وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مفارقات إحياء وسط البلد في القاهرة

Egypt- Mustafa Kamel Square
ميدان مصطفى كامل. Photo FACEBOOK / Mantiqti

للوهلة الأولى، يبدو وسط القاهرة فوضوياً ومزدحماً وملوثاً، وغالباً ما يبدو متداعٍ، إذ يتطلب الأمر بعض الجهد للتعرف على جمال الهندسة المعمارية للحقب القديمة الجميلة، الشاهدة على أوقاتٍ أفضل. ومع ذلك، باتت خطط إعادة الأمجاد السابقة لهذا الجزء من المدينة تكتسب زخماً.

في أواخر القرن التاسع عشر، كلف إسماعيل باشا، خديوي مصر، مجموعة من المهندسين المعماريين الفرنسيين بتصميم مركزٍ جديدٍ للمدينة، الذي يقع بين النيل والمنطقة التاريخية التي يشار إليها اليوم باسم القاهرة الإسلامية. كان يتصور مدينةً تضاهي مظهر وعظمة العواصم الأوروبية الحديثة في ذلك الوقت.

تم تحقيق رؤيته؛ بشوارعها الواسعة المستقيمة ومبانيها التي حملت طابع الفنون الحديثة وفنون الزخرفة الأوروبية، سُميّت القاهرة “باريس على النيل.” ومع ذلك، منذ منتصف القرن العشرين، بدأت المدينة بالتراجع. فقد دمرّ حريقٌ شب في عام 1952 أجزاء من المدينة، وبعد ثورة عام 1952، بدأت الطبقة الراقية ومجتمع المغتربين بالإنتقال خارج المدينة. وعلاوةً على ذلك، أدت سلسلةٌ من قوانين الملاك والمستأجرين إلى تجميد الإيجارات بشكلٍ فعّال، حيث كان يتم اقتطاع حوافز لصالح ملاّك العقارات لصيانة مبانيهم. وفي النصف الثاني من هذا القرن، نما سكان مصر بسرعة أيضاً، بل إن عدد سكان القاهرة ازداد أكثر بسبب الهجرة من الريف. نتيجةً لذلك، أصبحت المدينة مزدحمة أكثر فأكثر.

ظهرت خطط إعادة إحياء وسط مدينة القاهرة في أواخر التسعينيات، إلا أنها بدأت تتجسد على أرض الواقع بعد عقدٍ من الزمن. ففي عام 2008، تأسست شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري بهدف “استعادة العظمة التقليدية لمدينة القاهرة والمحافظة على تراثها المعماري.” وتتمثل استراتيجية الشركة في شراء العقارات وتجديدها وتأجيرها لمستأجرين جدد مع دعم إحياء “المشهد الفني والثقافي.” يتم تحويل المباني التراثية المستعادة إلى استوديوهات فاخرة ومحلات تجارية وفنادق البوتيك.

الثورة

هزّت ثورة 25 يناير 2011 المدينة وأرجأت تنفيذ هذه الخطط. كانت القاهرة مركز الاحتجاجات الجماهيرية واستمر الوضع على هذا الحال لعدة سنوات، فقد ركزت الشرطة على قمع الاضطرابات وانسحبت من إنفاذ القانون في مناطق أخرى. استغل الباعة المتجولين وأصحاب المقاهي وغيرهم الفرصة للتوسع بسرعة.

ومنذ عام 2014، استعادت الدولة تدريجياً السيطرة على وسط القاهرة، الذي تم غالباً بالقوة. فقد تم إخلاء الشوارع من الباعة المتجولين بشكلٍ عنيف، وتم إغلاق منطقة المقاهي الكبيرة (البورصة)، وتم تطهير كورنيش النيل من القوارب الترفيهية. كما تم افتتاح مرآب لوقوف السيارات أسفل ميدان التحرير، وتركيب إشارات ضوئية، كما تم تطبيق قواعد عدم وقوف السيارات بشكلٍ أكثر صرامة.

وإلى جانب ذلك، قامت الحكومة بإعادة طلاء ما لا يقل عن 200 مبنى، ومع ذلك، لا تزال البنية التحتية للمباني والمباني من الداخل بحالٍ يرثى لها، بحسب ما أخبرنا به العديد من الأشخاص الذين يعيشون أو يعملون في المنطقة.

فقد قال لنا طارق عطية، مؤسس موقع منطقتي، وهو منفذ إخباري محلي للمنطقة “طلاء المباني هي الخطوة الأولى، وهي طريقةٌ لإظهار جمال وقيمة وسط البلد، وبالتالي باتت جذابةً للأشخاص الذين لربما لم يسبق وأن لاحظوا وجود هذا الكنز الدفين.” وأضاف “إعادة التجديد قضيةٌ أخرى، إذ أنها أكثر كُلفة، الأمر الذي يتطلب تمويلاً خارجياً رئيسياً.”

