المقدمة
يقال الكثير حول أسباب ما يصفه البعض بـ “الحظ العاثر” الذي طال الأدب السوداني، فأعاق انتشاره بين القراء والنقاد دون اسمين بارزين هما الطيب صالح ومحمد الفيتوري. ويُرجِع باحثون ذلك لصعوبات تواجه الأدباء والكتاب السودانيين وغيرهم من المبدعين إزاء نشر إنتاجهم الفكري والإبداعي. تتعلق هذه الصعوبات –كما يعتقدون- بالتغيرات الاجتماعية والسياسية، والاضطرابات الكثيرة في البلاد. غير أنه لا يمكن تناول الثقافة في السودان عموماً، بمنأى عن تشكيلة واسعة من العناصر الحاكمة والمُقيِّدة للحركة الثقافية في السودان، من بينها، هجينية المجتمع في السودان، واللغة في السودان، والدين في السودان، والقبائل في السودان، والولاءات الأولية في السودان، وجغرافيا السودان.
فعلى هذا النحو لم يكن لـ “السودان الكبير” قبلاً –قبل انفصال جنوب السودان عام 2011م- ثقافة واحدة أو موحِدة، بل ثقافات متباينة، وحظوظ متفاوتة من التمدن والحضارة. فلارتباط شمال “السودان الكبير” بالنيل، ومن ثم مصر، وإلى حدٍ ما بثقافة البحر الأحمر، ظهرت في الشمال حضارات قديمة، منها ما هو مستمد من الحضارة الفرعونية وفقاً لباحثين ، ومنها هو نتاج لتفاعلات الداخل، مثل حضارة كرمة، ونبتة، ومروي، وقد نجح الشماليون في اختراع أبجديتهم لتصبح لغة مكتوبة.
فجمهورية السودان “جغرافياً” ما بعد عام 2011م، تأثرت سابقاً بالديانات الإبراهيمية، وكانت عبر التاريخ بوتقة لغوية، تفاعلت بها اللغات البجاوية والنوبية واليونانية والرومانية والعربية، وقد أسلم أهلها (اعتنقوا الإسلام) قبل أن يستعربوا. وفي وقتنا الحالي لازالت تعج بالتعددية الثقافية.
شهد الأدب السوداني الحديث – وفقاً لباحثين – تحولات شكلت أسس الأدب السوداني وأخرجت أشهر مؤلفيه وكتابه، فقد كانت فترة الخمسينيات حتى أواسط الستينيات من القرن العشرين منطلق بداية متعثرة أحياناً ومندفعة أحياناً أخرى في حقل الكتابة والتدوين السوداني، معتمدة على مجموعة من روايات الأدباء الراحلين كرواية “إنهم بشر” لخليل عبد الله الحاج و”الفراغ العريض” لملكة الدار محمد و”القفز فوق الحائط القصير” لأبو بكر خالد الذين كانوا حجر الأساس للفترة التي أتت بعدهم بأفضل محاصيل الأدب السوداني. وقد اتسمت المرحلة التالية لهم ببروز كتب النقد والنثر والكتابة الموضوعية التي لم تكتسب شكلاً كاملاً فبقيت متفرقة عن بعضها البعض الأمر الذي ما زال حتى الآن يعطي الأدب السوداني حالة من الضياع بين رفوف الرواية والنقد العربي.
وقد عرف السودان فنون الرسم والنقش والنحت منذ ما قبل التاريخ، وفي العصر الحديث ارتبطت الفنون التشكيلية ارتباطاً وثيقاً بالتراث الوطني والبيئة المحلية والتطور الاجتماعي، إلى جانب التحولات العالمية في مجالات الفنون التصويرية.
للمزيد حول ثقافة السودان بمختلف جوانبها، يرجى الاطلاع على ما تناولته فنك حول هذا الملف.
الإسلام والدولة والهوية
يعتبر الإسلام دين الغالبية العظمى من السودانيين، ولطالما كان جزءاً أساسياً من السياسة السودانية منذ عهد المهدية. فالهيمنة العددية لا تعني توافق الآراء بشأن دور الإسلام في السياسة والسُلطة. هناك اختلافات بين الأحزاب التي تتبنى المواقف الإسلامية.
