اندلعت معظم الاضطرابات في المدن ذات الأغلبية الشيعية في جنوب العراق، رغم أن الاحتجاجات ليست طائفية، بل على العكس من ذلك، فهم يروجون للقومية العراقية بشعاراتٍ تدعو إلى بناء “دولة” كوسيلة لاستنكار الطائفية وانعدام السيادة.
فاجأت هذه الاحتجاجات رجال الدين الشيعة، إذ عبّر كل من مقتدى الصدر وعمار الحكيم، وهم من كبار رجال الدين الشيعة، عن تأييدهم لمطالب المتظاهرين إلى جانب انتقادهم عجز رئيس الوزراء عادل عبد المهدي الاستجابة لهم. ومن المفارقات أن كلا الرجلين كان لهما يدٌ في تشكيل حكومة الائتلاف بقيادة عبد المهدي، وذلك بعد خمسة أشهر من انتخابات مايو 2018 التي أدت إلى انتصار الصدريين، وهي حركة إسلامية وطنية يقودها الصدر.
من جهته، أيد الصدر استراتيجيةً قومية ضد التدخلات الأجنبية. ومع ذلك، بدا موقفه من الاحتجاجات مشوشاً في الآونة الأخيرة، فخلال احتفالات عاشوراء في أوائل سبتمبر، زار العاصمة الإيرانية طهران فيما اعتبر أنه مؤشرٌ على تأثير الجمهورية الإسلامية على آرائه السياسية، إذ تعارض ذلك مع انتقاده العلني لدور إيران شبه العسكري في البلاد قبل أيام قليلة. وفي أواخر أكتوبر، دعا منافسه السياسي الرئيسي، هادي العامري، إلى العمل سوياً للإطاحة برئيس الوزراء.
ومن الجدير بالذكر أن معظم العراقيين يعيشون ظروفاً قاسية، حيث يعيش خمس السكان تحت خط الفقر و25% من الشباب عاطلون عن العمل. وعلاوةً على ذلك، فإن الافتقار إلى الخدمات الأساسية، وخاصة نقص الكهرباء، واقعٌ يومي يعيشه الشعب العراقي، ومع ذلك، في الوقت نفسه، تحقق الحكومة أرباحاً طائلة.
ففي أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق عام 2003 وسقوط الرئيس صدام حسين، عملت الولايات المتحدة على تشكيل حكومة عراقية على أسس طائفية. فالأغلبية الشيعية، التي عانت من التمييز والتهميش في عهد صدام حسين، ساهمت بنشاط في إعادة إعمار البلاد، واليوم، على الرغم من أن الحكومة يقودها الشيعة، فإن شرائح متعددة من السكان يرون أن النظام الحالي يعزز الفصائل السياسية. وعلاوةً على ذلك، لا يخضع الفساد المستشري والمسؤولون للمساءلة من قبل أي مؤسسة، ويستفيدون بدلاً من ذلك من شبكات المحسوبية. كما إن ما يُقدر بـ450 مليار دولار من عائدات النفط لم تُدرج ضمن الموارد المالية للدولة، بل وجدت طريقها إلى جيوب النخبة السياسية التي تعتمد على المحاباة.
اندلعت الانتفاضة العراقية الحالية كرد فعلٍ غاضب على قيام عبد المهدي بإقالة قائد وحدة “مكافحة الإرهاب” السابق الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي دون سبب رسمي. بالنسبة للعديد من المتظاهرين، يعتبر الرجل بطلاً لقيادته عملية استعادة مدينة الموصل من أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2017.
أثار قرار استبداله بالفريق سامي العارضي، وهو رجل مقرب من الحشد الشعبي، المؤلف من ميليشيات شيعية برئاسة الحرس الثوري الإيراني، غضباً بين العراقيين الذين اعتبروا القرار محاباةً لإيران.
وبينما يعبر المتظاهرون عن إحباطهم من النظام السياسي العراقي، فإنهم يستهدفون أيضاً طهران، التي شددت قبضتها على البلاد بشكلٍ متزايد وتمارس نفوذاً مطلقاً تقريباً.
مثال ذلك ما كشفت عنه صحيفة نيويورك تايمز وموقع ذا انترسبت مؤخراً حول مدى تغلغل ضباط المخابرات الإيرانية داخل الحكومة العراقية وقيادتها العسكرية العليا واستخدامهم عدداً من المصادر التي كانت تديرها وكالة الاستخبارات المركزية سابقاً.
كما انخرطت إيران بشكلٍ مباشر في منع الإطاحة بعبد المهدي، حيث التقى قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني، سراً في أواخر أكتوبر مع العامري وقادة ميليشياته إذ طلب منهم مواصلة دعم عبد المهدي.
ومنذ بداية الاحتجاجات، قُتل أكثر من 300 شخص وجرح المئات.
لا تشارك المليشيات الموالية لإيران مشاركةً مباشرة في قمع المظاهرات فحسب، بل تعمد إلى تخويف المتظاهرين وعائلاتهم أيضاً، وتهدد بخطفهم. كان هذا هو الحال بالنسبة لصبا المهداوي، البالغة من العمر 37 عاماً، والتي اختطفتها الميليشيات في 2 نوفمبر.
من جهته، أشار رئيس الوزراء السابق إياد علاوي بسخرية إلى أن السلطات تمكنت من تحديد مكان زعيم تنظيم الدولة الإسلامية السابق أبو بكر البغدادي الذي كان متوارياً عن الأنظار منذ سنوات، بيد أنها لم تتمكن من العثور على امرأة اختطفت في شوارع بغداد.
وبالمثل، تم الإبلاغ عن عدة حالاتٍ تتعلق باختفاء المتظاهرين. فقد نشرت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) تقريرين يدينان المستوى العالي من العنف الذي يميز القمع في العراق. يسرد التقرير الثاني ست حالات على الأقل لمتظاهرين أو متطوعين تعرضوا للخطف من قِبل أشخاص مجهولي الهوية في بغداد. ويخشى كثيرون من أن الحصانة التي تتمتع بها الميليشيات النشطة في المدينة والموالية لإيران قد تدفع هذه الميليشيات إلى خطف المحتجين من منازلهم بمجرد التعرف عليهم.
ومنذ نهاية شهر أكتوبر، لم تقم قوات الأمن بإطلاق الغاز المسيل للدموع فحسب في الهواء لمحاولة تفريق المتظاهرين، بل عمدت أيضاً إلى استهداف المتظاهرين بها بشكلٍ مباشر. وعليه، وثّقت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) تعرض 16 متظاهراً على الأقل للقتل بقنابل الغاز المسيل للدموع التي استهدفت رؤوسهم أو صدورهم. كما ذكرت منظمة العفو الدولية أن بعض هذه القنابل المستخدمة مصنّعة في إيران.
ولمنع المتظاهرين من التواصل، تلجأ السلطات إلى إيقاف خدمة الإنترنت عن البلاد، ليبقى العنف الحاصل بعيداً عن الأنظار.
وفي 15 نوفمبر، عبر الرجل الدين الشيعي علي السيستاني عن إدانته الشديدة للسلطات العراقية، إذ قال إن البلاد لن تعود إلى سابق عهدها بعد المظاهرات.
أما على الصعيد الرمزي، فقد تمكن المنتخب العراقي لكرة القدم، في اليوم السابق، من هزيمة نظيره الإيراني بهدفين لهدف في نطاق التصفيات الآسيوية المؤهلة لمونديال قطر. وفي أعقاب الفوز، خرجت حشودٌ للاحتفال في ساحة التحرير في العاصمة بغداد.