كما أن عطية هو المتحدث الرسمي للجنة القومية لحماية وتطوير القاهرة التراثية، وهي مبادرة لترميم وإحياء وسط المدينة. تتضمن اللجنة القومية لحماية وتطوير القاهرة التراثية أصحاب مصلحةٍ رئيسيين من القطاع الحكومي مثل محافظة القاهرة، ووزارة التخطيط، والهيئة العامة للتخطيط العمراني، بينما يتضمن أصحاب المصلحة من الناحية المالية مجموعة الإسماعيلية والمصارف المحلية. وبحسب عطية، “إنها محاولة لوضع الأشخاص المناسبين في المكان المناسب.”

تمثل أول مشروع تجريبي للجنة بتجديد وتطوير شارع الألفي، وهي منطقة مخصصة للمقاهي والمطاعم، وذلك بالتعاون مع جمعية المستأجرين. من جهته، يشعر عطية بالتفاؤل تجاه المشروع، إلى جانب رضاه عن التنسيق بين مختلف أصحاب المصلحة، إذ قال “يبدو أن التجربة نجحت بشكلٍ جيد، فهناك ممر للمشاة، وهو ينبض بالحياة في حين أن المقاهي في أماكنها المخصصة. يبدو أنهم يتبعون القوانين.”

ويعدّ هذا مختلفاً تماماً عن منطقة البورصة السابقة، التي لم تكن مقسمة وكان يتم فيها التعدي بشكلٍ واضح على الأرصفة والشوارع بطريقة غير مضبوطة.

منذ إغلاق المقاهي، أصبحت منطقة البورصة خاويةً ومهجورة. وقال باتريك فير، الصحفي في مجال الأعمال والمقيم في مصر منذ فترةٍ طويلة لفَنَك: “لقد تحولت أجزاء من المنطقة ببطء إلى موقف للسيارات.” وبالتالي، سيركز مشروع اللجنة القومية لحماية وتطوير القاهرة التراثية القادم على منطقة البورصة. وقال عطية في هذا الصدد، “توجد في المنطقة أعلى نسبة من المباني التراثية في جميع أنحاء المدينة، ونحن نريد تحويلها إلى منطقة للفنون والثقافة.”

إحياء الفنون والثقافة

Egypt- Egypt new capital
Source: Wikipedia. @Fanack.com

يعد المشهد الثقافي والفني الحيوي جانباً مهماً لإحياء وسط المدينة وجعله أكثر جاذبية للمستثمرين والمستأجرين، لكن هناك مخاوف أيضاً.

وبصرف النظر عن الاضطرابات الاجتماعية والفوضى، أحدثت الثورة، التي لم تدم طويلاً، طفرةً إبداعية. فقد كان شارع محمد محمود – المقابل لميدان التحرير ومسرح الاشتباكات العنيفة- مغطى بكتابات الجرافيتي الثورية. واليوم، تم تقريباً إزالة كل هذا وإعادة طلاؤه جزئياً وتزيينه بأعمال فنية غير سياسية. بالإضافة إلى ذلك، تمت مداهمة عدة مراكز ثقافية مثل تاون هاوس جاليري عدة مرات في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت تخضع لضوابط صارمة ترقى إلى مستوى الرقابة. كما تم اقتحام العديد من الأماكن الأخرى مثل دارٍ نشر، ومتجر لبيع الكتب، ومكتبة، أو حتى إغلاقها.

فقد قالت لنا مريم (التي لم ترغب أن تذكر اسم عائلتها)، والتي تعمل في مشروعٍ استشاري لتطوير التراث في وسط المدينة إن “المشهد الفني الأصيل يحتاج إلى مساحة، ولا ينبغي أن تكون العملية تنازلية.”

كما تفرض الرقابة تحدياً متزايداً على المسارح أيضاً. فقد سبق وأخبرتنا سندس شبايك في فَنَك أنه أصبح من الصعب، على نحوٍ متزايد، عثورها على مكانٍ لتقديم عروض مشروع بُصي، ذلك أن غالبية الأماكن لا ترغب في تقديم عروض مسرحياتٍ مثيرة للجدل على مسارحها. ينطبق ذات الشيء على المشهد الموسيقي، فقد تم منع فرقة “كايروكي” الشهيرة، التي تمتلك مجموعة من الأغاني السياسية، من تقديم عروضها عدة مراتٍ في العام الماضي. وعندما أقيم الحفل في نهاية المطاف، تم ذلك وسط حضور أمني كثيف ولم يُسمح للفرقة بأداء العديد من أغانيها الصريحة. كما تم منع الفرقة اللبنانية مشروع ليلى من تقديم عروضها في مصر بعد أن تم رفع علم قوس قزح المرتبط بحقوق المثليين بين الجمهور.

إن السيطرة على الفضاء العام قضيةٌ متجذرة. فقد كان وسط القاهرة معروفاً، على نحوٍ سيء، منذ الثورة بسبب العدد الكبير من المخبرين. وكثيراً ما تم اعتقال منتقدي النظام في المقاهي في المنطقة. تحسن الوضع، إلا أننا واجهنا في فَنَك بعض التنصت أثناء إجراء مقابلة لهذا المقال.

