وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

افتقار الانتفاضة اللبنانية للقيادة قد يوصلها لطريقٍ مسدود

Protests lebanon
متظاهرة لبنانية مناهضة للحكومة تلوح بالعلم اللبناني خلال مظاهرةٍ أمام مقر البنك المركزي في بيروت للاحتجاج على السياسات الاقتصادية للبنك في 27 نوفمبر 2019. Photo: JOSEPH EID / AFP

مع دخول الاحتجاجات المناهضة للحكومة في لبنان أسبوعها الثامن، يبدو مستقبل الانتفاضة غامض، فمنذ 17 أكتوبر 2019، نزل اللبنانيون إلى الشوارع احتجاجاً على انهيار الاقتصاد والنخبة الفاسدة التي تتولى السلطة منذ عقود. ولأول مرة في تاريخ البلاد الحديث، احتشد الناس متخطين حدود الطائفية.

وعلى عكس الاحتجاجات الأخرى في السنوات الأخيرة، لا يتمركز الحراك الحالي حول العاصمة بيروت فحسب، بل أصبحت طرابلس، حيث يعيش أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، واحدة من مراكز الانتفاضة. ففي المدينة التي غالباً ما تصدرت عناوين الصحف لتصاعد التطرف السُنّي، تجمع الناس باستمرار للمطالبة بوضع حدٍ للفقر والحرمان. وفي بلدة النبطية التي تقطنها أغلبية شيعية، استهدف المحتجون رئيس البرلمان نبيه بري، أحد أقوى السياسيين في لبنان، الذين تسيطر حركته، حركة أمل، على المنطقة.

وصفت الاحتجاجات بالعفوية وافتقارها للقيادة، إذ قال جوزيف باحوط، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، لنا في فَنَك، “عدم وجود قيادة هي الشعار الجديد، إنها سمة لاحتجاجات اليوم في العالم.” وأضاف، “يقلل هذا من خطر الاستهداف والإنتقاء. كما يُظهر الناس أيضاً عدم ثقة تجاه الأساليب التنظيمية السياسية التقليدية. وبينما يُعبرون عن شكوكهم تجاه السياسة، يخشى المحتجون من التورط في مخطط يرفضونه.”

وعلى الرغم من عدم ظهور أي شخصيةٍ حتى الآن لتمثيل مطالبهم، أثبت المحتجون أن الحشود يمكنها ممارسة السلطة والتأثير، ربما بقدر القادة الأفراد. وبعد الأيام الأولى من الانتفاضة، بدأ المحتجون في تشكيل مجموعات، إما على أرض الواقع أو عبر تطبيق الواتساب، إذ ساعدهم ذلك في تنسيق إغلاق الطرق أو تنظيم التجمعات والمظاهرات.

أدى التنسيق خارج شبكة الإنترنت وبواسطتها على حد سواء إلى إجراءاتٍ مشتركة، مثل إحضار الأشخاص من خارج بيروت إلى العاصمة لإغلاق الشوارع المؤدية إلى البرلمان، أو تنظيم مسيرة مدنية في عيد الاستقلال أو إنشاء مبادرة لتنظيف الشوارع مع آليات فرز على أرض. كما أدى الإبداع الجماعي إلى إجراءات مذهلة مثل السلسلة البشرية التي امتدت من الجنوب إلى شمال البلاد. وفي الآونة الأخيرة، اصطف مجموعة من المتظاهرين اللبنانيين المناهضين للحكومة خارج البنك المركزي للحصول على قصة شعر مجانية في نداءٍ رمزي لجعل الأثرياء يدعمون الاقتصاد مالياً.

