في ساحةٍ تحتشد بالمئات من المطربين، تحظى الفنانة السودانية ندى القلعة بالقدر الأوفر من الشهرة. في بلدها، لا تشتهر فحسب بسبب ما تقدمه من أغنيات، بل أيضاً بسبب الجدل المستمر الذي ظلت تثيره من خلال أغنياتها وإطلالتها وبعض تفاصيل حياتها الفنية والشخصية، ولحضورها أيضاً في الحياة العامة.
أسمها ندى محمد عثمان، أما “القلعة” الذي اشتهرت به كلقبٍ، فهو اسم منطقة بالخرطوم كانت تسكنها عندما ظهرت كمغنية في منتصف تسعينات القرن العشرين.
ولدت في الأول من فبراير 1975، واحترفت الغناء منذ 22 عاماً. تزوجت مرتين، ولكن كلا زوجيها توفيا. زوجها الأول هو عازف الأورغن وليد حجازي الذي اقترن بها وهي في السابعة عشر من عمرها وقدمها للغناء وأنجب منها ولدها وائل، أما الثاني فهو أحمد الفكي الذي توفى في عام 2009 بعد أن أثمر زواجهما عن بنتهما ود.
أغاني البنات الهابطة
تحتوى مكتبات الأغاني السودانية بالانترنت نحو 240 أغنية لندى القلعة، منها 200 أغنية خاصة بها، أما البقية فمعظمها من الأغنيات الشعبية والأغنيات التراثية وأغنيات الحقيبة المسموعة من قبل.
تعاملت القلعة مع عدد من الشعراء والملحنين، لكنها لحنت لنفسها أيضاً 32 أغنية حسب ما أفادت إدارة الصفحة الفنية الرسمية للفنانة في الفيسبوك في تصريح لـفَنَك.
يميل الكثيرون إلى تصنيف أغنيات ندى القلعة ضمن ما يسمى أغاني البنات، وهو ضرب من الغناء الشعبي في السودان تؤلف أغنياته البنات وتتغنى بها، وتؤدي العروس رقصات مرسومة على إيقاعاته ونغماته كطقس من طقوس الزواج. وعلى الرغم من أن القلعة قدمت عدداً من الأغنيات من هذا النوع، إلا أنها لا توافق على وضعها في إطاره، وتقول إنها لا تميل كثيراً لهذا النوع من الغناء.
وهي بالفعل تودي أغنياتها بمصاحبة الآلات الموسيقية الحديثة بخلاف أغاني البنات التي تؤدى غالباً بمصاحبة آلات شعبية مثل “الدلوكة” و”الشتم.” كما أنها لا تمارس الغناء لترقيص العروس مثلما تفعل جُل مطربات أغاني البنات، وهي ترفض بشدة اتهامها بأداء “الأغنيات الهابطة.”
تميل ندى القلعة لأداء ما يعرف في السودان بـ “أغاني الحماسة،” وهي نوع قديم من الغناء الشعبي يتم فيه تمجيد قيم الرجولة والفروسية والشهامة والكرم عند الرجال، وغالباً يؤلف كلمات هذه الأغاني النساء. كما اشتهرت القلعة بتقديم نوع من أغاني النصح الاجتماعي الموجه غالباً للنساء والشباب، وتعد أغنيتها “راجل السترة” من أشهر ما قدمته في هذا الإطار. وأثارت أغنيتها “خبر الشوم” التي وصفت فيها سلوك المثليين الرجال وهاجمتهم بشدة، ضجةً كبيرة عندما أطلقتها في العام 2015 وجرى منعها من قبل مجلس المصنفات الأدبية والفنية.
أداء متحرر ومواقف محافظة
تعبر القلعة من خلال أغنياتها والمقابلات الإعلامية التي تجري معها عن آراء تقليدية محافظة حول الحياة الاجتماعية والأدوار الجندرية لكلٍ من الرجل والمرأة.
لا تنبع شعبية ندى القلعة والاهتمام الذي تثيره من أغنياتها فقط، فهي تحظى بنصيبٍ وافر من الجمال الأنثوي وفقاً لمعاييره في الثقافة السودانية السائدة، كما أنها شديدة الاهتمام بمظهرها وبتفاصيله من ماكياج وتسريحة شعر وأزياء وزينة وإكسسوارات، لدرجة أنها أصبحت إيقونةً للأناقة ونموذجاً يُحتذى به من قبل النساء السودانيات. وباتت ثيابها ونقشات الحناء التي تظهر بها تشكل موضة تستمر إلى حين ظهورها بهيئة جديدة.
