وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ميزان الإدارة الأمريكية وحقوق الإنسان في مصر

عاودت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن استخدام سياسة العصا والجزرة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على مستوى حقوق الإنسان في مصر.

ميزان الإدارة الأمريكية ومصر
صورة تم التقاطها يوم 11 نوفمبر 2022 للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أثناء لقائه بنظيره الأمريكي جو بايدن على هامش فعاليات قمة المناخ “كوب 27” التي استضافتها شرم الشيخ. المصدر: SAUL LOEB / AFP.

خالد محمود

عاودت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن استخدام سياسة العصا والجزرة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على مستوى حقوق الإنسان في مصر. ويظهر توجه الإدارة الأمريكية الجديد في الخطوة الأخيرة التي تم بموجبها حجب 130 مليون دولار أمريكي من المساعدات العسكرية الأجنبية عن مصر بسبب عدم وفائها بشروط تتعلق بحقوق الإنسان. لكن هذه الخطوة الجديدة لم تمنع إدارة بايدن من تقديم باقي المساعدات التي تربطها واشنطن بإنجاز القاهرة خطوات ملموسة تظهر تحسّن سياساتها تجاه المعتقلين السياسيين.

وتشكّل المساعدات التي قررت واشنطن حجبها 10% من 1.3 مليار دولار أمريكي يتم تقديمها بشكلٍ سنوي لمصر. وضغطت جماعات حقوقية لحجب كامل حصة المساعدات التي ربطها الكونغرس الأمريكي بشروط والبالغة 300 مليون دولار. وعزت هذه الجماعات ضغطها إلى انتهاكات القاهرة الواسعة النطاق على مستوى حقوق الإنسان. ويشمل ذلك ما يتم ممارسته من تعذيب وعمليات الاختفاء القسري.

السلطات المصرية التزمت الصمت. ولم تعقب القاهرة على هذا الإجراء الذي يعيد إلى الأذهان مواقف مماثلة سعت فيها واشنطن لممارسة ضغوط سياسية بسلاح المعونات.

وفي الوقت الذي تغيب فيه الإحصاءات الرسمية المتعلقة بعدد المعتقلين السياسيين، فإن السلطات المصرية تعيش حالة إنكارٍ تامة لمزاعم بوجود نحو 60 ألف من السجناء السياسيين في مصر. لكنّ هذا لم يمنع إدارة بايدن من تمرير بعض الأموال بسبب تأكيدها إحراز القاهرة لتقدم على صعيد الاعتقالات السياسية. وبحسب ما نقله مسؤولون أمريكيون، فقد اعتبر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إطلاق مصر مؤخراً لمئات السجناء “تقدماً في ملف الاعتقالات السياسية والإجراءات القانونية ذات الصلة”.

أصل المشكلة

نيد برايس، الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، وصف ملف حقوق الإنسان في مصر بـ”القضية المعقدة”. ووفقاً لبرايس، فإنّ إدارة بايدن اتبعت مع مصر نهجًا يعكس النطاق الكامل للمصالح الوطنية الأمريكية ويشمل حقوق الإنسان.

ولخّص برايس الأزمة بقوله: “مصر شريكٌ إستراتيجي لنا ونتعاون معه لتعزيز مجموعة من المصالح المشتركة. وبقيامنا بذلك، فإننا نثير أيضًا مخاوف جدّية للغاية بشأن حقوق الإنسان والحريات الأساسية في مصر”.

قرار وزارة الخارجية الأمريكية يتعلق بالسنة المالية 2021 للمساعدة العسكرية الأمريكية. ومنذ عام 2012، دأب الكونغرس على ربط المعونة لمصر بمجموعة من القيود. وتمثلت تلك القيود في محاولة فرض شروط محددة تتعلق بالوضع السياسي والحريات العامة. وعلى هذا الأساس، فقد ربط الكونغرس تقديم 300 مليون دولار من إجمالي المساعدات الأمريكية بشروط تتعلق بحقوق الإنسان.

وتقسم الـ 300 مليون دولار إلى قسمين. ويخضع القسم الأول، وقدره 225 مليون دولار، لمجموعة واسعة من الظروف المتعلقة بحقوق الإنسان. أما القسم الثاني، وقدره 75 مليون دولار، فيرتبط بإظهار تقدّم واضح ومتسق في إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.

النهج الأمريكي هنا يضع المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية على قدم المساواة مع الحفاظ على المشاركة والحوار.

ووفقاً لهذا المفهوم، تعتقد واشنطن أنّ القاهرة حققت تقدمًا واضحًا نظراً لما وصفته بـ “العدد غير المسبوق” من حالات الإفراج عن مئات السجناء عام 2022. يضاف إلى ذلك التقدّم تشكيل لجنة العفو الرئاسي والجهود المبذولة لإقامة حوار سياسي وطني.