ينسق بعض المواطنين الخدمات اللوجستية ويتولون مسؤولية الاتصالات، بينما يتولى آخرون مسؤولية مراجعة الحقائق والكشف عن “الأخبار الزائفة.” كما يمكنهم أيضاً الاعتماد على مجموعة واسعة من الدعم عبر الإنترنت، فعلى سبيل المثال، بفضل مواقع الكترونية مثل دليل ثورة أو صفحات الفيسبوك مثل أخبار الساحة، إذ يمكن للأشخاص الاطلاع على مواعيد المظاهرات التي تحدث في جميع أنحاء البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، قدمت وسائل التواصل الاجتماعي معلوماتٍ حول مستلزمات الطوارىء والمساعدة اللازمة لدعم الحراك، كما قدّم بعض المحامين دعماً قانونياً مجانياً للمتظاهرين الذين فصلوا من وظائفهم.

بالإضافة إلى ذلك، حول الناس مدنهم إلى أماكن للنقاش العام، حيث تم إنشاء لجان لمناقشة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية الملحة.

لذا، على الرغم من أن الحراك لربما يفتقر إلى رؤساء صوريين، إلا أن هناك أشخاصاً يساهمون بنشاط في تنظيمه. وبالتالي، فإن الإشارة إلى أن الانتفاضة تفتقر إلى القيادة لربما لا يُصيب كبد الحقيقة.

“يبدو الأمر لطيفاً عندما نقول أن الاحتجاجات تفتقر إلى القيادة،” بحسب تعبير باحوط لنا، إلا أنه أضاف “لكن لا يمكنك تفسير مرونة الحراك خلال هذه الفترة الطويلة من الوقت، وهذه القدرات التنظيمية المذهلة والإجراءات المدروسة هذه دون أي نوع من القيادة.”

ومع ذلك، إذا ما أتت هذه الاستراتيجية ثمارها في المراحل المبكرة من الانتفاضة، فلربما تواجه قريباً مشكلاتٍ حرجة، فعلى سبيل المثال، قد يغذي”الافتقار إلى القيادة” نظريات المؤامرة. إن عدم الكشف عن هوية أولئك الذين يحشدون ليلاً ونهاراً لإحداث التغيير قد يثير الشكوك حول هوياتهم وحقيقة التزاماتهم تجاه الانتفاضة.

فقد استغل الأمين العام لحزب الله، المنظمة الشيعية القوية، هذا الجانب من الحراك للتصريح في خطابٍ ألقاه في 25 أكتوبر بأن الاحتجاجات المستمرة تحركها أجندات خارجية لإضعاف البلاد. بل إن نفس الخطاب يتردد صداه بين مؤيدي الرئيس ميشال عون، مؤسس التيار الوطني الحر المسيحي. كما يعتقد الكثير من هؤلاء المؤيدين أن الانتفاضة تتم بتوجيهٍ من فصائل سياسية أخرى مثل الحزب التقدمي الاشتراكي.

ومع ذلك، يرى بعض المعلقين أن ظهور القادة سيكون بمثابة نعمة للأحزاب الحاكمة الحالية، حيث يخاطر القادة باستهدافهم (ترهيبهم أو سجنهم أو قتلهم) من قبل السلطات كوسيلةٍ لغرس الخوف بين المتظاهرين وكبح إرادتهم لتغيير النظام، وضمان بقاء الأحزاب الحاكمة في السلطة.

القضية الأخرى التي قد تواجه الحراك هي افتقاره إلى الإيديولوجية، بل إن هذا هو أحد الأسباب وراء جذب الحراك لشرائح كبيرة من المجتمع اللبناني، بما في ذلك أشخاص من خلفياتٍ اجتماعية واقتصادية مختلفة. ورغم أن الجميع يتفق على الحاجة إلى محاربة الفساد وتغيير النظام، فإن قلة منهم لديهم فكرة واضحة عما يمكن استبداله. فعندما يجمع حراكٌ ما ملايين الأشخاص، فإنه يضم أيضاً وجهات نظرٍ مختلفة، إن لم تكن متعارضة، حول ما يجب أن يحدث فيما بعد.

