري هو حركة أمل، اللاعب البارز في السياسة اللّبنانية اليوم.
ومع ذلك لم يتزعزع موقفه من السلم الأهلي. ففي أثناء الحرب الأهلية، حوصرت بلدتان في الشمال لا تنتميان إلى الشيعة هما القاع ودير الأحمر وتعرضتا لقصف شديد، فخاطب الإمام الصدر جماهيره الشيعة في البلدات والقرى المجاورة مطالبًا إياهم عدم المشاركة في أعمال العنف قائلًا، “إن كل طلقة تُطلق على دير الأحمر أو القاع… إنما تُطلق على بيتي وعلى قلبي وعلى أولادي”.
انقسام داخل المجتمع
رغم شعبية الصدر الواسعة، انبثقت حركتان سياسيتان منفصلتان من رحم المجتمع الشيعي. الأولى التزمت بنهج الإمام الوطني الذي يعطي الأولوية لاندماج الشيعة في المجتمع اللبناني وسياسته. أما الحركة الأخرى فقد اتبعت أيديولوجية الإمام الراحل محمد حسين فضل الله وحزب الله الشيعي المدعوم من إيران الذي أيّد الأفكار الشيعية الثورية والعابرة للحدود.
وكانت نقطة الخلاف الرئيسة بين الحركتين العلاقة مع منظمة التحرير الفلسطينية التي حولت القرى اللبنانية في الجنوب إلى قواعد لحرب العصابات، لذلك دأبت إسرائيل على استهدافها.
ورغم تأييد الصدر القضية الفلسطينية، فقد رفض التضحية بالمجتمع الشّيعي في قتال يفاقم معاناته.
وحذر من تشكّل ولاءات خارجية بصورة خاصة. وقال في خطاب له عام 1977: “هل نشكو في لبنان، من قلة الولاءات حتى نحاول إضافة محور سياسي جديد؟ أرجو أن يفهم هذا الموقف من قبل الجميع، لبنانيين وعربًا وايرانيين، ومن قبل بعض السياسيين الذين يتاجرون بهذه العلاقات ويستفيدون منها على حساب الوطن وعلى حساب الطائفة. فليهنأوا بعيشهم، وجنبنا الله مثل هذا العيش”.
حلم ضائع
ترى فاتن مهنا أن تواضع الإمام الصدر وتقبله الاختلافات هو ما يميّزه عن ساسة اليوم.
وقالت: “كان يرفض أن يُمجّد أو يُقدّس. إذ كان يكرر دائمًا أن مكانه يكمن في خدمة الناس، كما حافظ على أسلوب عمليّ في خطاباته، على عكس الأسلوب الّشعبوي العدواني الذي ينتهجه الساسة اليوم”.
وأضافت: “كان يرحب بالآراء المعارضة، ومنفتحًا على التفاوض. أما اليوم، فالمعارضة تعني أن تُتهم بأنك خائن أو جاسوس أو غير لبنانيّ”.
وقال محمد شرف الدين، الصّديق المقرب لعائلة الصدر، إن الإمام كان شخصيّة يسهل التواصل معها، فقد كان بابه مفتوحًا لمن لهم شكاوى دون حاجة إلى تحديد موعد.
وأردف قائلًا: “لقد سحر الجميع برحمته. ولم يشعر أحد بغربة أيًّا كانت ديانته. ولو كان حيًّا اليوم، لتوحدت الفصائل السياسية الشيعية الحالية تحت لوائه، ولاختلف لبنان تمامًا”.
واختفى الإمام الصدر يوم 31 أغسطس عام 1978 مع اثنين من رفاقه هما الشيخ محمد يعقوب والصّحفي عباس بدر الدين في أثناء رحلة إلى ليبيا على أمل إقناع معمر القذافي بوقف دعمه العسكري للمقاتلين الفلسطينيين في لبنان.
وقد شوهد آخر مرة قبل لقائه القذافي. وما زال ما حدث بعدها لغزًا يتهم البعض ليبيا باغتياله أو سجنه، أما البعض الآخر فيعتقد أن آية الله روح الله الخميني أراد القضاء على منافس محتمل.
وإذا كان الإمام ما يزال على قيد الحياة، فستكون سنّه اليوم 94 عامًا.
وقالت مهنا: “لم نخسر شخصًا، بل أمة. انظر إلى لبنان اليوم، تنخره الطائفية والكراهية والدعوات إلى التقسيم. كل ما دعا إليه الإمام يُمحى الآن. علينا أن نستبقي ذكراه حيةً حتى يبقى الأمل في تحقيق حلمٍ بلبنان سعى هو إلى تحقيقه”.