قبل صعود الإسلام السياسي في منتصف السبعينات من القرن الماضي، سعت الحكومة العسكرية التي قادها الجنرال إبراهيم عبود (1900-1983م) أوائل الستينيات من القرن العشرين لتعريب وأسلمة جنوب السودان، باعتبار أن في هذا وسيلة لخلق هوية وطنية وتقييد لحركة التمرد.
فظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان (ح.ش.ت.س) وهي الحزب الذي تأسس في البداية في عام 1983 باعتباره الجناح السياسي للجيش الشعبي لتحرير السودان (ج.ش.ت.س) في المناطق غير
الإسلامية وفي الغالب في جنوب السودان، وكذلك إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية في نفس السنة، قد أديا إلى جلب قضية الهوية إلى الواجهة السياسية. ومنذ ذلك الحين برز الارتباط بين الحكومة في الخرطوم وبين الإسلام والنسب العربي والثقافة العربية، في مقابل الجيش الشعبي، الذي ارتبط مع الافريقية والمعتقدات المحلية والثقافة الأفريقية، والمسيحية إلى حد ما في نظر النخب الجنوبية. وقد بدأت العديد من المجموعات العرقية غير العربية في شمال السودان، ولاسيما في جبال النوبة، وجبال الأنقسنا ودارفور في الغرب والبجا في الشرق في إدراك أن الحدود الاقتصادية – الاجتماعية والتنموية لا تكاد تتميز عن الحدود العرقية والثقافية، حيث يهيمن المسلمون الناطقون باللغة العربية في وسط وشمال السودان على المجالين على حد سواء. وقد أدى هذا الإدراك إلى إشعال أزمة الهوية الوطنية.
وقد فصل الكتاب الأسود الشهير، والذي نشر في عام 1999 من قبل حركة العدل والمساواة، وهي جماعة متمردة في دارفور، مدى اختلال توازن القوى وتوزيع الثروة في السودان، وكيف أن الشمال قليل السكان يهيمن على الجنوب سياسيا واقتصاديا، بما في ذلك التجنيد في السياسة والخدمة المدنية والجيش.
وساهمت أزمة الهوية في تصعيد التوترات العرقية والصراعات المسلحة على الأطراف المهمشة من البلاد، مما أدى إلى انفصال الجنوب في عام 2011 وإلى الحرب الأهلية المستمرة في دارفور وجبال النوبة وجبال الأنقسنا في محافظة جنوب النيل الأزرق.
وقد بدأ كثير من المثقفين، وحتى من بين النخبة الشمالية المهيمنة بالتساؤل حول مسألة الهوية الوطنية و الأصالة والجوانب العملية للإصرار على أن يكون السودان دولة عربية ويفرض الهوية العربية الإسلامية على الشعب السوداني.
الإضافة إلى تأثير ويلات الحرب الأهلية، بدأت العديد من النخب الشمالية إعادة النظر في أمر عروبتهم بعد ان واجه مئات الآلاف من المغتربين السودانيين في المملكة العربية السعودية و دول الخليج التمييز، حيث تم رفض اعتبارهم عرباً بسبب بشرتهم الداكنة، على الرغم من كونهم مسلمين أتقياء ويتحدثون العربية جيدا.
هكذا صارت قضية الهوية الوطنية في السودان جزءا راسخاً من النقاش حول السياسة والحرب والسلام والوحدة والتفكك. وقد بدأت الحكومة الإسلامية في الخرطوم في قبول هذا الأمر وجعله جزءا من الأجندة.السياسية إن الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي في البلاد والاعتراف باللغات والثقافات والجماعات العرقية الأخرى واحترامها سيكون عاملاً رئيسياً في تحقيق سلام دائم وضمانة وحيدة أن لا تستغل جماعة عرقية أو ثقافية منفردة الدين واللغة كي تعطي ميزة لوضعها الاجتماعي والاقتصادي.
