وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حرب اسرائيل على غزة تصوب على التعليم والمفكرين فيها

تهدف حرب إسرائيل على التعليم والمفكرين في غزة إلى إعاقة المستقبل العلمي للقطاع، مما يجعل من الصعب على الأجيال إكمال تعليمهم وتحسين سبل عيشهم ومتابعة طموحاتهم. يعلن الباحثون والمثقّفون الفلسطينيّون أنّ هذه الاعتداءات الّتي تستهدف المثقّفين والمفكّرين والمراكز التّربويّة، تكشف عن استراتيجيّة لإبادة التّطوّر الاجتماعيّ والاقتصاديّ في غزّة.

حرب اسرائيل على غزة
مدرسة تديرها الأونروا، حيث لجأ الناس إليها هربا من القصف الإسرائيلي، تقف مدمرة في حي الرمال بمدينة غزة. وكالة فرانس برس

دانا حوراني

في حملة الإبادة الجماعيّة على غزّة سعيًا إلى محو كلّ معالم الحياة فيها، لم تعف إسرائيل عن الجامعات والمدارس الّتي لجأ إليها النّاس المهجّرون قصرًا. وبحسب وزارة التّربية والتّعليم الفلسطينيّة، فقد دمّر الجيش الإسرائيليّ أكثر من 280 مدرسة حكوميّة و65 مدرسة تديرها الأونروا، أو ألحق بها الضّرر.

منذ بداية حرب إسرائيل على غزّة في 7 تشرين الأوّل، شكّلت 133 مدرسة مأوى لأكثر من 1.9 مليون فلسطينيّ مهجّر. غير أنّ هذه الملاجئ لم تنج من الاعتداءات الإسرائيليّة الّتي جعلتها خارج الخدمة بسبب الأضرار الجسيمة أو الدّمار الشّامل الذي طالها، إضافة إلى سقوط آلاف الضّحايا.

لكنّ هذا الدّمار امتدّ إلى أكثر من المدارس، فكلّ الجامعات في غزّة قد دُمّرت أيضًا أو تضرّرت بشدّة. وبحسب تقارير من وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينيّة “وفا”، أصبحت 12 مؤسّسة تعليم عال في غزّة غير عاملة، موقفة بذلك كلّ مسعى أكاديميّ.

استهدفت إسرائيل كذلك المثقّفين في غزّة، إذ اغتالت 94 أستاذًا جامعيًّا بحسب المرصد الأورومتوسّطيّ لحقوق الإنسان الّذي وصف استهداف المدارس بتعمّد “تدمير الحضارة الفلسطينيّة وسماتها التّاريخيّة”.

ويعلن الباحثون والمثقّفون الفلسطينيّون أنّ هذه الاعتداءات الّتي تستهدف المثقّفين والمفكّرين والمراكز التّربويّة، تكشف عن إستراتيجيّة لإبادة التّطوّر الاجتماعيّ والاقتصاديّ في غزّة، وهي تهدف إلى إعاقة المستقبل الثّقافيّ فيها، مصعّبة على الأجيال الحاضرة والمستقبليّة إكمال تعليمها، وبالتّالي معيقة احتمال تحسين مستوى معيشتها وسعيها إلى تحقيق طموحاتها.

المشهد التّربويّ في غزّة

بالتّوازي مع إعطاء الأولويّة للأواصر العائليّة، يظهر التّعليم كأولويّة لدى الفلسطينيّين. فبدءًا من 2022، تباهت غزّة بمستوًى عالٍ في الإلمام بالقراءة والكتابة وصلت إلى 97%، مع معدّل التحاق بالمدرسة وصل إلى 95%، ومعدّل إتمام مرحلة التّعليم الابتدائيّ وصل إلى 99%.

إنّما أُجبر سكّان غزّة على تحمّل سنين من الحصار الإسرائيليّ والاضطرابات السّياسيّة إلى جانب الصعوبات المعيشيّة اليوميّة الّتي تتضاعف مع تزايد الفقر، وتفشّي البطالة، وتدهور الاقتصاد، والشحّ في موارد الطّاقة والمياه العذبة.

وفي ظلّ الواقع المرير، يتمسّك الأطفال بالتّعلّم لتعزيز نموّهم واحترامهم لذاتهم فيما يحتضنون الأمل بالمستقبل. إلّا أنّ الصّفوف غالبًا ما تكون مكتظّة بالتّلاميذ، ما لا يترك فسحة كافية أمامهم للتّعبير الفرديّ. على الرّغم من هذه القيود، يسعى معلّمو غزّة إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من تجربة التعلّم وسط الظّروف الصّعبة.

يعاني نظام التّعليم في غزّة منذ فترة من نقص كبير في التّمويل ومن بنى تحتيّة غير مناسبة، ومع ذلك أصرّ أهلها على متابعة تعليمهم.

وبحسب الكاتب الغزّويّ يوسف الجمال، تعي إسرائيل أنّ التّعليم يلعب دورًا محوريًّا في حياة الفلسطينيّين ولذلك هي تستهدفه.

