وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مصر: عندما تجف الأنهار

Suez Canal
صورة تم التقاطها يوم ٥ مايو ٢٠١٩ للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع عددٍ من الوزراء والدبلوماسيين أثناء افتتاح نفقٍ تم تشييده تحت قناة السويس في مدينة الإسماعيلية شرق القاهرة. المصدر: AFP / KHALED DESOUK.

نشر موقع “OpenDemocracy” مقالةً سلطت الضوء على ما تتبعه الحكومة المصرية من سياساتٍ تقشفية أدت مؤخراً إلى خروج الاحتجاجات في مصر بعد دعوة الممثل والمقاول محمد علي لها. ويحاول صاحب المقالة ماجد مندور، وهو محللٌ سياسي وباحثٌ حاصل على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة كامبردج، توضيح وضع الاقتصاد المصري واستعراض إحصائيات تتعلق بهذا الوضع وتكشف ما وصلت إليه مصر من مستويات فقر وبطالة وعجز تجاري ومعدلات ديون. ويرى مندور أن التحسن الضئيل الذي شهده الاقتصاد يعود بصفةٍ أساسية إلى هوس الجيش بقطاع البناء، وهو ما كان على حساب الفقراء والطبقات الدنيا من المجتمع، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن هذا الهوس لا يعدو عن كونه فقاعة ستنفجر عاجلاً أم آجلاً.

ويبدأ مندور مقالته بالإشارة إلى ما بات يتمتع به المقاول والممثل السينمائي المتواضع محمد علي من شهرة في مصر، إذا بات اسم المقاول مألوفاً للكثيرين في مصر. وكشف الرجل المتورط بشكلٍ كبير في النظام الرأسمالي المصري عبر سلسلةٍ من مقاطع الفيديو عمّا شعر به الكثير من المصريين وعرفوه من فساد المؤسسة العسكرية، وسياسة النظام المالية والاقتصادية التي تتعمد إفقار عموم المصريين وإثراء النخب العسكرية.

وباعتباره مقاولاً عمل مع المؤسسة العسكرية على مدار خمسة عشر عاماً، فقد تمكن محمد علي من تقديم معلومات عن الدور الاقتصادي للجيش وتأثيره على القطاع الخاص، معتمداً في ذلك على ما يتمتع به من خبرةٍ شخصية على هذا المستوى. وأدت مقاطع الفيديو التي نشرها مباشرةً إلى احتجاجاتٍ نادرة ضد الرئيس عبد الفتاح السيسي، رغم قمع الحكومة الوحشي.

ومع ذلك، يجب وضع مقاطع الفيديو تلك في سياقٍ يوضح أداء الاقتصاد المصري وبما يكفل استيعاب ما يحمله دور الجيش من أثر على مستوى التنمية الاقتصادية وزيادة الفقر في البلاد.

وشهد شهر مايو من عام ٢٠١٩ قيام المركز المصري للتعبئة والإحصاء، وهو أحد المراكز التابعة للحكومة، بإصدار تقرير عن “الدخل والإنفاق والاستهلاك”. وتشير نتائج التقرير إلى ارتفاعٍ حاد في مستويات الفقر النسبي والمدقع مقارنةً بما كان عليه الحال في عام 2015. وارتفعت معدلات الفقر النسبي من 27.8% إلى 32.5% في عام 2018، بينما ارتفع مستوى الفقر المدقع من 5.3% إلى 6.2% في الفترة نفسها.

وتُحدد معدلات الفقر على أساس معايير الاستهلاك المحلية. ويُحدد مستوى الفقر النسبي بنحو 735.6 جنيهاً مصرياً للاستهلاك الشخصي الشهري، ومستوى الفقر المدقع بنحو 490.86 جنيهاً. أي ما يعادل 44.6 و29.7 دولاراً أمريكياً على التوالي. ويترافق الارتفاع المذكور أعلاه على مستوى الفقر مع انخفاضٍ في مستوى استهلاك الأسرة بنسبة 9.7%، وذلك باستخدام أسعار عام 2015. وكان الانخفاض أكثر حدة في المناطق الحضرية، حيث تم تسجيل انخفاض بنسبة 13.7% في تلك المناطق مقارنة بـ 5.1% في المناطق الريفية.