الأدب في السودان، وجد ضالته أخيراً
لم يتسن للأدب السوداني لوقتٍ طويل جداً أن يجد مساحة مقدرة في خارطة الأدب العربي، ويعزى بعض النقاد هذه المحدودية إلى صعوبة نشر الكتاب السودانيين لأعمالهم، نظراً للتغيرات الاجتماعية والسياسية والاضطرابات التي تحد من قدرتهم. ولم يعرف خارج السودان حتى ثمانينات القرن الماضي إلا الروائي الطيب صالح والشاعر السوداني- الليبي محمد مفتاح الفيتوري.
مسيرة الشعر السوداني
بدأ الادب السوداني المكتوب بالشعر، بحسب الناقد المعروف البروفسور محمد المهدي بشري، الذي يؤكد أن المزاج السوداني نفسه يغلب عليه الشعر منذ أيام دولة الفونج أو ما عُرف بمملكة سنار الإسلامية (1504-1821م). إن التعليم الحديث والحياة المدنية أتاحا فيما بعد محاولات وإرهاصات لأجناس إبداعية أخرى مثل الرواية.
في كتابه “النزعة الوطنية في الشعر السوداني” للدكتور الباشا برشم، تتبَع الكاتب الدافع الوطني وتأثيره على شعراء كل حقبة على حدة، من دولة الفونج والفترة التركية والمهدية والاستعمار البريطاني حتى مرافىء “الغابة والصحراء،” التي تمثل أهم مدرسة فكرية شعرية ظهرت في السودان في ستينات القرن الماضي.
ويرى الكاتب أن مناخ التصوف الإسلامي، الذي كان سائداً في السودان إبان دولة الفونج، قد لعب دوراً أساسياً في تشكيل ملامح الشعر السوداني لتلك الفترة، وأن الناس قد ألفوا العامية السودانية التي ميزت شعر تلك الفترة، مما مكن الشعراء فيما بعد من الارتقاء للفصحى بيسر. فقد تأثر الأدب السوداني بهجرات الشعوب العربية وهذا ما جعل شعر الدوبيت مكانة كبيرة في الأدب السوداني، وهو نوعٌ من الشعر الفارسي انتقل للعربية واصطلح عليه العرب بالرباعية.
ثم ظهرت بعض الأشعار المقفاة في فترة الحكم التركي للسودان (1821-1885)، اعقبهم شعراء الثورة المهدية (1885-1899) ولكنهم ساروا على النهج التقليدي من حيث الالتزام بالوزن والقافية وكانوا يفتتحون بالغزل التقليدي ثم يطرقون بعد ذلك الغرض الذى من أجله كتبت القصيدة.
اتسمت الفترة ما بعد المهدية وعودة الاستعمار الإنجليزي المصري (1899-1956) ببعض الركود. وبظهور اندية الخريجين والصحافة السودانية في عشرينيات القرن الماضي توفرت منابر جديدة للشعراء ليعبروا من خلالها عن شعورهم ووعيهم القومي. كان لهذا النشاط أثره على مجمل الحركة الثقافية والسياسية والاجتماعية في السودان.
الشعر السوداني في العصر الحديث
في الثلاثينيات والأربعينيات ظهر شعراء متميزون مثل التجاني يوسف بشير وإدريس جماع وحمزة الملك طمبل، الذين جددوا الشعر السوداني وطوروه من حيث المعنى والبناء. اعقبهم شعراء نالوا قسطاً من الاهتمام على نطاق عربي أوسع، فقد غنت السيدة أم كلثوم في الستينيات قصيدة “أغداً ألقاك” للشاعر السوداني الهادي آدم، فكانت وكأنها بيضة ديك للشعراء السودانيين على النطاق العربي، حيث فتحت المجال واسعاً أمام شعراء سودانيين آخرين لزيادة انتشارهم على المستوى الإقليمي.
استأثر موضوع الهوية كقضية وطنية بقدرٍ كبير من اهتمام الشعراء، فظهرت مدرسة الغابة والصحراء. وهي حركة شعرية ثقافية تأسست في أوائل الستينات من القرن الماضي، وقد رأت في مفهوم التمازج العربي الذي رمزت له بالصحراء والثقافة الأفريقية، ودلت عليه بالغابة، كخطاب لمسألة الهوية السودانية.