وفي هذا الصدد، أشار باحوط “وصلنا هنا إلى حدود استراتيجية ‘عدم وجود برنامج‘. إن رفض هذا النظام أمر، والاتفاق على الخطوات التالية أمرٌ مختلف تماماً.” وأضاف، “هل نريد المزيد من الضرائب لتمويل الخدمات العامة أم تخفيض الضرائب؟ يدافع الكثيرون عن حكومة خبراء دون أن يدركوا أن مثل هذه الحكومة ستنفذ سياساتٍ تتطلب تضحيات.”

في الوقت الراهن، تعدّ أعمال العنف ضئيلةً مقارنةً بمئات الوفيات في العراق أو القمع في إيران، بيد أن الاشتباكات اندلعت بانتظام بين المتظاهرين وأنصار حزب الله وحركة أمل، المنافس الشيعي.

ففي 24 نوفمبر، ألقى أنصار الحزبين الحجارة على المتظاهرين وحاولوا التسلل إلى الحشود، كما حمل بعضهم العصي والقضبان المعدنية. وقبل ذلك بأسابيع، دمر أنصارهم أيضاً خيام المتظاهرين في ساحة الشهداء في بيروت وضربوا النشطاء الذين كانوا يغلقون جسر الرينغ، أحد الطرق العامة الرئيسية.

ومع ذلك، حتى وإن كان حزب الله يتمتع بالقوة اللوجستية لسحق الثورة، إلا أنه أظهر حتى الآن ضبطاً للنفس بعدم اللجوء إلى العنف، مراهناً على اضمحلال زخم الاحتجاجات. ووفقاً لباحوط، “يعرف حزب الله جيداً أن مثل هذا الحراك يمكن أن يتعثر مع ظهور تناقضاته الداخلية، وأن الناس قد يشعرون بالتعب، وأن الأزمة الاقتصادية ستضرب بقوةٍ أكبر، وأن بعض الناس سيفقدون وظائفهم وقد يصبحون أقل ميلاً لدعم الانتفاضة.”

علاوةً على ذلك، يتنامى اليأس الاجتماعي مع تعمق الأزمة، إذ تم الإبلاغ في الآونة الأخيرة عن العديد من حالات الانتحار، مما يلقي الضوء على الوضع المأساوي الذي يعانية عدد متزايد من اللبنانيين غير القادرين على تلبية احتياجاتهم.

فقد اضطرت العديد من شركات القطاع الخاص إلى خفض الرواتب إلى النصف، ويعيش العديد من الموظفين في خوفٍ دائم من تعرضهم للطرد. ووفقاً لنقابة مالكي المطاعم، أغلق أكثر من 250 عمل تجاري في أكتوبر وحده.

كما أجبرت القيود المفروضة على عمليات السحب بالدولار الناس إلى اللجوء إلى الصرافين، مما رفع سعر الصرف غير الرسمي إلى أكثر من 2200 ليرة لبنانية للدولار الواحد، والتي عادة ما تكون في حدود 1500 ليرة للدولار.

ويشهد التضخم ارتفاعاً أيضاً في حين أن تدفقات رأس المال في حالة ركود، وبحسب الخبراء، قد يواجه لبنان قريباً تخلفاً عن سداد الديون السيادية، وهناك مخاوف من تنامي معدلات الجريمة.

من جهتها، كافحت الحكومة لإيجاد حلٍ للأزمة منذ استقالة سعد الحريري كرئيس للوزراء في 29 أكتوبر. فقد أعلنت الرئاسة في 4 ديسمبر أنها ستجري مشاوراتٍ برلمانية وستعمل على تسمية رئيس الوزراء المقبل في 9 ديسمبر. أحدث المرشحين لهذا المنصب هو سمير الخطيب، وهو رجل أعمال لم يشغل أي منصبٍ سياسي على الإطلاق. ومع ذلك، أغضب ترشيحه المتظاهرين الذين يقولون إنه قريبٌ جداً من المؤسسة.

في الوقت الراهن، لا تزال التطورات السياسية في لبنان غير متوقعة.