كتب عنها المفكر السوداني الدكتور حيدر إبراهيم: “أصبحت ندى القلعة إيقونة ورمزاً، بل مرجعية في بعض تفاصيل مرتبطة بالشكل والموضة والسلوك. فهي ليست مجرد مغنية وصوت بل سلعة ثقافية، أي انه يمكن تداولها وإعادة إنتاج بعض عناصرها. وتدرك ندى كيف تمارس سلطتها في الاختلاف من خلال اللبس والزينة. فقد قدمت أشكالاً جديدة لنقش الحناء، وقدمت شكلاً للشعر بين الإخفاء والإظهار.”
ووصفها الكاتب الدكتور حسن موسى بأنها “صرح جمالي شعبي كبير،” إذ كتب: “في فيديوهاتها لا يمكن للمشاهد أن يغفل عن تلقي علامات الأنوثة الطاغية التي تفرض نفسها على كل من ينظر في تصاوير وفيديوهات المغنية الشعبية. فهي تعرض عنايتها الفائقة بـما بدا و ما لم يبد من زينتها، وهي عناية أهلتها لتصبح مرجعاً في زينة الجسد الشاب المؤنث المراوح بين معاني الجمالية الجسدية للمجتمع التقليدي التي تغنى بها شعراء الحقيبة وآخر صيحات صالونات التجميل الشرق أوسطية.”
نجاح ندى القلعة مع أثرياء نيجيريا
أكثر ما أثار اللغط في مسيرة ندى القلعة الفنية حتى الآن هو رحلاتها إلى نيجيريا، فقد ذهبت إلى هناك أكثر من مرة بدعوة من حاكم ولاية مايدوقري السيناتور علي الشريف لإحياء حفلاتٍ خاصة. القلعة أخذت أجراً كبيراً جداً في هذه الرحلات وصل إلى مائة ألف دولار أمريكي في حفلةٍ واحدة، غير حصيلة “النقطة،” إضافة إلى سيارة ليكزس وهاتف خليوي من الذهب والألماس هدية من الشريف.
وظهرت في احد الفيديوهات وهي تتوسط كومة كبيرة من الأوراق المالية التي غطت سريرها، كما ظهرت في فيديو آخر وهي تغني وترقص في إحدى حفلات الشريف بزي غير الزي السوداني التقليدي الذي اعتادت الظهور به في السودان. كل ذلك أثار موجة من الهمس واللمز في الأوساط السودانية عن طبيعة علاقتها بشريف نيجيريا، وصاحب ذلك هجوم كثيف عليها وطعن صريح ومستتر في سمعتها و”عفتها” وأخلاقها.
تصدت القلعة للحملة ضدها وأكدت أن الأجر الكبير الذي أخذته جاء تقديراً لفنها فقط دون غيره، وصاغت دفاعها في أغنية “الشريف مبسوط منى” التي أحدثت ضجة إضافية عندما سخر منها الكثيرون واعتبروا أنها أغنية هابطة وركيكة.
وفي السنوات الأخيرة حرصت القلعة على عدم الاكتفاء بتقديم نفسها كفنانة تقتصر مهمتها على الغناء، فابتدرت مبادراتٍ وشاركت في أنشطةٍ تصب في مجرى العمل الاجتماعي العام، ومن ذلك قيامها بتفقد ومواساة ضحايا السيول والأمطار في عام 2015 وتقديم المساعدات لهم، وإحيائها حفلة يعود ريعها لصالحهم وأداء أغنية عنهم. وفي العام 2016 نظمت القلعة حملة لدعم بائعات الشاي بالعاصمة الخرطوم، وأبدت تعاطفها مع “عمال الدرداقات” الذين يقتاتون من مساعدة المشترين في الأسواق في حمل مشترياتهم في عربات تدفع بالأيدي. وفي سبتمبر من العام الجاري 2018 أطلقت القلعة مبادرة للتضامن مع سكان مدينة كسلا في مواجهة حمي الشيكونغونيا التي اجتاحت المدينة، وأطلقت ضمن الحملة أغنيتها الجديدة “كسلا كفارة وسلامة.”
