وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حدود التعاطف الأوروبي ما بين دعم أوكرانيا والعنصرية

حدود التعاطف الأوروبي
لاجئون يقفون مع أمتعتهم بين الحدود الأوكرانية ومدينة برزيميسل البولندية في 8 مارس 2022. لويزا جولياماكي / وكالة الصحافة الفرنسية

جاستن صالحاني

قبل سبع سنوات، التمس نحو 1.3 مليون شخص اللجوء إلى أوروبا، وأطلق المتابعون والصحفيون والسياسيون على ذلك الحدث “أزمة الهجرة“. وبسبب تلك الأزمة المزعومة، تكونت موجة دعم لليمين المتطرف، أو بالأحرى موجة دعم للسياسات اليمينية المتطرفة في أوروبا.

واليوم تتدفق موجات اللاجئين الأوكرانيين على البلدان المجاورة هربًا من الغزو الروسي. واستقبلت أوروبا بالفعل أكثر من مليونين لاجئ في غضون أسبوع واحد فقط، ومع ذلك لم نسمع كلمة “أزمة” واضحةً جليةً في الخطابات المختلفة.

بل إن الواضح الجلي هنا هو ازدواج المعايير الغربية. بطبيعة الحال تساءل كثير من الناس عن سبب اختلاف رد الفعل الأوروبي في عام 2022 مقارنةً بالذعر العام في عام 2015. لكن من يطرح ذلك السؤال هم أهل الجنوب أو من ليسوا من العرق الأبيض ببساطة. وإن كان لديك شك في هذا الاختلاف، دونك ما تقدّمه عدد من وسائل الإعلام الغربية من تفسيرات عنصرية عن سبب ترحيب أوروبا باللاجئين اليوم. وفي السياق ذاته، علّق عدد من مستخدمي موقع تويترعلى تلك المفارقة في تغطية الإعلام الغربي واصفين ما يحدث  بأنه “كشف المستور وخبايا النفوس“.

فهذا مراسل شبكة “سي بي إس” يعلق مدعيًا اختيار كلماته بعناية: “هذا البلد ليس العراق أو أفغانستان، بل بلد متحضر نسبيًّا وأوروبي بدرجة أكبر”، ثم  عاد لاحقًا و اعتذر عما ذكر.

وهذا مثال واحد فقط من بين أمثلة لا تُحصى انتشرت سواء على التلفزيون الفرنسي والبريطاني والأمريكي أو في الصحف فقال أحدهم: “الحق غائب عن الحرب في هذه المرة، أولئك الناس يشبهوننا ولديهم حسابات على إنستغرام ونتفليكس”. كما  ورد في مقال في صحيفة تليغراف أن: “هذا ليس بلدًا  فقيرًا ونائيًا في مكان ما من العالم”.

وقد أصدرت جمعية الصحفيين في الدول العربية والشرق الأوسط “AMEJA” بيانًا  للرّدّ على ذلك ورد فيه: “تُدين الجمعية وترفض رفضًا قاطعًا التعليقات الاستشراقية والعنصرية التي تصف أي شعب أو بلد بأنه غير متحضر أو ساحة طبيعية للصراع بسبب عوامل اقتصادية”.

وفي الوقت نفسه، ما يزال السوريون يعانون حرب استنزاف سببها الرئيس هو الدكتاتور المتوحش بشار الأسد. كما يستمر نضال الفلسطينيين اليومي لتحرير بلدهم من الاحتلال الإسرائيلي والفصل العنصري. واليمن أيضًا مقبل على عام جديد من حملة القصف العشوائي. وهكذا، فإن شعوب الشرق الأوسط تتفهم ما تمر به أوكرانيا وسوف تدعمها في معركة التحرير. وعلى ذكر سوريا، وجب التذكير بأن أهل ذلك البلد تحديدًا يعانون القصف الروسي الذي استهدف المنشآت المدنية مثل المستشفيات على مدار سنوات. واعترف الكرملين بأنه اختبر تكتيكات وأسلحة وحشية ضد السوريين المعارضين الأسد، واليوم تُستعمل هذه التكتيكات نفسها لقتل الأوكرانيين عشوائيًا وانتقائيًا.