ويعني ذلك ببساطة أن المصريين يزدادون فقراً، وأن الملايين يتراجعون إلى حد الفقر. ولا تؤدي الزيادة في معدلات الفقر إلى زيادة في مستوى الحرمان الاجتماعي فحسب، بل أنها تؤثر أيضاً سلباً على نمو القطاع الخاص والنمو الاقتصادي العام لأنّ الدخل المتاح للمصريين في تناقصٍ مستمر.

ولم تقابل انخفاض مستوى الاستهلاك زيادة في مستوى الصادرات من السلع والخدمات. وهو ما يظهر في تراجع قيمة الصادرات المصرية التي وصلت إلى 47.45 مليار دولار أمريكي في عام 2018، أي أنها انخفضت بقدر 1.66 مليار دولار مقارنة بعام 2013. وتعكس المؤشرات الأخرى أيضاً تدهور الوضع التنافسي الدولي. وعلى سبيل المثال، ارتفع العجز التجاري من -6.34% في عام 2013 إلى -10.45% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018. ويأتي هذا الامر رغم تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016. وكان من المفترض أن تؤدي هذه الخطوة بشكلٍ نظري إلى زيادة القدرة التنافسية للصادرات المصرية وتحسين الميزان التجاري.

Christ Cathedral Nativity
صورة تم التقاطها يوم ٧ مارس ٢٠١٩ لكاتدرائية ميلاد المسيح التي تم بناؤها في العاصمة الإدارية الجديدة على بعد حوالي ٥٠ كيلومتراً شرق العاصمة القاهرة. المصدر: PEDRO COSTA GOMES / AFP.

كما يشير التركيب الهيكلي للصادرات المصرية إلى ضعف قطاع الصناعات التحويلية المصري وضعف الصادرات بصفةٍ عامة. وبحسب بيانات البنك المركزي، فإن 41.1% من قيمة صادرات السلع المسجلة في عام ٢٠١٨ تعود على سبيل المثال إلى النفط الخام والمنتجات المرتبطة به. ويعني هذا الأمر اعتماد أداء الصادرات المصرية بدرجةٍ كبيرة على تغيّر أسعار النفط بدلاً من الاعتماد على القدرة التنافسية لقطاع التصنيع. وبحسب مندور، فإن هذا النقص في القدرة التنافسية وانخفاض مستوى الاستهلاك المحلي وارتفاع معدلات الفقر يضعف كثيراً قدرة القطاع الخاص على التطور وإمكانية تحويل الاستثمارات إلى أنشطة ذات قيمة مضافة عالية كالتصنيع. وتظهر قلة الاستثمارات في قطاع الصناعات التحويلية على حجم هذا القطاع من الناتج المحلي الإجمالي، إذ لم يزد حجم هذا القطاع عن 16.61% في عام 2013، علماً بأنه انخفض بصورةٍ طفيفة في عام ٢٠١٧ ليصل إلى 16.44% من الناتج الإجمالي المحلي. وبعبارةٍ أخرى، فإن النظام لم يستثمر في تطوير قطاع الصناعات التحويلية ولم يضع الأساس للنمو الاقتصادي المستدام طويل الأجل.

أما على مستوى عدم المساواة في الدخل، فقد ظل معامل “جيني” لقياس توزيع الثروة مستقراً في الفترة من 2015 إلى 2018، مع تسجيل انخفاض طفيف في هذه الفترة من 0.30 إلى 0.29. ويشير هذا الأمر عدم قدرة السياسة الاقتصادية التي اتبعها النظام على زيادة ثروات طبقة الـ١٠% الأغنى مقارنةً مع الفئات السكانية الأخرى. وأثر انخفاض مستوى الاستهلاك على شرائح المجتمع كلها، بما في ذلك الأثرياء نسبياً. ويتسق ذلك مع فكرة أن الانكماش في السوق المحلية، إلى جانب ضعف الصادرات، أثرا سلباً على مراكمة الثروة عند معظم المصريين بغض النظر عن الطبقة.

