وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مواكبة الشركس: كيف تستعيد جماعة مضطهدة تراثها

Specials- Circassian
أتراك من أصول شركسية يتظاهرون حاملين لافتات خارج السفارة الروسية في أنقرة في ٢١ مايو ٢٠١٤، في الذكرى ١٥٠ للإبادة والتهجير القسري للشركس. Photo: ADEM ALTAN / AFP

يحاول الشركس، وهم أقليةٌ مسلمة تم طردهم من روسيا خلال الفترة الحكم القيصري، في جميع أنحاء العالم، استعادة تراثهم. وعليه، يتنافس الشركس في دول المنفى مثل تركيا وسوريا وإسرائيل والأردن ومصر ولبنان ومنطقة البلقان، على بناء والحفاظ على هويةٍ ثقافية شركسية مميزة، بما يحمله ذلك من آثارٍ سياسية.

فقد كانت الذكرى السنوية الـ155 للإبادة الجماعية الشركسية في عام 2019 بمثابة تذكيرٍ بأنه في الفترة ما بين 6 مارس و21 مايو 1864، أشرفت الإمبراطورية الروسية على مذبحةٍ قُتل فيها 400 ألفٍ من الشركس إلى جانب النفي القسري لـ4 ملايين نسمة منهم، ليبقى 50 ألفاً فقط في وطنهم. وعلى الرغم من أن هذا العدد قد ارتفع منذ ذلك الحين إلى ما يقرب من 400 ألف، إلا أن اضطهاد الشركس استمر حتى انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991.

في ذلك الوقت، تم إعادة تشكيل فكرة الهوية الشركسية الموحدة، على الرغم من أن المشاعر القومية ظهرت خلال أوائل القرن التاسع عشر عندما صمم الدبلوماسي الاسكتلندي ديفيد أوركهارت العلم الشركسي، وفي ستينيات القرن التاسع عشر، اتحدت عشائر مختلفة في محاولةٍ فاشلة لتقديم التماساتٍ إلى القيصر للتفاوض على معاهدة سلام في سوتشي.

وفي التسعينيات، ركز النشاط الشركسي على إلغاء أسماء الأقليات العرقية، واقترح بدلاً من ذلك مصطلح “شركسي” لجميع أعضاء المجموعة.

وفي حين فشل هذا أيضاً، فمن الواضح أن الشتات الشركسي حريصٌ على الإنخراط بتراثه واستعادته. تجلى ذلك بطرقٍ مثيرة للاهتمام، من تكييف الأزياء التقليدية مع العصر الحديث إلى محاولة إنشاء أو الحفاظ على الهوية الشركسية المتميزة للمدن التي يعيشون فيها. فعلى سبيل المثال، حاول رئيس المجلس في كفر كما، وهي بلدة شركسية في شمال إسرائيل، مؤخراً تطبيق إعلانٍ بأنه لا ينبغي للبلدة أن تسمح لغير الشركس ببناء منازل في المنطقة، مصحوباً بعريضة موقعة من حوالي 1200 شخص.

نشر السكان علم الشركس على صفحاتهم على الفيسبوك، بينما انتشر وسم #ImACircassianAreYou (أنا شركسي هل أنت كذلك) على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي. كما ظهرت جهودٌ للحفاظ على اللغة الشركسية، وكذلك السياحة التراثية، مما دفع الكثيرين في الشتات لزيارة المناطق الشركسية مثل أديغيا في روسيا.

ومع ذلك، تعتقد بعض العناصر من السكان الشركس أن تبني الممارسات التقليدية ليس كافياً ويؤيدون اتخاذ إجراءاتٍ أكثر تطرفاً، بما في ذلك العودة إلى “الوطن.”

إن عودة الشركس إلى روسيا ليس بالأمر الجديد، إلا أن الحصص النسبية الصارمة والإجراءات المطولة جعلت هذا الأمر شديد التعقيد، بحسب ما قاله أحمد كتاو، رئيس المنظمة الوطنية للتنوع في العراق، مما يُثني الكثيرين عن القيام بذلك.

وقال نيل هاور، وهو صحفي كندي ومحلل لقضايا الأمن في دول القوقاز: “يُحرمون بانتظام من الوثائق أو يُبعدون عند الحدود.” وأضاف “لكن في ظل غياب حملة قمع كاملة من الجانب الروسي، لا يزال هناك ما يكفي من الإرادة من الشتات الشركسي للحفاظ على استمرار جهود الإعادة إلى الوطن على مستوى ما.”

فقد شهدت الحرب في سوريا عودة العديد من الشركس السوريين إلى روسيا. وعلى الرغم من عدم كونهم لاجئين رسميين، إلا أنهم تمكنوا من التأقلم والعثور على وظائف بمساعدة المنظمات غير الحكومية، على حد قول هاور.

أما أولئك الذين يملكون طموحاتٍ أكبر، فيودون أن تعترف موسكو بالإبادة الجماعية الشركسية والتهجير الذي أعقب ذلك. وقال كتاو “[الحكومة] لا تقدم أي تعويضاتٍ أو تسهيلاتٍ لعودة الشركس إلى وطنهم”.