من أهم سمات حركة الشعر السوداني في العقود الثلاثة الماضية التوسع الطاغي لشعر العامية السودانية على حساب الشعر المكتوب بالعربية الفصحى. قدم شعراء العامية الذين يمثلهم محمد الحسن سالم حميد ومحمد طه القدال وعاطف خيري ومحجوب شريف وغيرهم شعراً سودانياً خالصاً بلغةٍ عامية محلية متجددة تحمل مضامين ورؤى وأفكار حداثية جديدة بإيقاعات وأساليب خاصة مستمدة من تاريخ وتقاليد ثقافة السودانيين، وتستند في الوقت نفسه على افضل إنجازات الشعر العربي الحديث. ولا يمكن اغفال إسهامات شعراء الالفية الشباب الذين تنتمى انتاجاتهم لمدارس شعر النثر التي لا تزال تثير الجدل في الساحة الثقافية.
الرواية والقصة في السودان
يرصد فؤاد مرسي في كتابه “القصة القصيرة في السودان،” سلبيات تلك الفترة التي اتسمت “بالكتابة عن الواقع بأفكار مسبقة تحكمها العادات والتقاليد أكثر مما تمليه الضرورات الفنية والجمالية، هذا عدا عيوب البدايات المعروفة من مباشرة وتقريرية، واستطراد إلى حد الملل.” ويرى أن الرومانسية كانت الاتجاه الغالب على كتابات هذه الفترة.
تعود بدايات القصة القصيرة بشكلها الحديث للمرحلة الواقعة في الفترة 1933- 1945. أشهر روادها سيد الفيل، وعبدالحليم محمد، وبدوى ناصر، ومحمد احمد المحجوب، وعرفات محمد عبدالله، ومعاوية محمد نور.
ومن المساهمين المهمين الآخرين في هذا النوع الناشىء السيدة ملكة الدار محمد، التي بدأت في كتابة القصص القصيرة، وأصبحت واحدةً من رواد الرواية السودانية.
ومع ذلك، ومع اكتساب فكرة الأدب الوطني الحديث الشرعية ، كان للتأثيرات الأخرى لمسة واضحة مع مزج الكتّاب للعوامل المؤثرة والأساليب المختلفة. فعلى سبيل المثال، تعتبر رواية “تاجوج “ التي صدرت عام 1948 للروائي محمد عثمان هاشم أول رواية سودانية مكتملة الملامح والشروط الفنية، وقد انطلق فيها الكاتب من التراث الشعبي السردي السوداني باستثمار القصة الشعبية ذائعة الصيت في شرق السودان غرام “تاجوج والمحلّق“. وقد حاول عثمان هاشم أن ينسج من هذه القصة الشعبية رواية حديثة اتضحت فيها براعته في حبك عقدة فراق “المحلّق” من “تاجوج” بعد أن تزوجها، ورسم النهاية المأساوية للعاشقين كما تجري قصص الحب عادة.
مهد هؤلاء الكتاب الطريق لكتّاب ما بعد الاستقلال في الستينيات والسبعينيات. وكما هو الحال في أي مكانٍ آخر في العالم العربي، تحول بعض الكتاب إلى الواقعية الاجتماعية للتعبير عن التغييرات السياسية الحاصلة، ولكن بشكلٍ عام تميزت الفترة بإزدهارٍ إبداعي شهد نشر المئات من الروايات.