وبينما قالت إدارة بايدن إن مصر أحرزت تقدمًا بإطلاق سراح حوالي 500 من سجنائها السياسيين، فقد وردت معلومات عن معركة تختمر بين إدارة بايدن والكونغرس بخصوص قرار وزارة الخارجية الأمريكية. وفي هذا السياق، حثّ السيناتور الأمريكي كريس مورفي إدارة بايدن على حجب مبلغ 300 مليون دولار بالكامل. ويعتبر مورفي عضواً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي. كما أنه من المجاهرين بانتقاد معاملة الحكومة المصرية للسجناء السياسيين.

منظمة هيومن رايتس ووتش اعتبرت أن القرار لا يستجيب بشكل كافٍ لما وصفته بـ “قمع مصر المستمر وانتهاكاتها الحقوقية”. وانتقدت المنظمة إفراج إدارة بايدن عن 75 مليون دولار من المساعدات لما أحرزته القاهرة من تقدّم في قضية السجناء السياسيين. وترى المنظمة أن قمع المعارضة السياسية لا يزال قاسيا في مصر. وفي هذا السياق، اعتبرت نيكول ويدرسهايم، نائب رئيس مكتب هيومن رايتس ووتش في واشنطن، أن هناك أزمة حقوقية في مصر. وأكدت ويدرسهايم أن التمويل الذي احتفظت به الولايات المتحدة في عام 2021 “لم يكن كافياً” لإحداث تغيير واضح على مستوى حقوق الإنسان في مصر.

ميزان الإدارة الأمريكية ومصر
صورة تم التقاطها في ساحة الدام بأمستردام لأشخاص احتجوا على التغاضي عن حقوق الإنسان في مصر تحت ذريعة استضافة الأخيرة لقمة “كوب 27”. المصدر: Romy Arroyo Fernandez/ NurPhoto via AFP.

وتشير هيومن رايتس ووتش إلى أن “حالة حقوق الإنسان في مصر لم تتحسن بشكل أساسي” منذ عام 2021. ووصفت المنظمة القضية 173 بأنها دعوى قضائية سيئة السمعة تقاضي فيها مصر منظمات حقوقية بسبب مزاعم تلقي أموال أجنبية.

وانضمت المنظمة إلى منظمات حقوقية محلية ودولية أخرى لحث بايدن على وقف المساعدة العسكرية وتعليق مبيعات الأسلحة لمصر. وردّت هذه المنظمات توجهها إلى ما وصفته بفشل مصر في تحسين وضعها الحقوقي.

ومع ذلك، فقد سمح الحديث الأمريكي المتكرر عن ملف السجناء بإطلاق سراح الكثير منهم. ويأتي التوجه المصري الجديد على خلفية الحوار الوطني المثير للجدل الذي دعا إليه السيسي مؤخرا.

النظام اعتاد نفي وجود سجناء سياسيين في مصر. كما أنه جادل بضرورة منح الأولوية للاستقرار والأمن. ويشدّد النظام على عمله لتعزيز الحقوق عبر السعي لتوفير الاحتياجات الأساسية كالوظائف والسكن. ومع ذلك، فقد اعترفت السلطات المصرية دون إعلان رسمي بوجود سجناء، وشرعت في الإفراج عنهم.

وأعلنت لجنة العفو الرئاسي مباشرتها العمل على دمج المُفرج عنهم سواءً بقرار من النيابة العامة أو بقرارات العفو من السيسي. وبحسب البيان الذي نشره عضو اللجنة محمد عبد العزيز، فقد باشرت اللجنة العمل على عدد من الطلبات المرتبطة بإعادة بعض المفرج عنهم إلى أعمالهم أو توفير فرص العمل لهم. كما نسّقت اللجنة مع بعض الجهات الحكومية لحلّ بعض الأمور الإجرائية المتعلقة بمنع السفر أو التحفظ على الأموال.

وأعلنت اللجنة استعدادها لتلقي كافة الطلبات من المُفرج عنهم لتلبية أية احتياجات أو متطلبات من شأنها إعادتهم لحياتهم الطبيعية. ويأتي في إطار نفس التوجه سعي اللجنة لرفع الآثار الناجمة عن أحكام الحبس التي صدرت سابقاً بحق المفرج عنهم.

وفي مقابلةٍ تلفزيونية، أكد عبد العزيز الاستعداد للإفراج قريباً عن دفعات جديدة من المعتقلين. كما لفت النظر إلى مبادرة لبحث المشكلات المتعلقة بالعمل والدراسة. وبحسب عبد العزيز، فإن اللجنة تعمل على حلّ هذه المشكلات بالتعاون مع الجهات المعنية في الدولة.