إدارة الظهر للمثقفين
يقول حسن موسى: “إن سر شعبية ندى القلعة لا يكمن في قدرتها على التطريب وحده لأنها تستثمر في سبيل بناء جماهيريتها جملة من أقنعة الاتصال التقليدية والحديثة التي تمنح حضورها في الفضاء العام أكثر من وجه. فهي تدخل بقناع الفنانة المطربة، لكنها أيضاً تحمل قناع الأنثى التي لا تخجل من أنوثتها ولا تخفيها في الفضاء الذكوري العام، لقناع الخبيرة في العلاقات العاطفية التي تسدي النصح للمحبين، لقناع الأم ربة الأسرة الرؤوم التي تتفانى في توفير أسباب التربية القويمة والتعليم النافع لفلذات كبدها، لغاية قناع الناشطة الاجتماعية التي تدافع عن قيم التراث الثقافي السوداني الأصيل.”
وعموماً، فإن ندى القلعة فنانة للعامة، فهي لا تروق كثيراً للمثقفين. ويتهمها المعارضون بالتعاون مع “النظام الديكتاتوري” الحاكم في السودان (نظام الانقاذ)، وذهب بعضهم لاتهامها بأنها عضو في جهاز الأمن التابع للنظام، وازداد هجوم المعارضين عليها عندما شاع أن السلطة دعتها للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في عامي 2015 و2016 وقاطعته قوى المعارضة الرئيسية، على الرغم من أنها لم تشارك في المؤتمر ولكنها أحيت حفلاً على هامشه.
لكن للدكتور حيدر إبراهيم رأيٌ آخر، فهو يعتبر أن ندى القلعة تمثل “ثقافة مضادة لثقافة الهيمنة الرسمية،” وإنها والنظام الحاكم “نموذجين متناقضين.” فقد قال لفَنَك: “الجهود المبذولة من قبل الدولة والأجهزة الرسمية لفرض ثقافة ذات طابع ديني، والأموال المخصصة لهذه الغاية، والقمع، لم تستطع جميعها إلغاء ظاهرة ندى القلعة وغيرها من الظواهر الثقافية والفنية التي تحرج «المشروع الحضاري».” فندى القلعة تتحداه وتحاربه وتضعفه. وتقدم ندى القلعة (بوعي أو لاوعي) ثقافة مقاومة وممانعة لا تريد أن تكون جزءاً من الثقافة الكبرى. وبحسب إبراهيم “تحاول أن تبث الفرح والحياة والحب بينما وبالمقابل، يقدم «الإنقاذ» ثقافة الموت والحقد والكراهية.”
ويرد الكاتب اليساري الفاضل الهاشمي على الدكتور إبراهيم، معتبراً أن تحليله غير ملم بسيرة ندى القلعة، وباتهامها بأنها ضابطة أمن. فقد أشار إلى أن الدكتور إبراهيم لم يشاهدها “وهى تغني للسلطة والوالي والأمن،” ويقول: “ندى مغنية تستغل السوق السياسي الطفيلي السوداني كما يستغله رجال الأعمال/الساسة” وهي “ليست بصدد أضعاف السلطة ومحاربتها، بل تقويتها؛ ولكم استخدمت دبابيسها الصغيرة لتنفيس الحراك الشعبي المقاوم مباشرة أو غير مباشرة كسلعة ثقافية للاستهلاك والثراء والإلهاء.” ويصف الهاشمي ما اسماه “ثقافة ندى” بأنها “ثقافة فرعية سياسية فجة،” و”رجعية وذكورية.”
ويعلق حسن موسى معتبراً أن كل من إبراهيم والهاشمي حملا القلعة “أحمالاً سياسية تفوق طاقتها المفهومية كفنانة شعبية.” ويقول إن ندى القلعة “فنانة من غمار الشعب تدخل على صناعتها بالحس العفوي،” مُضيفاً أن جمهورها “لا يطلب منها ما يتجاوز إمكاناتها كمغنية شعبية.”ووفقاً لموسى فهي في هذا السبيل “تكشف عن فراسة أنثروبولوجية غريزية ترسم صورة للعلاقة مع الجمهور، وتخاطبه بلغة وبإشارات يفهمها،” وأضاف أنها “تدير ظهرها للصفوة المثقفة لتخاطب شعب الحواضر المشبوح بين أحابيل الحنين للحياة في الفردوس الريفي المفقود ومقتضيات الحياة الحديثة وصعوباتها المادية والرمزية.”