الطيب صالح ايقونة الرواية السودانية
شهدت العقود القليلة الماضية نشر عشرات المئات من الروايات السودانية إلا أن الروائي السوداني الطيب صالح (1929 – 2009) بقي أيقونة لم يرق لقمته أحد. بدأ الطيب صالح الكتابة منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وكان مسكوناً ببيئته السودانية وعكس ذلك في رواياته وقصصه، فعالج بطريقة أدبية إيحائية إشكالية التعددية الأثنية والثقافية في المجتمع السوداني وصدمات التباين الثقافي بين الحضارات، وخاصة في روايته الأشهر “موسم الهجرة إلى الشمال،” التي نُشرت عام 1966. تحكي الرواية، التي صُنفت ضمن قائمة أفضل 100 كتاب على مر العصور عام 2002، قصة مجموعة من المفكرين الممزقين بين وطنهم السودان وأوروبا. فالشخصية الرئيسية، وهو طالبٌ سوداني مفتونٌ ويشعر بالاشمئزاز في نفس الوقت من الغرب، ينتقل إلى المملكة المتحدة حيث يُقيم علاقاتٍ مع نساءٍ مأخوذاتٍ أيضاً بالشرق.
وقال الطيب صالح في إحدى المرات عن روايته، التي لقيت انتشاراً عربياً وعالمياً وترجمت لعشرات اللغات الأجنبية، “لقد أعدت تعريف ما يُسمى بالعلاقة بين الشرق والغرب باعتبارها متناقضة في جوهرها، في حين أنها كانت تعامل في السابق في إطار رومانسي.”
ومن بين الأعمال الأخرى للطيب صالح، رواية عرس الزين التي تعكس تفاصيل المجتمع السوداني، حيث فاز الفيلم المقتبس عن الرواية بجائزة في مهرجان كان لعام 1976، بالإضافة إلى رواية الرجل القبرصي.
نافذة أمل
على مر العقود، بدأت الرواية السودانية تصبح اكثر نضجاً وقيمة وانتشاراً واعترافاً. فقد تبوأت راويتان للقاص السوداني امير تاج السر مكانتهما في قائمة البوكر العربية القصيرة لعامي 2017 و2018 ووصلت راوية “شوق الدرويش“ للقاص الشاب حمور لذات القائمة في 2016، لتؤكد حضور النص الروائي السوداني وقدرته على المنافسة لدى القراء غير السودانيين.
وعلاوة على ذلك، فازت رواية مسيح دارفور، لبركه ساكن بجائزه سين الأدبية بسويسرا وحصلت رواية وحش القلزم، لعماد البليك على جائزه اطلس للرواية. وتمثل سوق النشر المصرية والخليجية منفذاً مهماً للإنتاج الروائي السوداني.
حقق هذا الجيل من الروائيين تحولاتٍ نوعية في استخدام تقنيات الرواية واتسمت بالعمل على نقد الواقع وتشريح البنية السياسية والاقتصادية للمجتمع وتعقيداتها مثلما نجد في رواية مروان حامد “الغنيمة والإياب.” وظهر تأثر بعضهم بمدرسة الواقعية السحرية اللاتينية مثل رواية “عصافير اخر أيام الخريف” للروائي أحمد الملك، والبناء على مرويات التاريخ مثل الحسن البكري وحمور زيادة.
السينما في السودان: الفيلم الروائي أبرز الغائبين
وصلت السينما السودان عقب اختراعها وبدء انتشارها في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أواخر القرن التاسع عشر. لكن حصيلة ما يزيد عن مائة عامٍ من علاقة السودانيين بهذا الفن لم تتعدى المشاهدة وإنتاج أفلام قصيرة، معظمها أفلام تسجيلية، مع غياب شبه تام لصناعة الأفلام الروائية الطويلة.
بعد نحو عشرة أعوام فقط من تدشين أول عرض سينمائي في العالم سنة 1895 بباريس، وصل مصور للسينماتوغراف إلى السودان في 1906 وصور أفلاما فيه. وفي 1910، صور المخرج السويسري د.م. دفيد فيلماً عن رحلة صيد قام بها إلى السودان. يخبرنا رائد السينما السودانية الراحل كمال محمد إبراهيم في كتابة “السينما في السودان ماضيها، حاضرها، مستقبلها،” أن أول عرض سينمائي في السودان تمّ بمدينة الأبيض في عام 1911 ضمن الاحتفالات بمناسبة إكمال مد خط السكة الحديد إلى هناك. وفي العقد الثاني من القرن العشرين بدأت سينما “سكيتنج رينج” بالعاصمة السودانية الخرطوم تقديم عروض منتظمة للأفلام الصامتة. كان معظم الحضور يتألف من أفراد الحكومة الاستعمارية البريطانية وغيرهم من الأجانب. ثم أدخل الحكام الإنجليز السينما المتجولة التي جابت أنحاء السودان المختلفة. ومهد ذلك لظهور أول دار عرض للأفلام الناطقة في 1930.
