وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المسيحيون في غزة – دق ناقوس الخطر

مسيحيون في غزة في احتفالات أحد الشعانين 2016
مسيحيون فلسطينيون يشاركون في احتفالات أحد الشعانين في كنيسة القديس برفيريوس في مدينة غزة، قطاع غزة في 24 أبريل 2016. Photo APA Images/SIPA.

فلسطين، مهد الديانات السماوية- اليهودية والمسيحية والإسلام. تلك الأرض المقدسة التي ذكرها التوارة والإنجيل والقرآن، ففي مدينة بيت لحم ولد المسيح عيسى ابن مريم “يسوع،” وترعرع في مدينة الناصرة وعمل بخدمة التبشير في الجليل وحوض الأردن، وبحسب المعتقد المسيحي “صُلب ودُفن وقام وأرتقى الى السماء” في موقع كنيسة القيامة في القدس. هذه الحقائق التي ذكرتها الكتب السماوية والمعتقدات في المراجع التقليدية، جعلت أتباع الديانة المسيحية في العالم أجمع يطلقون على فلسطين أو الأراضي الفلسطينية “الأرض المقدسة.”

تُشير التقديرات أنه قبل إنشاء الدولة الإسرائيلية عام 1948، كانت نسبة المسيحيين الفلسطينيين حوالي 8% من السكان، و لكن هذه النسبة انخفضت تدريجياً بفعل الهجرة المكثفة وبفعل تدني معدلات الإنجاب في أوساط المسيحيين مقارنة بالمسلمين واليهود والدروز، لتصل نسبتهم إلى حوالي 1.25% في مجمل الأرضي الفلسطينية. بلغة الارقام تشير بعض التقديرات الحديثة إلى أن أعداد المسيحيين الفلسطينيين تصل إلى حوالي المليون نسمة، لكن أكثر من ثلثيهم يقيم خارج الوطن وخاصة في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة. وما زال يعيش في المناطق الفلسطينية حوالي 50,000 مواطن فحسب، وما يقارب من 117,000 مواطن في المناطق العربية داخل الخط الاخضر المسماه بـأرضي عام 1948 التابعة لسيطرة إسرائيل. يقطن معظم المسيحيين الفلسطينيين بشكل أساسي في مدن بيت لحم وبيت جالا والقدس ورام الله وغزة وفي كلٍ من الناصرة وحيفا داخل الخط الاخضر.

يعتبر المسيحيون الفلسطينيون أقدم الجماعات المسيحية في العالم، لذا يطلق عليهم لقب “المسيحيون الأوائل” ولقب “الحجارة الحية،” لكونهم أول من دخل في الديانة المسيحية كما تم وصفهم من قبل بطرس الأول في رسائله. وعلى الرغم من عددهم المحدود نسبياً في فلسطين، إلا أن المسيحيين هنا يتبعون عدة طوائف، حيث يتبع أكثر من نصف المسيحيين في الأراضي الفلسطينية كنيسة الروم الأرثوذكس بما نسبته حوالي 51% من المسيحيين في الضفة والقطاع وداخل الخط الاخضر، فيما تتوزع البقية على الكنائس المختلفة على النحو التالي: اللاتين (الكاثوليك) 30%، والروم الكاثوليك 6%، والبروتستانت 5%، والسريان 3%، وتبلغ نسبة كل من الأقباط والأحباش والأرمن وغيرهم من المسيحيين حوالي 2%.

ينقسم المسيحيون في قطاع غزة إلى ثلاثة أقسام، منهم من كان يقيم في غزة منذ القدم، وقسم ثاني هاجر خلال النكبة الفلسطينية عام 1948، وقسم ثالث جاء مع عودة الرئيس الراحل، ياسر عرفات إلى قطاع غزة وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 وأقاموا فيها.

تعايش سلمي

لا يوجد من يشكك بأن العلاقة الاجتماعية بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين تعتبر فريدة من نوعها اذا ما قورنت ببعض بلدان المحيط العربي. عضو مجلس وكلاء كنيسة الروم الأرثوذكس في القطاع السيد سهيل سابا وصف العلاقة الاجتماعية في إحدى المقابلات الصحيفة بأن “مسيحيو القطاع هم مسيحيو الدين ومسلمو الثقافة” وهذا جعلهم ينعمون مع المسلمين بحالة تعايش تاريخية جعلت من الصعب التمييز بين المسيحي والمسلم. وعلى صعيدٍ آخر، ذكرت إحدى الدراسات أن وسائل الاعلام الإسرائيلية دأبت على نشر إشاعة تعرض المسيحيين لاضطهاد داخل المناطق الفلسطينية وخاصة قطاع غزة، مما يدفعهم إلى الفرار من المنطقة. جاء الرد من ابناء الطائفة المسيحية في غزة بأن الطائفة المسيحية في قطاع غزة لا تعاني من أي ضغوطات من قبل أي احد، بل تعيش بحرية ودون خوف وتمارس العبادات بكل حرية. هذا ما أكده راعي طائفة اللاتين في غزة الأب امانويل مسّلم، بأن العلاقات المسيحية المسلمة بأفضل حالاتها، ورفض أن يتم وصف مغادرة بعض العائلات من أبناء الطائفة للقطاع بأنها هجرة سياسية، بل هي هجرة اقتصادية ليس أكثر.