ومع ذلك، فإن دعم معركة أوكرانيا في سبيل التحرير ومساندة المدنيين الأوكرانيين للتغلب على معاناتهم يبرز اختلافًا صارخًا. فانظر في تعليقات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في الأيام التي تلت الغزو الروسي، قال ماكرون إن “فرنسا ستؤدي دورها مثل جميع الدول الأوروبية من أجل مساعدة الشعب الأوكراني، وسوف تستقبل اللاجئين الأوكرانيين”. لكن رد فعل ماكرون بعد سقوط كابول في أغسطس الماضي كان مناقضًا فجًا لموقفه الإنساني تجاه أوكرانيا، إذ قال إن فرنسا “تعمل على حماية نفسها من موجة المهاجرين”.

وقد كان نصيب كيريل بيتكوف، رئيس الوزراء البلغاري، من هذه الفظاظة أكبر حين ذكر في تصريحات مشيرًا إلى الفارين من الغزو الروسي أن “هؤلاء الناس أوروبيون ومتعلمون وأذكياء. ما يحدث الآن ليس مثل موجات اللاجئين التي اعتدنا عليها حيث نرى اناسًا نشكّ في هويتهم وماضيهم الغامض وأنهم إرهابيون”.

“تضامن إنساني انتقائي”

وفقًا  للاتحاد الأوروبي وما تعتمده الأمم المتحدة فإن اللاجئ هو “كل شخص يتواجد، بسبب خوف مبرر من التعرض للاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، خارج بلده  الأم، ولا يستطيع أن يستظلّ بحماية ذلك البلد، أو لا يريد ذلك بسبب الخوف”. وبحسب هذا التعريف، تبدو عبارة “خوف مبرر” تنطبق على الأوكرانيين، لا الأفغان أو السوريين أو العراقيين. هذا هو التطبيق الفعلي الذي يعمل به الاتحاد الأوروبي في تعريفه للّاجئ، إذ لا يستند التعريف إلى ميثاقهم القانوني، بل ينظر إلى الناس بناءً على العرق والدين والجنسية.

وقال زياد ماجد، الكاتب الفرنسي اللبناني والأستاذ المشارك في الجامعة الأمريكية في باريس، لصحيفة “لوريان لو جور” اللبنانية اليومية، إن “حملة التضامن الهائلة مع الأوكرانيين تدل على التمييز الفج الذي ينزع صفة الإنسانية عن اللاجئين من الشرق الأوسط“.

على مدار الأيام الماضية، ظهر التعصب السافر في أوروبا، ومن ذلك أن المسؤولين العسكريين أوقفوا الطلاب الأفارقة عند المعابر الحدودية الأوكرانية ومنعوهم من المرور، وجعلوا الأولوية للأوكرانيين البيض من دون الرجال في سن القتال.

وتحدث كليمنت أكينبورو، طالب اقتصاد نيجيري، للإذاعة الوطنية العامة NPR عن صعوبات الهرب بالقطار في مدينة لفيف الأوكرانية، وقال: “أنزلوا السود كلهم من القطار”.

وفي خضم الحرب، بدأت حملة مقاطعة اقتصادية كبيرة ضد روسيا. فقد فرضت إدارة بايدن عقوبات قاسية على روسيا واستهدفت بعض العقوبات رجال الأعمال الروس. وتناول كثيرون هذه المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات وبيّنوا التناقض الذي تكشفه، إذ تُعتبر هذه الممارسات مقبولة في ظل الظروف الحالية ثم تمسي أفعالًا شيطانية إن أقدم عليها مناصرو التحرير الفلسطيني. وقد أفصح المناضلون ودعاة الحرية من أهل الجنوب عن إحباطهم من معايير التعاطف الغربي مع أوكرانيا في حين يعمّ التجاهل والصمت إزاء معاناة الناس في أماكن أخرى من العالم.

وقالت مريم البرغوثي، الكاتبة والباحثة الفلسطينية الأمريكية لموقع AJ+ “تغدو مقاومتنا جريمة إذا ما تعلق الأمر بالفلسطينيين“.

قد يرى البعض أن التوقيت غير مناسب لفضح هذا التناقض وكشف العنصرية في ظلّ الأوضاع الصعبة التي تمرّ بها أوكرانيا. لكن القمع كله سيان، وكشف الظلم واجب لا يرتبط بزمن. فحصر التعاطف الإنساني في فئة دون غيرها تسلّط  الضوء على تعاطف البشر، ويجب ألّا يخشى أحد أبدًا من إبداء تعاطفه. بل الركود الأخلاقي هو ما تجب الخشية منه، أي التقاعس الناتج عن عدم تناول القضايا كلها بإنصاف.