قال الجمال لفنك: “في 1948، خلال النّكبة، خسر الفلسطينيّون كلّ شيء؛ أرضهم وبيوتهم، فلجأ الكثيرون إلى التّعليم.”

وفيما أُجبر الفلسطينيّون على مغادرة وطنهم، تدخّل المعلّمون لإعادة بناء المجتمع الفلسطينيّ المتجزّئ، فأقامت إحدى أقدم مؤسّسات التّعليم العالي في غزّة، الجامعة الإسلاميّة الّتي أُنشئت عام 1978، أوّل محاضرة لها في الخيام.

يتذكّر الجمال تضحية أبيه الّذي باع ممتلكاته لتوفير تعليم جامعيّ لأولاده، قائلًا: “لمواجهة الاحتلال الإسرائيليّ، وجد الفلسطينيّون عزاء في التّعلّم كوسيلة للصّمود، وتأمين ظروف معيشيّة أفضل، والخروج من مخيّمات اللّاجئين.”

التّعلّم سلاح

إنّ هجمات الاحتلال الإسرائيليّ على المدارس الفلسطينيّة كان قائمًا قبل أحداث 7 تشرين الأوّل بكثير. ففي صيف 2014 وحده مثلًا، ألحقت إسرائيل الضّرر بـ 138 مدرسة غزّويّة مخلّفة بذلك 330 طفلًا قتيلًا وأكثر من 2000 جريح.

أعلنت وزارة التّربية والتّعليم الفلسطينيّة اليوم، أنّ منذ 30 كانون الثّاني، قُتل أكثر من 4660 تلميذًا و239 معلّمًا، وجُرح أكثر من 8109 تلاميذ و756 معلّمًا على يد الجيش الإسرائيليّ، وقد عُلّقت السّنة الدّراسيّة لعام 2023-2024 نتيجة لذلك.

بحسب الجمال، التّعليم من مركّبات المقاومة وهو يظهر كنتيجة لها. فالمتعلّمون يفهمون ماضيهم وحاضرهم، وكيف طبع الاستعمار الاستيطانيّ حياتهم.

وأضاف أنّ إسرائيل تهدف إلى جعل أهالي غزّة أمّيّين، عاجزين عن إيصال وجهة نظرهم إلى العالم، وهذه مهمّة تحدّاها مثقّفو غزّة وباحثوها وصحافيّوها وكتّابها وفنّانوها بلا كلل.

وبحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أطلق الجيش الإسرائيليّ غارات جوّيّة على منازل الأكاديميّين، والعلماء، والمثقّفين اللّامعين في قطاع غزّة من دون إنذار. ونتيجة لذلك، قُتل هؤلاء الأشخاص وعائلاتهم ومهجّرون آخرون بشكل وحشيّ.

مع ذلك، الدّكتور وسام عامر، عميد كلّيّة الإعلام واللّغات في جامعة غزّة، الّذي هرب من القطاع في تشرين الثّاني، مقتنع بأنّ المثقّفين قادرون على توسيع وجهة نظر الفلسطينيّين حول قضايا مهمّة مثل الاحتلال الإسرائيليّ، وعلاقة فلسطين بالمنطقة والعالم.

قال عامر لفنك: “تدمير التّعليم يعني تدمير جيل بأكمله. سيؤثّر الدّمار الإسرائيليّ على آفاق غزّة المستقبليّة وسيعرقل تطوّرها.”

ولمعرفة الغزّويّين بأنّ مفكّريهم يشكّلون أهدافًا أساسيّة لإسرائيل، سعوا منذ زمن إلى تثقيف أشخاص لنقل تجاربهم. في 2015، أنشأ صحفيّون شباب ومتعلّمون، معًا، جمعيّة “لسنا أرقامًا” لتسليط الضّوء على روايات الفلسطينيّين الشّخصيّة.

أمّا القائم بهذه المبادرة والمشارك فيها فهو الأستاذ رفعت العرعير، الشّخصيّة الفلسطينيّة المحبوبة والكاتب الّذي وصل صوته إلى الملايين على منصّات التّواصل الاجتماعيّ، والّذي اغتالته إسرائيل في 7 كانون الأوّل في شجاعيّة، شمال غزّة.

تذكّر الأستاذ رفعت العرعير

تتمتّع إسرائيل بتاريخ حافل باستهداف الكتّاب، أكثرهم بروزًا غسّان كنفاني الّذي اغتاله جهاز المخابرات “موساد” في 8 تمّوز 1972 بتفخيخ سيّارته في العاصمة اللّبنانيّة بيروت.

قال عامر: “يكتب المفكّرون والمؤرخون والأكاديميّون عن القضايا والذّكريات الفلسطينيّة الّتي تسعى إسرائيل إلى حذفها.”