لكن المتتبع للأمر في قطاع غزة يجد أن اعداد المسيحيين في غزة في تناقص مستمر. فأغلبهم غادر القطاع للاستقرار في الضفة الغربية بعد الزواج أو غادر إلى خارج البلاد، وخاصة أوروبا، للدراسة. فقبل عشر سنوات كانت أعداد المسيحيين حوالى 3400 مواطن، وتشير تقديرات عام 2015 بأن العدد الحالي لا يتجاوز 1430 مواطن، غالبيتهم ينتمون الى الكنيسة الارثوذكسية وذلك بتقدير كاهن رعية العائلة المقدسة في غزة، الأب ماريو دا سيلفا، الذي يعمل كرئيس روحي للجماعة المسيحية في غزة.

يمكن القول إن هناك مجموعة من العوامل الدينية والتاريخة ساهمت في ترسيخ العلاقة واللقاء الاسلامي والمسيحي في فلسطين بشكلٍ عام وفي قطاع غزة بشكلٍ خاص. من أهم هذه العوامل العهدة العمرية التي أعطاها الخليفة عمر بن الخطاب للبطريرك صفرونيوس عند فتح القدس في عام 638 ميلادية لحفظ حقوق المسيحيين وأماكن عبادتهم. تعتبر هذه العهدة أهم ميثاق بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين، إذ أقرت العهدة العمرية باعتراف الإسلام بالأماكن المسيحية المقدسة وأملاكهم وباستقلالية الكنائس المسيحية في إدارة شؤونها الذاتية.

العامل الآخر، الذي لا يقل أهمية في هذا الصعيد، هو التعايش المشترك في أماكن سكن مشتركة في مدينة غزة، حيث عاش وما زال يعيش المسيحي جنباً إلى جنب مع المسلم، يشاركه أفراحه وآلامه، مما عزز أواصر العلاقة بين الطرفين. فمعظم مسيحيي قطاع غزة يؤدون شعائرهم في كنيسة القديس برفيريوس للطائفة الأرثوذكسية التي تجاوز عمرها 1650 عاماً، وهي كنيسة تتوسط مدينة غزة، وتقع في قلب حي شعبي معظم سكانه مسلمون، وهي ملاصقة تماماً لمسجد بحيث لا يفصلهما إلا جدار مشترك.

يضاف إلى ذلك مساهمة المؤسسات والجمعيات الاهلية التي تعمل في مجالات التعليم والصحة والانشطة الرياضية وغيرها، وتقدم الخدمات للجميع بغض النظر عن الخلفية الدينية، مما يُساهم في ترسيخ التعايش واللقاء المشترك. كما يجب الاشارة هنا الى الآثار الناجمة التي افرزتها همجية الاحتلال والصراع الفلسطيني الإسرائيلي بجميع أبعاده على السكان ككل من دون اعتبار للخلفية الدينية، بإيجاد نوع إضافي للتضامن والوحدة الفلسطينية. فلم يتم التشكيك يوماً بوطنية المواطن المسيحي وباعتزازه بفلسطينيته وبانتمائه إلى الوطن، ومشاركته العمل المقاوم ضد الاحتلال الاسرائيلي، وما جابه كل ذلك من التضحية بالنفس والاعتقالات وما شابه.

اختلال التناغم

هذه الصورة الوردية في وصف العلاقة الاجتماعية بين المواطنين المسلمين والمسيحيين سوف يتحدث عنها المرء في المستقبل القريب بصيغة الماضي. ففي حقيقة الامر، وصف القائمون على الكنيسة في قطاع غزة، ومنهم الاب مانويل مسلم والاب الحالي ماريو دي سيلفيا، بأن حكم حماس في غزة لم يشعرهم بالخوف على مستقبلهم، ولكن بعض الاحداث التي مرت في السنوات القليلة السابقة اثناء فترة حكم حماس جعلت الأمور تدخل في منحنى جديد.

فقد تكررت بعض الحوادث التي يمكن وصفها “بالفريدة من نوعها”، حيث تم القاء قنبلة يدوية على ساحة كنيسة دير اللاتين الواقعة في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة بتاريخ 26 فبراير 2014، وقد سبق ذلك كتابة بعض الشعارات التحريضية على جدران الكنيسة، من بينها “إنتقاماً لمسلمي إفريقيا الوسطى،” و “الأيام بيننا وبينكم يا عباد الصليب.”