بلغ عدد دور العرض في الثمانينات 71 داراً حسب إحصائية مدنا بها المخرج والباحث السينمائي عبد الرحمن نجدي. إلا أن كل ذلك انتهى في ليلةٍ وضحاها، فبعد أقل من عامين من استيلاء الإسلاميين على السلطة في العام 1989، تمت تصفية المؤسسة العامة للسينما التي كانت تتولي مسؤولية استيراد وتوزيع الأفلام، وبدأت العروض السينمائية في التلاشي والتوقف، فلم ينقضي النصف الأول من التسعينات، حتى صارت جل تلك الدور تقريباً مجرد أحواش وأطلال مهجورة. وحالياً، لا تعمل في السودان سوى سينما واحدة موجودة بمركز عفراء التجاري بالخرطوم.
الإنتاج السينمائي
جرى في عام 1940 تأسيس شركة السينما السودانية التي أنتجت أفلاماً غنائية قصيرة مع شركة مصر للتمثيل والسينما، لكن بداية الإنتاج السينمائي ارتبط بإنشاء وحدة أفلام السودان في عام 1949 علي يد المستعمرين الانجليز. واقتصر إنتاج هذه الوحدة آنذاك على الأفلام التسجيلية الدعائية والإخبارية والإرشادية إضافة إلى إصدار جريدة سينمائية نصف شهرية.
وفي عام 1951، جرى إنتاج أول فيلم سوداني ملون، وكان عبارة عن أغنية مصورة للفنان حسن عطية. والآن ليس هناك فيلموجرافيا عن كل إنتاج وحدة أفلام السودان، إلا أن هناك لجنة جرى تشكيلها في عام 1999 حصرت وجود 3654 فصلاً (الفصل نحو 10 دقائق) من الأفلام وأعداد الجريدة التي أٌنتجت خلال الـ50 عاماً الماضية.
ارتبطت وحدة أفلام السودان باسمي رائدي السينما السودانية: كمال محمد إبراهيم، وجاد الله جبارة (1920- 2008) اللذان التحقا بالعمل في الوحدة عند تأسيسها. وهما اللذان اخرجا كل الأفلام الأولى للوحدة ووضعا سيناريوهاتها، ثم رفدا أرشيف السينما في السودان بعشرات من الأفلام التسجيلية والروائية خلال مسيرة استمرت لعدة عقود.
في ستينات القرن العشرين، جرى إنشاء إدارة الإنتاج السينمائي في وزارة الثقافة، وتم ضم وحدة أفلام السودان إلى هذه الإدارة، كما تم تأسيس وحدة السينما في تلفزيون السودان، وبرزت آنذاك أسماء عدد من الرواد السينمائيين منهم الخير هاشم، ومحمد عيد زكي، والرشيد مهدي. وفي 1972، تم إنشاء قسم للسينما في مصلحة الثقافة بوزارة الثقافة والإعلام.
وظهر في العقدين السابع والثامن من القرن، الجيل الثاني من السينمائيين السودانيين متشكلاً من المتخصصين الذين درس معظمهم السينما في أوروبا ومصر. أحدث هذه الجيل حراكاً واضحاً في المشهد السينمائي السوداني، وكان من أبرز أفراده المخرجين: حسين شريف، إبراهيم شداد، أنور هاشم، الطيب المهدي، سامي الصاوي، عبد الرحمن نجدي. عمل هؤلاء على التأسيس لسينما تسجيلية إبداعية تتجاوز نمط الإنتاج الدعائي والإرشادي الذي اتصفت به وحدة أفلام السودان في سنواتها الأولى، وأنتجوا بالفعل أفلاماً تسجيلية وروائية قصيرة وافرة الفنيات الجمالية.
