غازي دحمان
في سورية ثمّة جيوش غب الطلب، جاهزة للعمل في ساحات قريبة وبعيدة، ويبدو أنها ستصبح جزءاً مهماً من أدوات صراعات المشاريع الجيوسياسية، من ليبيا إلى فنزويلا وقرة باغ وصولاً إلى أوكرانيا، وقد تصبح سورية قريباً واحدة من أهم منتجي المرتزقة وأكثر الدول تصديراً لهم، بالتزامن مع فشل الدولة السورية، التي يصادرها نظام الأسد، في إنتاج أي شيء ذو قيمة، بما فيه رغيف الخبز بوصفه أضر ضروريات المعيشة.
ويبدو أن صمت المدافع على الجبهات السورية قد نتج عنه عطالة جيوش تعيّشت على مدار سنوات من مهنتها القتالية، وكانت تسيّر شؤون حياتها بالمرتبات التي تحصل عليها، أو عبر عمليات النهب والتشليح، التي تسمى بمنطق الحروب بالغنائم، أو حسب التسمية السورية (التعفيش) الذي ازدهر طول سنوات الحرب، وكان يشكّل مكافأة أقرها نظام الأسد للعناصر التي تخدم في هياكله العسكرية أو التشكيلات الرديفة لقواته.
لقد ساهمت ظروف الحرب في تحويل عشرات الآلاف من السوريين، على جبهات النظام والمعارضة، إلى امتهان القتال بعد تعطّل كافة وسائل الإنتاج، في اقتصاد كان بالأصل ضعيفاً ومصدّرا للعمالة بكثافة، وعلى مدار عشر سنوات، لم يعرف جيل بكامله مهنة أخرى سوى القتال والتكسّب من هذه المهنة، وبالطبع لم يتلق هذا الجيل قدراً كافياً من التعليم، وبالتالي فإنه يواجه في مرحلة توقف الحرب انعدام بدائل كسب الرزق.
بالإضافة لذلك، شكّلت لغة ومنطق الحرب وأساليب التفكير ونمط المعيشة خلال الأزمة الجزء الأكبر من ثقافة وعقيدة هؤلاء المتعسكرين، الذين سيجدون في رتابة الحياة المدنية وعيشة السلم وضعاً نشازاً يصعب التوافق معه والتكيف مع مقتضياته الجديدة، وربما هذا ما يفسر سبب انتشار الجرائم بكثرة في سورية، سواء في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام أو المعارضة، جرائم بمختلف أنواعها، من السرقات إلى التشليح إلى القتل والاغتصاب.
استفادت روسيا وتركيا من هذه الظاهرة، التي كانت أحد العوامل المساعدة للسير بمشاريعهما الجيوسياسية، فهما أكثر طرفين يعرفان الواقع الاجتماعي السوري والاتجاهات المجتمعية بداخله، بحكم تماسهما مع هذا الواقع، بالإضافة إلى إشرافهما على تدريب وتهيئة عشرات آلاف المقاتلين.
كانت ليبيا المختبر الأول لتوظيف هذه الجيوش السورية السائبة، وللمصادفة كان هناك صراع مرير بين روسيا وتركيا، ولا يرغب الطرفان بزج جيوشهما في هذا الصراع لما سيرتبه هذا الأمر من التزامات وعواقب قانونية، ولصعوبة تبرير مقتل مواطنيهما في جبهات بعيدة عن حماية الأمن القومي لكل منهما، وقد أدى نجاح التجربة الليبية بالنسبة لروسيا وتركيا وتحقيق أهدافهما الجيوسياسية إلى التنبه لهذا الكنز الذي يحصّلانه بثمن بخس، ثم جرى بعد ذلك استنساخ التجربة الليبية في ساحات قتال أخرى.
بالنسبة لنظام الأسد، فهو رابح على الجبهتين، سواء كان المرتزقة من عناصره أو من عناصر المعارضة، إذ في كلتا الحالتين يتخلص من عناصر مزعجة له، وهذه العناصر في النهاية تشكّل مصادر خطر عليه، بعد أن تمرّست على الحروب والقتال، والأهم من ذلك، أنها باتت مستهترة بالضوابط والقوانين، كما أن قدسية بشار الأسد قد سقطت من وعيها وإدراكها، وترسّخ بدلا منها الصورة التي جرى تكوينها أثناء المعارك عن النظام ورأسه بصفتهم عصابات لا توفر القتل والسرقات في سبيل تحقيق أهدافها.
ويعتقد عناصر السلاح، في جبهات الحرب السورية، أنهم شركاء في صناعة النصر(كلا الطرفين يعتقد انه انتصر) وبالتالي فإن إزاحتهم من المشهد وإبعادهم عن الغنائم هو أمر ينطوي على ظلم كبير بالنسبة لهم، فلماذا تذهب المكاسب لفئة قليلة ويتم استثناؤهم بعد أن أوصلوا أحلامهم إلى أعلى السقوف، من أنهم سيكونون قيادات مستقبلية، وسيحصلون على أوضاع جيدة وحياة مؤمنة طول العمر، لا جيوش عاطلة عن العمل، أو حتى إن بقيت عاملة فهي لا تحصل حتى على الكفاف الذي يكفي إطعامها.
في جميع البلدان التي شهدت صراعات سياسية أو حروبا أهلية، كان أول استحقاق يتم الاهتمام به هو إعادة تأهيل المقاتلين في الحرب، إذ ومن خلال تجارب عالمية عديدة، فإن هذه الفئات ليست لديها مؤهلات لحياة السلم، وكان يتم تخصيص ميزانيات كبيرة لتعليمهم وتحسين سلوكهم بإشراف علماء اجتماع ونفس، ذلك أن المسألة ليست سهلة على الإطلاق، فهؤلاء في الغالب إما أنهم عايشوا مخاطر كبيرة أثرت بوعيهم ومداركهم، أو مارسوا أعمالا منافية للأخلاق والقوانين، التي غالبا تسقط أثناء الحروب، وخاصة الداخلية التي تختلط فيها الفواعل ولا تكون خاضعة للقواعد القانونية التي تحكم الأطراف في فترات الحرب، وبالتالي تغيّرت قيمهم وقناعاتهم واعتقاداتهم بشكل كبير، ويحتاج إصلاحهم وإعادة تدويرهم في حياة السلم ورشات عمل متنوعة ومتعددة وبرامج متخصصة.
وإذا كان من غير المتوقع حصول مثل هذا الأمر في سورية، إما بسبب نقص الموارد، وإما، وهذا هو الأهم، عدم حصول تغييرات مهمة على مستوى الحكم، لا في البنية ولا في السلوك، فإن حل المعضلة التي تشكلها الجيوش السائبة هو فتح باب الارتزاق على أوسع مصارعه، من جهة يتم التخلص من أعداد كبيرة من هؤلاء في ساحات الحرب الخارجية، ومن جهة أخرى يتم إسكات من ينجو من الموت، حيث ستتكفل العوائد التي سيتحصلون عليها بإلهائهم وإشغالهم إلى حين تخبو بداخلهم ذكرى الحرب.
على ذلك، فإن سورية، التي تعسكرت لعشر سنوات، وانخرط في عسكرتها مئات الآلاف من الشباب، ولم تتوفر لهم بدائل أخرى لممارسة الحياة الطبيعية، ربما تحتاج ساحات حروب عديدة لتشغيل هذه الطاقات السائبة، وحبذا لو لم يعودوا من تلك الساحات، فهناك جيل، أكثر براءة، وأقل تطلباً، يجري تأهيله لتولي زمام الحروب السورية المستقبلية، والتي يبدو أن نظام الأسد لم يرتو منها بعد.
ملاحظة
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.