ورغم أن بعض المؤشرات الأخرى تبشّر بتحقيق جوانب إيجابية على مستوى أداء الاقتصاد المصري، فإنه يتضح بعد مزيدٍ من التدقيق أن هذه المؤشرات تعبّر عن الاختلالات الهيكلية الاقتصادية، والدور البارز الذي يلعبه الجيش. ويكمن المؤشر الأول في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، حيث بلغ معدّل النمو ٥.٦٪ للسنة المالية 2018/19، رغم نمو القطاع الخاص خلال خمسة أشهر فقط من السنوات الثلاث الماضية.

ويعزى نمو الناتج المحلي الإجمالي في المقام الأول إلى الإنفاق الحكومي على مشاريع البنية التحتية الضخمة (التي يقودها الجيش)، مما أدى إلى طفرة في قطاع البناء. ويموّل الإنفاق الحكومي من خلال الدين العام المتضخم، والذي تتحمل شرائح المجتمع الأدنى العبء الأكبر منه.

وفي مؤشرٍ على حجم انخراط الجيش في الاقتصاد، ذكر المتحدث باسم القوات المسلحة في سبتمبر 2019 أن الجيش يدير حالياً 2300 مشروع على مستوى البلاد ويوظف مباشرةً 5 ملايين مدني. وبما أن إجمالي القوى العاملة في مصر يبلغ نحو 26 مليون عامل، فإن الجيش يوظف 19.2% من القوى العاملة، ما يجعل الجيش ثاني أكبر مشغل في البلاد بعد القطاع العام الذي يوظف ٥.٦ مليون شخص.

وحظيت مشروعات البنية التحتية الضخمة بدعاية كبيرة رغم التشكيك في جدواها الاقتصادية، ومن أبرز هذه المشاريع العاصمة الإدارية الجديدة. ولعب قطاع البناء، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشروعات التي يقودها الجيش، دوراً مهماً في النمو الاقتصادي، إذ تشير التقديرات في عام 2018 إلى نمو هذا القطاع بنسبة ٨.٩٪، مما يجعله المساهم الأول في نمو الناتج المحلي الإجمالي.

وحاكى هذا الأمر وزير الإسكان مصطفى مدبولي في تصريحٍ أدلى به في نوفمبر 2017، إذ اعتبر قطاع البناء القوة الدافعة الرئيسية للنمو الاقتصادي في السنوات الثلاث الماضية. وأكد الوزير مسؤولية قطاع البناء عن خلق نحو 3 إلى 4 ملايين وظيفة.

لذلك، فإن نمو الناتج المحلي الإجمالي لا ينتج عن قطاع خاص فعال، ولكن بصفةٍ أساسية عن طريق هوس البناء الذي يقوده الجيش، ومشاريع البنية التحتية الضخمة التي لها تأثيرٌ إيجابي ضئيل على زيادة القدرة التنافسية للاقتصاد المصري. ويجري تمويل الإنفاق الحكومي عن طريق الدين العام المتضخم. وارتفع الدين الخارجي ليبلغ 106.2 مليار دولار أمريكي في الربع الثالث من 2018/19. وارتفع الدين المحلي إلى 4.2 تريليون جنيه في نهاية مارس 2019، مرتفعاً من 3.5 تريليون جنيه في العام السابق. ويدعم ذلك التأكيدات التي تحدث عنها محمد علي في فيديوهاته حول الدور البارز لمشاريع البناء العبثية، بما في ذلك القصور الرئاسية ومشاريع الفنادق الفخمة غير المدروسة في قيادة قطاع البناء ونمو الناتج المحلي الإجمالي، وهو نموٌّ غير مستدام لأنه لا يعتمد على قطاعٍ خاص نشيط، بل على الفساد والمحسوبية.