The Circassian Diaspora AR 1024
المصدر: Caucasus: Russian Atrocities in the North (18th–20th Centuries), by Andrew Andersen. إضغط للتكبير. @Fanack.com ©Fanack CC BY 4.0

وفي كل عام، يُحيي الشركس ذكرى الإبادة في 21 مايو، التي يُشيرون إليها بـ”اليوم الأسود،” إذ لا تزال ذكريات هذه المأساة والغضب العميق الذي تسببت فيه محورية للهوية الشركسية.

“هناك رغبة قوية للغاية بين جزء كبير من الشعب الشركسي… لرؤية الجمهوريات الشركسية الثلاث كلياً أو الشمالية بالكامل في شمال القوقاز – قبردينو – بلقاريا، و قراتشاي- شركيسيا، وأديغيا – متحدون في جمهورية واحدة،” بحسب ما يقوله هاور، وهي الفكرة الأخرى التي تعتبر أكثر تطرفاً بين الشركس الذين يفضلون الالتزام بخط أكثر ودية مع روسيا. وأضاف “أصبح [الاتحاد] مطلباً للنشطاء والحركات الوطنية الشركسية، الذين يشعرون بالفزع بسبب سياسات مثل ما حصل العام الماضي باختزال تعليم اللغة الأم باعتبارها مادة اختيارية في المدارس.”

ففي 19 يونيو 2018، اعتمد البرلمان الروسي مشروع قانون يجعل التعليم بـ34 لغة من لغات روسيا الرسمية البالغ عددها 35 لغة اختيارياً، ليقتصر تعليم لغات الأقليات على ساعتين في الأسبوع. في السابق، كانت الحكومات الإقليمية تحدد طريقة تعليم اللغات أو تطبيقها في المدارس، إذ كان كثيرون يعتمدون لغتهم الرسمية الخاصة بالأقلية في السنوات القليلة الأولى من التعليم الابتدائي، حسب ما كتب هاور في مجلة فورين بوليسي. وأشار إلى أن مشروع القانون كان يهدف إلى قمع هوية الأقليات في شمال القوقاز خوفاً من القومية العرقية، والتي، ربما من المفارقات، بدأت في الازدياد مع بدء مناقشة مشروع القانون.

ترى موسكو أن أي تحركاتٍ نحو القومية الشركسية يُشكل تهديداً، حتى وإن أكد غالبية النشطاء تفانيهم تجاه الاتحاد الروسي، وفقاً لهوير، إذ إن “أي نشاطٍ قومي في شمال القوقاز مرتبطٌ بشكل لا ينفصل في ذهن الكرملين بالشيشان والانفصالية.” وأضاف أن هذا يؤدي إلى تعرض الناشطين للمضايقة من قبل الأجهزة الأمنية وتهميشهم من خلال تقوية تلك المنظمات التي تلتزم بشكلٍ أقرب إلى خط الحكومة.

هذه الفجوة في الدوائر الشركسية تمنع حقاً الحركة الموحدة، ففي تركيا، على سبيل المثال، حيث يتراوح عدد الشركس بين 130 ألفاً و3 ملايين نسمة، اعتماداً على المعايير المستخدمة، هناك مجموعتان رئيسيتان: اتحاد الجمعيات القوقازية في تركيا، والمعروف أكثر باسم اختصاره التركي الكافييد (KAFFED)، واتحاد الجمعيات الشركسية أو CERFED. في حين يحتفظ اتحاد الجمعيات القوقازية في تركيا بنظرة محافظة ونشاطٍ سياسي، فإن اتحاد الجمعيات الشركسية أكثر ليبرالية بالمعنى الديني ويزعم أنه غير سياسي بطبيعته، على الرغم من نموه في ظل حزب العدالة والتنمية الحاكم في خضم محاولاته جذب الناخبين الشركس. تسعى كلتا المجموعتين إلى إنشاء روابط أقوى مع الوطن التاريخي على الرغم من اختلاف نهجهما. ويؤكد اتحاد الجمعيات القوقازية في تركيا على العلاقات البراغماتية مع روسيا، في حين اختار اتحاد الجمعيات الشركسية خطاباً أكثر حدة.

من جهتهم، لا يدعو ممثلو المنظمات الشركسية التي تعمل رسمياً في روسيا إلى الاعتراف بالإبادة الجماعية أو إستعادة الأراضي التاريخية الشركسية. ومع ذلك، فإن عدد الشباب الذين يدعمون هذه الفكرة الأكثر تطرفاً يتزايد باطراد. ويشعر النشطاء أن شخصيةً ما يمكنها تعبئة “الشباب الوطني” ستكون قادرة على قيادة حركة قومية في المستقبل. فقد تم تعزيز هذه الحركة عن طريق الإنترنت، حيث وجد الشركس في جميع أنحاء العالم بعضهم البعض من خلال منتديات الدردشة وما شابه ذلك.

وبالرغم من أنه بات اليوم بإمكان الشركس المشتتين جغرافياً التواصل وتنظيم صفوفهم، إلا أنه من المرجح أن تظل محاولات إعادة تحديد هويتهم وتراثهم رمزية إلى حدٍ كبير ما لم يتمكنوا من التغلب على المقاومة السياسية الشرسة.