أحداث مماثلة حدثت في شهر فبراير لعام 2008 عندما تم تفجير مكتبة جمعية الشبان المسيحية، وفي شهر ايار لعام 2008 حيث تم إلقاء قنبلة يدوية على مدرسة الراهبات الوردية دون اصابات. وعلى ضوء هذه الاحداث، أدان المجلس التشريعي، الذي يتكون غالبيته من حماس بغزة، هذه الهجمات وكنوع من التعويض من قبل حكومة حماس لجمعية الشبان المسيحية تم الغاء جميع رسوم الإيجار السابقة على الجمعية.

ومن الجدير بالذكر أيضاً، لغة الخطابة التي يستخدمها السلفيون الدعويون في طبيعة التعامل مع المسيحيين، فعلى سبيل المثال، يُطلب من المسلمين عدم تقديم التهاني للمسيحيين في أعياد الميلاد أو المتاجرة بالبضائع التي تستخدم في الاعياد المسيحية مثل شجرة عيد الميلاد، ناهيك عن الطلب من الشباب الصغار بعدم إقتناء ملابس أو أغراض عليها شعارات الصليب، مثلاً قمصان أو حقائب نادي برشلونة الأسباني.

حدثٌ آخر أوجد نوعاً من البلبلة والضجة في غزة عندما أشهر شاب وسيدة مسيحية مع بناتها الثلاث إسلامهم وتحولهم عن الديانة المسيحية في شهر يوليو لعام 2012. السيدة المسيحية التي دخلت الاسلام إعتبرت نفسها مطلقة من زوجها بعد دخولها الاسلام. مطران الكنيسة الأرثوذوكسية في غزة، أليكسيوس، تحدث عن خطف وإجبار الشاب والسيدة لدخول الإسلام، وهو ما نفاه رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي، حسن الجوجو، نفياً قاطعاً، وطالب مطران الكنيسة اليكسيوس بالحضور والإلتقاء بالشاب والسيدة بوجود مؤسسات حقوق الانسان والاعلام والاعتذار فيما بعد عن الادعاءات الباطلة.

هذه الأحداث، وعلى الرغم من قلتها، إلا إنها من الممكن أنّ تشكل ضربة للنسيج الاجتماعي الغزي بين المواطنين المسيحيين والمسلمين في المستقبل القريب. وهناك شبه إجماع بين المواطنين بأن السلفيين الجهاديين في غزة أمثال جيش الأمة، وجيش الاسلام، وداعش وراء الأعمال العدائية ضد المواطنين المسيحيين.

السؤال المحوري في هذا الشأن يتعلق بحقيقية تصدي القائمين على الحكم في قطاع غزة لهذه المجموعات أم لا. المجموعات السلفية الجهادية تُوصف من قبل الغالبية العظمى من السكان في القطاع بأنهم “يشوهون الاسلام، وبأن الاسلام لا يمت لهم بصله”، وبعض الناس تصفهم بشكل واضح وصريح بالمجموعات الإرهابية.

والحق يقال بأن حماس أبدت تعاطفاً حقيقياً مع الطائفة المسيحية بغزة، فلم يتوقف الأمر على الشجب واستنكار الاعتداءات التي تمت، وبتعيين “لجان لتقصي الحقائق” وبإلاعراب عن تضامنها مع السكان المسيحيين، بل تطور الامر وفي مرات عدة لجأت حماس لاستخدام القوة أمام السلفيين وإيداع المتشددين منهم في المعتقلات، على الرغم من أن حماس لا تفضل الدخول في مواجهة مع الجماعات المتشددة، وتفضل قنوات الحوار.

ومع ذلك، بدأ ناقوس الخطر يدق، فحالة التعايش المذكورة أعلاه باتت لا تروق لبعض الدعاة من المسلمين المتشددين، حيث بدأت تظهر مؤخراً بعض الظواهر الغريبة والشاذة في المجتمع الغزي، خاصة في الخطاب الديني المتشدد والذي يحاول خلق حالة من الشرخ بين الشعب الواحد، منها على سبيل المثال، ما يتعلق بالاحتفال بعيد الفصح وعيد الميلاد.

غزة ليست لوحدها، بل موطن المسيح بأكمله مهدد في المستقبل القريب بأن يكون بلا مسيحيين. فبالإضافة إلى تصرفات السفليين، تعمل الممارسات وسياسة التضييق الإسرائيلية، ومنها الحصار على قطاع غزة، والجدار العازل في الضفة الغربية، وسياسات التهويد المستمرة في القدس الشرقية، بالرغم من استهدافها الفلسطينيين بشكلٍ عام، على تهجير المسيحيين بصورة غير مباشرة؛ إذ أنّ هجرة المسيحيين من موطن المسيح تعتبر كارثة إنسانية وحضارية.

user placeholder
written by
telesto
المزيد telesto articles