والى جانب أفلام الرائدين إبراهيم وجبارة، ظهر العديد من الأفلام التسجيلية الأخرى، منها “السودان الحديث” للخير هاشم، و”جزع النار” و”النمور شكلها أفضل” لحسين شريف، و”دائرة على حجر” لسامي الصاوي، و”الزار” (وهي ما يشبه الطقوس الشعبية تتضمن رقصات خاصة لاستحضار أو طرد الأرواح لمنع المشاكل والأمراض في المستقبل) لحورية حاكم، و”الضريح”، و”أربعة مرات للأطفال” للطيب المهدي.
السينما الروائية
سبعة أفلام روائية طويلة فقط هو ما أنجزته السينما في السودان حتى الآن. جاءت البداية في العام 1970 حينما قام “استوديو الرشيد” بإنتاج فيلم “آمال وأحلام” للمخرج إبراهيم ملاسي، ثم جاءت افلام “تاجوج” (1982)، و”بركة الشيخ” (2001) و”البؤساء” لجاد الله جبارة، و”شروق” (1973)، و”رحلة عيون” (1983) لأنور هاشم، و”العدل فوق القانون” و”يبقى الأمل” لعبد الرحمن محمد عبد الرحمن. ويمكن إضافة فيلم “عرس الزين” (1976) للمخرج خالد الصديق فمؤلف القصة والممثلون سودانيون لكن الفيلم من إنتاج وإخراج كويتي.
كانت جهود إنتاج الأفلام الروائية قد بدأت منذ وقتٍ مبكر في السودان ولكنها اختصرت في غالبيتها على الأفلام القصيرة، وجاءت بواكيرها على يد الرائدين كمال محمد إبراهيم وجاد الله جبارة، فقدم الأول فيلمي “الطفولة المشردة” (1952) و”المنكوب،” وقدم الثاني “تور الجر في العيادة،” ثم توالي الإنتاج، واشتهر مما أنتج “انتزاع الكهرمان” لحسين شريف (1975)، و”جمل” و”حبل” و”إنسان” لإبراهيم شداد، و”المحطة” للطيب المهدي وغيرهم.
نالت بعض الأفلام السودانية جوائز من مهرجانات دولية وإقليمية، ومن بين ذلك فاز فيلم “الضريح” للطيب المهدي بذهبية القاهرة للأفلام القصيرة عام 1972، ونال فيلم “ولكن الأرض تدور” لسليمان محمد إبراهيم ذهبية مهرجان موسكو لعام 1979، وحصد فيلم “جمل” لشداد جائزة النقاد في مهرجان كان عام 1986، وجائزة مهرجان ليل، وجائزة السيف الذهبي في مهرجان دمشق للأفلام التسجيلية، وحصل فيلم “حبل” للمخرج نفسه على ذهبية مهرجان دمشق في العام التالي، كما حاز فيلم “تاجوج” لجاد الله جبارة على عدة جوائز في تسعة مهرجانات دولية وإقليمية.
النشاط الموازي
صاحب عمليات المشاهدة والإنتاج السينمائيين في السودان أنشطة ثقافية وفكرية أخرى مرتبطة بفن السينما.
ومن ذلك ظهرت في العام 1957 جمعية الخرطوم للفيلم، وفي عام 1978 تأسس نادي السينما السوداني، وصدرت في ذات العام مجلة “سينما” عن وزارة الثقافة، وبعدها مجلة “السينما والمجتمع” في عام 1980. ثم شهد العام 1989 ميلاد “جماعة الفيلم السوداني” التي اهتمت بعمليات صناعة الأفلام والتدريب.