ومن أحدث الأمثلة على هذه الاغتيالات، هو الأستاذ رفعت العرعير، البالغ من العمر 44 عامًا، والّذي حرّر كتاب “غزّة تكتب مرّة أخرى: قصص قصيرة من كتّاب شباب في غزّة، فلسطين” و”غزّة تخرج عن صمتها“، وهو مجموعة من المقالات والتّحقيقات الصّحفيّة والشّعر من غزّة.

الجمال، وهو أحد تلامذته، يقول إنّ العرعير درّب المئات من التّلاميذ في مجال الكتابة الإبداعيّة والحكواتيّة باللّغة الإنجليزيّة، وأكمل: “كان رفعت يشدّد على أهمّيّة رواية قصصنا للعالم وعلى أنّ كلًّا منّا [التّلاميذ] لديه قصّة جديرة بالنّشر.”

وأشار الجمال إلى أنّ العرعير كان مثالًا لقدرة المتعلّمين على رواية القصّة الفلسطينيّة من خلال السّياق التّاريخيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ المناسب، الّذي يمكنه التّأثير في جمهور أوسع حول العالم.

قال الكاتب: “هذه أيضًا حرب على قصّتنا وسرديّتنا. يمكننا رؤية الدّعم الكبير للقضيّة الفلسطينيّة وكيفيّة انحياز النّاس لسرديّتنا، ولذلك تريد إسرائيل التّخلّص ممّن يروون هذه القصص.”

حصل العديد من تلاميذ العرعير على تعليم عالٍ في الخارج، ثمّ على وظائف بسبب دعمه وتدريبه الأكاديميّ.

وبالرّجوع إلى قصيدة العرعير “إذا توجّب أن أموت”، الّتي ختمها قائلًا “إذا توجّب أن أموت، فليبعث ذلك على الأمل، فليكن ذلك حكاية”، قال الجمال: “إذا اعتقدت إسرائيل أنّ باغتياله أنهت إرثه، فهي مخطئة. هو الآن معروف من قبل الملايين حول العالم، وعلى الرّغم من تعمّد إسرائيل جعله ضحيّة عاديّة، أصبح أسطورة وحكاية.”

تراجع تمويل شريان حياة غزّة الرّئيس

في محاولتها الأخيرة لقطع كلّ شرايين حياة الفلسطينيّين، اتّهمت إسرائيل حوالى 12 موظّفًا من موظّفي الأونروا الغزّويّين الّذين يتخطّى عددهم 13000 بتورّطهم في هجوم حماس على جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأوّل.

ولقد أدّى ذلك إلى وضع الولايات المتّحدة مشروع قانون ضمان هدفه خفض تمويل وكالة الأمم المتّحدة.

لكن على الرّغم من فشل إسرائيل في إثبات ادّعاءاتها، فقد علّقت الولايات المتّحدة والعديد من الدّول الأخرى فورًا تمويلها لوكالة الأونروا الّتي تعتمد على مساهمات الحكومات لدعم عمليّاتها في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وفي الأردن وسوريا ولبنان.

فبإدارتها 183 مدرسة على امتداد قطاع غزّة، تلعب الأونروا دورًا أساسيًّا في تأمين الحاجات الأساسيّة مثل الغذاء والماء وأدوات النّظافة لشعب غزّة بأكمله.

ركّز عامر على أنّ “الأونروا تشكل شريان حياة لشعب غزّة، بخاصّة الآن. وقطع تمويل الأونروا في هذا الوقت الحرج يهدّد الاستقرار الإقليميّ، نظرًا إلى الخدمات الضّروريّة الّتي تقدّمها للّاجئين الفلسطينيّين في بلدان متعدّدة.”

أمّا نوجا أربيل، المسؤولة السّابقة في وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة، فأكّدت في جلسة الكنيست الإسرائيليّة الّتي انعقدت في 4 كانون الثّاني، أنّه: “سيكون من المستحيل كسب الحرب إذا لم ندمّر الأونروا، ويجب أن يبدأ هذا التّدمير على الفور.”

وبحسب الجمال، الأونروا رمز لمحنة اللّاجئين الفلسطينيّين المستمرّة، وللقضيّة الفلسطينيّة العالقة. وجود الوكالة يبرهن غلبة القضيّة الفلسطينيّة، وحقّ الفلسطينيّين بالعودة، وهذا ما عارضه المسؤولون الإسرائيليّون بوضوح وذكروه جهرًا كسبب لحلّ الأونروا.

أخيرًا، سحب تمويل الأونروا يفاقم الأزمات المتعدّدة الّتي يعاني منها الفلسطينيّون في غزّة الآن. ومن النّاحية التّربويّة، يقول عامر إنّ إعادة إعمار المرافق التّربويّة لن يكون عمليّة طويلة فقط، بل سيحتاج إلى معالجة الأثر النّفسيّ على التّلاميذ والمعلّمين. ويؤكّد على ضرورة تدخّل كلّ المنظّمات القادرة على تخفيف عذاب الغزّويّين بشكل عاجل، في ضوء الوضع المأساويّ المتأزّم.