ويعرّج مندور في القسم المتبقي من مقالته على مؤشرٍ أخير وهو معدل البطالة الذي بلغ ٨.١٪ بحلول الربع الأول من عام 2019، وهو أدنى معدل تم تسجيله في آخر 10 سنوات. ويرى صاحب المقالة أن هذا الانخفاض تنقصه بعض التفاصيل، إذ انخفض معدل الاستخدام الذي يقيس عدد العمال الموظّفين لمدة ساعة واحدة على الأقل في الأسبوع بالنسبة المئوية من السكان من 44.5% إلى 39%. ويترافق هذا الأمر مع تسجيل انخفاضٍ في مستوى مشاركة القوى العاملة من 46.4% إلى 41.6%، ما يشير إلى انخفاض مستوى الباحثين عن عمل، وليس إلى زيادة عدد الوظائف المتاحة. لذلك، لا بد وأن يعزى انخفاض مستوى البطالة إلى فقدان الأمل، وليس إلى تحسن الظروف الاقتصادية.

ويتحمل الفقراء وأبناء الطبقات الدنيا عبء هذه الاختلالات الهيكلية، بما في ذلك الاعتماد المفرط على الديون. وتعتزم الحكومة تخفيض الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي إلى ٧٧.٥٪ بحلول نهاية يونيو 2022. وتبلغ النسبة حالياً ٩٠.٥٪ بحسب. الأرقام المسجلة في شهر يونيو 2019. وتتضمن السياسة المالية المتبعة في هذا الصدد خفض الإنفاق الاجتماعي والاعتماد على الضرائب التنازلية، وهي التدابير التي تؤثر سلباً على مستوى معيشة معظم المصريين.

وتواصل الحكومة سياسة تخفيض الدعم، وتمثل أحدث الأمثلة على ممارسات هذه السياسة في خفض دعم الوقود في يوليو 2019. وتقدّر قيمة الدعم المخطط للوقود في ميزانية 2019/20 بمبلغ 52.96 مليار جنيه، في حين كان الرقم 89.07 مليار جنيه في العام السابق، أي أن الدعم انخفض بنسبة 40.5%. ويتجسّد أحد الأمثلة الأخرى الموجودة في ميزانية 2019/20 في تحصيل 42.6% من إيرادات الضرائب المقترحة عن طريق ضرائب القيمة المضافة، ما يعتبر شكلاً تنازلياً للضرائب يضع أعباء أكبر على الفقراء. من ناحية أخرى، فإن أرباح الأعمال التجارية المملوكة للقوات المسلحة معفاة من الضرائب بموجب القانون رقم 96 (2015). ويعني هذا الأمر أن الحكومة تضع الأعباء على أكتاف الفقراء، فهم يمولون هوس البناء العسكري، وهو ما يتم بدوره استخدامه لإثراء النخب العسكرية وغيرهم من بطانة النظام.

ويختم مندور مقالته بالتالي: “ستواجه السياسة الحالية للحكومة المصرية عقباتٍ هيكلية كبرى في المستقبل. وإن عجزت الحكومة عن إنعاش القطاع الخاص عبر تحفيز الطلب المحلي، فإن سياسة الاعتماد الحالية على مشاريع البنية التحتية الضخمة ستفشل. كما أن جوهر سياسة استمرار مراكمة الديون يتمثل في مواصلة الضغط على الفقراء، إذ ستواصل الحكومة تخفيض الإنفاق الاجتماعي، وهو ما سيقلل من مستوى الطلب المحلي الفعال، ما سيؤدي بدوره إلى مزيدٍ من الضغط على القطاع الخاص. وإذا ما استمر هوس البناء إلى جانب ما سبق ذكره، فإن احتمالية تعزيز زخم وطاقة رأس المال المستثمر في قطاع البناء ستبرز بشكلٍ أكبر. إلا أن هذا الهوس لا يعدو عن كونه فقاعة لا بد وأن تنفجر”.