غياب الفيلم الروائي
يلخص المخرج والباحث السينمائي وجدي كامل في كتابه “السينما هرم الدولة المقلوب،” أهم المشكلات التي واجهها إنتاج الأفلام الروائية الطويلة ومن أههما: غياب دور الدولة في التخطيط السينمائي، وعزوف القطاع الخاص عن الاستثمار في هذا المجال، وانهيار دُور العرض في التسعينيات، فضلاً عن الافتقار للأجهزة والمعدات التصويرية الحديثة، وعدم وجود متخصصين خريجين في العديد من المجالات الدقيقة للإنتاج السينمائي، إضافة إلى وجود رقابة رسمية متزمتة. ويضيف كامل سبباً آخر ألا وهو: “ضعف الإسهام وضعف والمهارة الفنية والتقنية في المحاولات المعدودة التي جرت لإنتاج أفلام روائية سودانية طويلة.” ويقول إن تلك التجارب لم تعمل على تنظيف الأرض من شوك التجريب، فواجهت مصائر بائسة من الناحية التطبيقية الحرفية والفنية ونالت سمعة سلبية لدى المشاهد، ما جعل القطاع الخاص غير متحمس للدخول في مغامرات من تلك الشاكلة.
التراجع الشامل
ينقل السينمائي ناصر الطيب في كتابه “نشأة وتطور الفيلم التسجيلي في السودان” عن عوض الضو، آخر مدير لإدارة الإنتاج السينمائي، قوله إن العمل “استمر بصورة جيدة في الإنتاج السينمائي حتى 1981- 1982، بعدها بدأ العد التنازلي للاهتمام بالسينما من جانب الدولة.” وعقب وصول الإسلاميين للسلطة في 1989 امتدت النكسة التي أصابت نشاط المشاهدة السينمائية في السودان لتصيب الإنتاج السينمائي والنشاط الثقافي الموازي في مقتل. فقد اعتبرت الأيديولوجية الإسلامية الحكومية السينما وغيرها من فنون الأداء الأخرى غير إسلامية ومخالفة للأخلاق الإسلامية. تمت تصفية مؤسسة الدولة للسينما، وقسم السينما في مصلحة الثقافة، ووحدة السينما في تلفزيون السودان، وجرى قطع التمويل، فتوقف الإنتاج بشكلٍ تام منذ العام 1995. كما تم إغلاق نادي السينما، وتوقفت مجلة “سينما” عن الصدور، وتشتت عدد مقدر من السينمائيين السودانيين في دول المهجر والاغتراب.
محاولات الإحياء
شهدت السنوات عقب بداية القرن الواحد والعشرين تأسيس وتنشيط عدد من الكيانات التي عملت لإحياء النشاط السينمائي في السودان، فجرى في العام 2001 بعث نادي السينما السوداني، كما تم إعادة تأسيس “جماعة الفيلم السوداني،” وتولت الجماعة في 2016 إعادة إصدار مجلة “سينما.”
وفي 2010 وبرعاية من معهد جوتة الألماني بالخرطوم بدأ مشروع “سودان فيلم فاكتوري” لتدريب الشباب على أسس صناعة الأفلام. وفي عام 2014 أصبح هذا المشروع منصة سودانية مستقلة لإنتاج الأفلام والسينما، وأنتجت المنصة أكثر من 44 فيلماً، ونظمت ما يزيد عن 50 ورشة تدريبية ودروساً رئيسية في المجالات المختلفة للصنعة السينمائية.
كما شهدت السنوات الأخيرة قيام كيانات أخرى مهتمة بعمليات الإنتاج والمشاهدة السينمائيين، من أبرزها مجموعات “سينما الشباب،” و”غرفة صناعة السينما،” ومبادرة تعليم الأطفال صناعة السينما. وفي عام 2002، قامت عدد من المهرجانات السينمائية التي أحدثت حراكاً سينمائياً، حيث انتظم سنوياً “مهرجان السودان للسينما المستقلة” الذي تنظمه “سودان فيلم فاكتوري،” ومهرجان جائزة تهارقا الدولية للسينما والفنون الذي تنظمه “سينما الشباب،” ومهرجان الفيلم الأوروبي، ومهرجان الخرطوم للفيلم العربي.
أحدث المقالات
فيما يلي أحدث المقالات التي كتبها صحفيون وأكاديميون مرموقون بشأن موضوع “الثقافة” و “السودان”. تم نشر هذه المقالات في ملف البلد هذا أو في أي مكان آخر على موقعنا على الإنترنت: