وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

القرآن كظاهرة صوتية في دراسة استشراقية منصفة

القرآن كظاهرة صوتية
صورة تم التقاطها يوم ١٣ يونيو ٢٠١٦ لمسلم باكستاني وهو يقرأ القرآن في أحد المساجد الموجودة في مدينة كراتشي خلال شهر رمضان المبارك. المصدر: RIZWAN TABASSUM / AFP.

تركّز الباحثة كريستينا نيلسون على القرآن كظاهرة صوتية لا كنص مكتوب

يوسف شرقاوي

ليس الموقف الاستشراقي من القرآن جديداً، فقد ظهر الجدل حول النص القرآني مبكراً منذ يوحنا الدمشقي (١) وموسى بن ميمون (٢) وتوما الإكويني (٣) وبطرس المبجل (٤). وقد كان الأخير أوّل من شجّع مشروع ترجمة القرآن إلى لغة غربية. فظهرت أول ترجمة إلى اللاتينية على يد البريطاني روبرت كيتون (٥) بين عامي ١١٣٦ و١١٥٧. وبعد ذلك تتابعت الترجمات وتوسع المستشرقون في دراسة علوم القرآن. وبرزت المدارس الاستشراقية مثل الفرنسية والألمانية، إلى أن ظهرت دراسة مختلفة للمستشرقة الأمريكية كريستينا نيلسون.

قبل نيلسون، انصبّت معظم الدراسات الاستشراقية للقرآن على الجانب اللغوي. واعتبر المستشرقون الكتاب كتاباً لغوياً نصياً، حيث استخدموا فقه اللغات “philology” لدراسته. وقد استغرقوا في البحث في أدق التفاصيل اللغوية الموجودة ضمن النص القرآني، محاولين إرجاعها إلى ما يتصورون أنه أصلها في اللغات الشرقية الأخرى. لذلك، كان استقراؤهم مجتزأ، بسبب اعتمادهم المناهج البحثية القديمة.

أما كريستينا نيلسون، التي زارت مصر قبل أربعين عاماً على وجه التقريب، واستقرّت في القاهرة، فقد قامت بقراءة مغايرة قد تكون الأولى من نوعها، في محاولة للوصول إلى فهم أعمق للقرآن. فسّرت نيلسون القرآن كظاهرة صوتية في الأساس، لا كنص ديني مكتوب يماثل النصوص المرسلة التي سبقته. ورأت نيلسون في الظاهرة القرآنية جزءاً من صميم الإخلاص الديني الذي يتجاوز الخلفية السمعية، وقطعةً من روح الممارسات الثقافية والاجتماعية. بعبارة أخرى، كانت الظاهرة القرآنية عندها فناً له قيمته الخالصة.

يغيّر تناول نيلسون للظاهرة القرآنية الطريقة التي نفهم بها القرآن، مثلما يغيّر الطريقة التي نستمع بها إليه، كما يقول فيليب دي شيلر. وتشرح نيلسون القوى العاطفية للقرآن عند تلاوته، بما يستحضره من شعرية، أي كيف يستحضر إيقاعه المعنى. وتشرح التنغيم والسياق الاجتماعي والجدل الدائر حول الموسيقى في الإسلام وصوتية القرآن كما تحدث في الحياة اليومية، وموضوع التلقي اليومي، وربما موضوع التجويد والتلاوة في أصله، نادراً ما عولج وذُكِر في الدراسات الاستشراقية.

تعتبر نيلسون أنّ النص المكتوب للقرآن ليس من مهمته الحفاظ عليه من التغيير، فالأساس في الحفاظ عليه هو القراءة الشفاهية. وعندها: النص المكتوب ليس المرجع المطلق، بل جزء واحد فقط من الظاهرة القرآنية، ومن بينها الصوت واللوح المحفوظ (٦) وغيرهما.

ترتكز المعرفة القرائية على مصادر عدة، أكثر من مجرد الكلمة المكتوبة. وندرك أنّ أول نص قرآني مكتوب تم توزيعه بين الناس مع مقرئ يعلّم فن التلاوة.

من خلال دراسة كريستينا، يمكن القول إنها تنتمي إلى جبهة الاستشراق المنصف الذي يحقق نوعاً من التعادل الموضوعي بين مفردات أية قضية تكون موضعاً للنقاش.

وكانت الدراسات الاستشراقية على مر الزمن تفرز أساليب تعامُل مع الإسلام وأسلوب خطاب، وفق مناهجها وتصوّرها الخاص. وكانت وسيلة لرسم الشرق وتقديمه لا للغرب فقط ولكن لأهل الشرق أنفسهم.

عندما شرع المستشرقون في دراسة القرآن قراءة بحثية تخلو من الغايات القديمة مثل معرفة دين العدو وشيطنته، أو معرفة دين الشعوب من أجل استعمارها واستغلالها، ذلك بعد تغيّر موازين القوى العالمية وصعود أوروبا عسكرياً وحضارياً، أي عندما صارت دراسة القرآن لغرض معرفي، سيطر على المستشرقين ماضٍ ثقيل وإرث معرفي تعامل مع القرآن من منطلق التكذيب والاستخفاف، فوقعوا في مأزق التشنج الديني.

أما نيلسون، فاستطاعت تنحية العقلية التي حكمت غيرها في تعاملهم ودراستهم للقرآن وعلومه. واستندت إلى تماسات وانفعالات ذاتية لتحقيق مسار جديد في طابع الدراسات الاستشراقية. استهوتها اللغة العربية صوتاً وإيقاعاً وأشكالاً للنحو، فتعددت قراءاتها في الأدب العربي القديم. ولم تكتفي بالرصد عن بعد، بل عاشت في القاهرة مستمعة وقارئة ومتدربة للفن الذي تحبه، مما جعل دراستها ميدانية، منصفة، لا غاية سلبية منها.

 

المصادر:

1_ The Art of Reciting the Qur’an, Kristina Nelson, American Univ. In Cairo Press, 2001.
https://www.amazon.com/Art-Reciting-Quran-Kristina-Nelson/dp/9774245946
https://youtu.be/fNfPVPCIcsA

٢. الاستشراق والدراسات القرآنية بين الأمس واليوم، د. رغداء محمد أديب زيدان. مركز تفسير للدراسات القرآنية.

٣. باحثة أمريكية توثق فن تلاوة القرآن في مصر، أشرف أبو اليزيد، مجلة داليدا، العدد الثاني، يوليو _ أكتوبر، 2016.

_____________________
(١) https://www.marefa.org/%D9%8A%D9%88%D8%AD%D9%86%D8%A7_%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82%D9%8A
(٢) https://www.marefa.org/%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%89_%D8%A8%D9%86_%D9%85%D9%8A%D9%85%D9%88%D9%86
(٣) https://www.marefa.org/%D8%AA%D9%88%D9%85%D8%A7_%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%83%D9%88%D9%8A%D9%86%D9%8A
(٤) https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A8%D8%B7%D8%B1%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%AC%D9%84
(٥) https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%B1%D8%AA_%D9%83%D9%8A%D8%AA%D9%86
(٦) https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%88%D8%AD_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%81%D9%88%D8%B8

 

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.