ويعتقد خبراءُ يشغلون مناصب رئيسية في إدارة بايدن أن مصر لا تزال حليفًا مهمًا في الشرق الأوسط. وبحسب هؤلاء الخبراء، فإن أهمية الدور المصري تكمن في التعاون مع واشنطن على مستوى مكافحة الإرهاب ومساعدة المنطقة في الحفاظ على توازن مستقر مع إسرائيل. ويرى هؤلاء أن قطع المساعدات العسكرية عن مصر قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تسميم العلاقات الأمريكية المصرية. كما أنه قد يدفع مصر إلى الاقتراب من خصوم أمريكا الجيوسياسيين مثل روسيا والصين.

جدل حول قيمة المساعدات

حتى عام 2019، قدّمت الولايات المتحدة لمصر ما يزيد عن 80 مليار دولار من المساعدات الأمنية والاقتصادية. وتعتبر هذه المساعدات عنصراً أساسياً في التزام أمريكا باستقرار مصر وازدهارها. كما أنها تأتي في إطار التزام أمريكا الأوسع بالسلام في منطقة الشرق الأوسط.

وسبق لتوماس غولدبرغر، القائم سابقا بأعمال السفير الأمريكي في القاهرة، تأكيد تزويد القاهرة بمساعدات لتجهيز الجيش المصري بشكلٍ أفضل. ووفقاً لغولدبرغر، فإن هذه المساعدات سنوية ومقدمة عبر برنامج التمويل العسكري الأجنبي.

في المقابل، فقد اعتبر خبراء ومحللون مصريون أن الدعم الأمريكي مرتبط بحسابات سياسية لواشنطن في المنطقة. ويرى هؤلاء أن هذه المعونة أصلا غير مفيدة. ويعتقد البعض أن ما حصدته واشنطن من مكاسب اقتصادية وأمنية وإستراتيجية يفوق بكثير أي استفادة اقتصادية جزئية وظرفية نالتها القاهرة.

بحسب هذا المنطق، لم تستهدف المعونة الأمريكية “معالجة جذور الفقر أو إحداث تنمية حقيقية”، بل “القضاء على القطاع العام”. كما أنها “ألزمت الاقتصاد المصري بمعايير الاقتصاد الحر، دون وجود بنية اقتصادية وطنية قادرة على المنافسة أو ملتزمة بأولويات التنمية”.

إيهاب وهبة، مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، يشير هنا إلى ما يصفه بـ”أخطاء شائعة حول المساعدات الأمريكية لمصر”. ولفت وهبة، المختص بالشؤون الأمريكية، إلى أن هذه المعونة لم ترد في نصوص اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.

المعونة ترجع في الأصل إلى خطاب وجهه وزير الدفاع الأمريكي حينذاك هارولد براون عام 1979 إلى نظيريه المصري والإسرائيلي. وأكد براون في ذلك الخطاب التزام الولايات المتحدة بتقديم معونة للجانبين. واعتبر وزير الدفاع الأمريكي المعونة استثماراً في الحفاظ على استقرار منطقة الشرق الأوسط. كما أن هذه المعونة كانت اعترافا بالدور المصري في التأثير على مجريات الأمور بالمنطقة، وكذلك أهمية معاهدة السلام.

وهكذا، أصبحت مصر ثاني أكبر دولة تستفيد من المساعدات الأمريكية بعد إسرائيل. وبحسب أحد التحليلات، فقد ساهمت تلك المعونة في تشغيل العديد من الشركات الأمريكية في مصر، ما عاد بالفائدة على الاقتصاد الأمريكي. في المقابل، فإنّ مصر لم تحصل سوى على الفتات. وبحسبة أمريكية خالصة، فإن 80% من المعونة المقدمة لمصر عاد مجددا للولايات المتحدة.

التهديد بقطع المعونة ليس أمرًا طارئًا على السياسة الأمريكية. وبطبيعة الحال، فإن هذه المقاربة الأمريكية تثير التساؤل حول صدق نية إدارة بايدن في وضع شروط حقوقية لدعم أصدقائها.

وعلى سبيل المثال، كتب بايدن على تويتر في يوليو 2020: “لا مزيد من الشيكات الفارغة لديكتاتور ترامب المفضّل”، في إشارة واضحة للسيسي الذي تجاهل الأمر.

لكن خلال آخر اجتماع له مع السيسي في 16 يوليو 2022، تعهد بايدن بتقديم 50 مليون دولار لتعزيز الأمن الغذائي في مصر. كما وعد بالمساعدة في تعويض التبعات العالمية الوخيمة التي نجمت عن الغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا.

وعلى ذلك، أكد الرئيسان بايدن والسيسي في بيان مشترك التزامهما المتبادل بإجراء “حوار بناء حول حقوق الإنسان”، باعتبارها “جزءا لا يتجزأ من الشراكة القوية بين الولايات المتحدة ومصر”.