التضامن مع الجميع

أعلن بوتين أن “تخليص أوكرانيا من خطر النازية” هو أحد الأهداف الرئيسة من غزو البلاد، وهو ادعاء أنكره الباحثون والمؤرخون بل والناجون من الهولوكوست أيضًا. صحيح أن كتيبة آزوف لها وجود في شرق البلاد وأن إدانتهم واجبة، لكنهم لا يعبّرون عن المجتمع الأوكراني في مجمله. يتحكم في مفاصل الدولة الأوكرانية بعض العناصر القومية الأخرى والمؤيدة للصهيونية، لكن ذلك يجب ألّا يكون ذريعة تؤدي إلى التخلي عن حق تقرير المصير والالتزام بالديمقراطية التعددية التي تجمع كل الأطياف الحزبية من الاشتراكية إلى اليمين المتطرف على هدف واحد هو تحرير البلاد من الدكتاتورية الغازية.

من المنتظر أن تظهر تحديات جديدة مع استمرار الحرب. من جهتها، تعتمد أوكرانيا على دعم المجتمع الدولي معنويًا وعسكريًا، وبسبب ميل الرأي العام ودعمه معركة أوكرانيا ضد روسيا، رحبت دول أوروبا باللاجئين الأوكرانيين. ولكن إذا ما تغير المزاج العام، سيتبدل كل شئ وسوف تطال العواقب الجميع، لا الأوكرانيين وحدهم.

فاليمين المتطرف يترصد ويتحين اللحظة المناسبة، وربما نسمع بعد تدفق الأوكرانيين أن الدول الأوروبية قد أدت دورها في استيعاب اللاجئين. كما أنه في فترة ما بعد عام 2015 لم يكن خطاب “أوروبا قد امتلأت” حكرًا على اليمين المتطرف، بل جرى على ألسنة كثير من السياسيين.

وقد تعرّض الفارّون من أوكرانيا من الأفارقة ومواطنون من جنوب آسيا والشرق الأوسط لهجمات عنيفة على يد القوميين البولنديين بالفعل. ولا يكترث القوميون اليمينيون المتطرفون بالأوراق الرسمية، بل تتعرّض أية  أقلية للاستهداف. وفي عام 2021، وصلت جرائم اليمين المتطرف إلى مستويات قياسية في ألمانيا، ما يشير إلى أن اليمين المتطرف يتحين اللحظة المناسبة.

ستبقى المُثل العليا التي تدّعيها أوروبا بعيدة عن الواقع، ولا سيما تلك المعنية باللاجئين في الاتحاد الأوروبي. لكن حركات التحرر في الشرق الأوسط وفي الجزء الجنوبي من العالم بصفة عامة يجب أن تتضامن مع أوكرانيا.

وقد علّق الكاتب ياسين السويحة في الجمهورية على مثل هذا التضامن. وبحسب رأيه، يجب علينا -نحن  أهل الجنوب “أن نتماهى مع الضحايا من المدنيين الأوكرانيين الذين يعانون اليوم ما عانيناه ونعانيه؛ وأن نحترم بسالة القوى الأوكرانية في معركتها للدفاع عن بلدها دون التخلي عن مسافة سياسية وأخلاقية ضرورية مع أجزاء واسعة منها؛ وأن نقول للعالم > لقد أخبرناكم.<”

التصدي للعنصرية الأوروبية ومحاربة الخطط الإمبريالية الروسية في أوكرانيا جزء من الكفاح الأممي من أجل التحرر. وعليه، فإن هذا المقال لا يهدف إلى تشتيت الانتباه عن أوكرانيا أو الطعن في النضال ضد الغزو الروسي، بل التعبير عن التضامن ذاته مع أولئك الذين يخوضون نضالات مماثلة في أماكن أخرى من العالم.

فشل الغرب كثيرًا في الالتزام بالمُثل التي يدعيها، وقد آن الأوان أن تنظر أوروبا للعالم أجمع بروح الإنسانية التي أظهرتها في التعامل مع الأزمة الأوكرانية.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.