كما أن صدق رغبة الحكومة في إحياء المشهد الفني والثقافي موضع شك، بالنظر إلى الجهود التي تبذلها قوات الأمن بشن حملاتٍ ضد المبادرات المستقلة، إذ قال أحد السكان: “إن فكرتهم عن الثقافة تنحصر بالحرف اليدوية.”

بيد أن عطية أكثر إيجابية، “لا تزال تاون هاوس جاليري مفتوحة وتنبض بالحياة كسابق عهدها.” كما يعتقد أنه يمكن إقامة العروض العامة في وسط المدينة “عندما تشرك الهيئات الأمنية المناسبة في وقتٍ مبكر بالعملية، لمناقشة أزمة المرور وأشياء من هذا القبيل.”

مثلث ماسبيرو

أثيرت أيضاً مخاوف حول نهج الحكومة لتطوير المناطق الأخرى. فقد تم هدم ماسبيرو، وهو حي للطبقة العاملة المضمحلة، إلى جانب العديد من المباني التراثية في منتصف عام 2017. تتمثل الخطة في تحويلها إلى منطقة تجارية وسكنية حديثة. وعليه، شُرّد السكان السابقون، بعد مفاوضاتٍ طويلة وصعبة.

وقال مصدرٌ مقرّب من القضية لفَنَك، “كانت الخطة الأصلية أن يتم تطوير أجزاء من المنطقة، وهدم أجزاء أخرى وإعادة بنائها مع الحفاظ على النسيج الاجتماعي.” واليوم، يخشى أيضاً سكان الوراق، وهي جزيرة في النيل ولا تبعد عن مثلث ماسبيرو ووضعت لها خطط لتطويرها، التهجير وإزالة منازلهم.

وبحسب الصحفي فير، “كان بوسعهم، بل توجب عليهم، حماية المباني التراثية، إلا أن خسارة ما تبقى من المنطقة لا يبدو كارثةً كبرى.” وأضاف “قد يساعد بناء المباني السكنية والمكتبية الحديثة في المنطقة في الحفاظ على ثروات مصر في وسط القاهرة، وهو أمر يمكن أن يساعد في بناء قوة ضاغطة للحفاظ على المناطق التاريخية القريبة.”

إحدى هذه المناطق هي عابدين، حيث تم هدم فندق جراند كونتنينتال التاريخي في يناير عام 2018. وبحسب فير، “إذا كنت تريد أن تكون القاهرة التقليدية مركزاً تاريخياً، فلا يمكنك أن تسمح بهدم العديد من المباني القديمة.”

علاوةً على ذلك، يبدو أن التزام الحكومة بترميم وسط القاهرة وجذب المزيد من الأموال إلى المدينة يتعارض مع المشاريع الكبرى الأخرى، حيث يتم استثمار المليارات في مدنٍ جديدة في الصحراء، لا سيما في العاصمة الإدارية الجديدة، التي تستهدف السكان الأثرياء، إذ تساءل أحد المصادر القريبة من المشروع وغير المسموح له بالتحدث إلى وسائل الإعلام، “إذاً، هل تريد الحكومة من المواطنين الأثرياء الانتقال إلى وسط المدينة أم الانتقال إلى المدن الصحراوية الجديدة بدلاً من ذلك؟”

بالإضافة إلى ذلك، من المفترض أن تنتقل جميع الوزارات إلى العاصمة الجديدة، التي يرى فيها عطية فرصة محتملة. “يمكن تحويل المباني الحكومية الفارغة والعتيقة إلى متاحف، كما يمكن إعادة استخدام المباني الأخرى المسجلة كتراث وفقاً للاحتياجات، ويمكن استبدال المباني التي لا تندرج ضمن قائمة التراث ولا العتيقة بأماكن عامة مثل الحدائق والمنتزهات.”

ومع ذلك، قال أحد السكان إنه يشك في قيام الوزارات بالتخلي عن مبانيها ونقل مئات الآلاف من موظفي الحكومة إلى خارج القاهرة، “هذا لن يحدث أبدا،” بحسب قوله.

باختصار، تتصور الحكومة والجهات الخاصة مثل مجموعة الإسماعيلية العقارية وسطاً للمدينة بسكان ومؤسسات أعمالٍ ذات مستوى أعلى، ومسرح ترفيهي أكثر انضباطاً وسيطرة، بالإضافة إلى مشهدٍ فني وثقافي نابض بالحياة ويخضع لرقابةٍ صارمة على حد سواء. وفي الوقت نفسه، يتم توجيه الجزء الأكبر من الموارد للتنمية الحضرية إلى أماكن أخرى، مثل العاصمة الجديدة. ويبدو أن الشكوك في هذا الشأن مبررة، على أقل تقدير.

Advertisement
Fanack Water Palestine