نشر موقع “The Conversation” مقالةً سلطت الضوء على ما تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية من عقوباتٍ على إيران وما تحمله سياسة الإدارة الأمريكية الراهنة من تداعياتٍ على مبادئ التعاون الدولي والمؤسسات الدبلوماسية. ويقوم صاحب المقالة ديفيد كورترايت، مدير برنامج دراسة السياسات في معهد كروك لدراسات السلام الدولي بجامعة نوتردام، باستعراض ما قد تواجهه ظهران من آثار على المستويين الداخلي والخارجي بسبب العقوبات المفروضة عليها. ويلفت كورترايت النظر إلى أن العقوبات نادراً ما كانت سبباً في تغيير الأنظمة السياسية، ويحدث أن تستغل الأنظمة مثل هذه العقوبات للترويج لقادتها. وبحسب ما يراه صاحب المقالة، فإن العقوبات التي تقرها أطراف متعددة عبر الأمم المتحدة مثلاً تكتسب شرعية سياسية وقانونية وتصبح قادرة على تحقيق أهدافها.
ويبدأ كورترايت مقالته بالإشارة إلى تخوف العديد من المراقبين من إمكانية وقوع حربٍ مع إيران بعد تسريب النقاشات التي دارت داخل إدارة الرئيس ترامب حول نشر القوات الأمريكية في الخليج العربي/الفارسي رداً على تهديدات مزعومة للسفن الحربية الأمريكية في المنطقة.
وشهدت الأيام الأخيرة تصاعد حدّة اللغة الخطابية بين الجانبين، إذ اعتبر الرئيس دونالد ترامب أن وقوع الحرب سيكون بمثابة “النهاية الرسمية لإيران”، ليردّ عليه المسؤولون الإيرانيون بنفس الطريقة.
إلا أن الحقيقة تتمثل في شن الولايات المتحدة لحربٍ اقتصادية منذ عقود على إيران عبر العقوبات التي تكثفت على مدار العام المنصرم وكان لها آثارٌ مدمرة على حياة المدنيين الأبرياء داخل البلاد.
ولم تتوقف الولايات المتحدة عند هذا الحد، بل أنّها قامت بتدمير قواعد راسخة على مستوى التعاون الدولي والأعراف الدبلوماسية، وهو المجال الذي يبحث فيه كورترايت على مدى الأعوام الخمسة والعشرين الماضية.
العصا والجزرة
أدركت العديد من الدول أن العقوبات تعمل بطريقة أفضل إذا ما تم استخدامها كوسيلةٍ للإقناع أكثر من الاعتماد عليها كوسيلة لمعاقبة الآخرين.
ويمكن القول إن نجاح العقوبات وحدها في تغيير سلوك الدولة المستهدفة نادر الحدوث، إذ جرت العادة على أن يتم الجمع بين العقوبات والدبلوماسية في إطار استراتيجية العصا والجزرة المصمّمة بعرض التوصّل إلى حلولٍ تفاوضية.
وقد يكون التلويح برفع العقوبات بمثابة الأداة الكفيلة بإقناع الأنظمة المستهدفة بتغيير سياساتها كما كان عليه الحال في المفاوضات الناجحة التي تم تضمنت الولايات المتحدة وأوروبا وقادت في نهاية المفاوضات إلى الاتفاق النووي الإيراني عام ٢٠١٥. وكان هذا الاتفاق قد قاد إلى رفع العقوبات عن طهران مقابل حدّ هذه الأخيرة لقدرتها الإنتاجية النووية بشكلٍ كبير.
وسبق لترامب الإعلان عن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من هذا الاتفاق. ولم يكتفي الرئيس الأمريكي بإعادة فرض العقوبات السابقة فحسب، بل أنه أضاف قيوداً جديدة تتضمن فرض عقوباتٍ ثانوية على الدول الأخرى التي تواصل أعمالها التجارية مع إيران.
عقوبات متعددة الأطراف في مقابل عقوبات أحادية
في عالمٍ تترسخ العولمة فيه يوماً بعد يوم، لا يمكن أن تنجح العقوبات الأحادية التي تفرضها دولة بمفردها في تحقيق الهدف المرجو منها، ويمكن الهدف في حالتنا هذه في تغيير النظام الإيراني.
وتحظى العقوبات التي تقوم بفرضها أطرافٌ متعددة من الدول بقدرةٍ أكبر على النجاح، كما أن هذا النوع من العقوبات يزيد من صعوبة عثور الأفراد أو المنظمات المستهدفة على المصادر البديلة للنفط وغيرها من السلع. ويمكن القول إن الحصول على تفويض من الأمم المتحدة أو المنظمات الإقليمية سيوفر غطاءً سياسياً وقانونياً لمثل هذا النوع من العقوبات.
وعندما قام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بفرض عقوباتٍ على إيران في عام ٢٠٠٦ بسبب نشاطها النووي المحظور، فقد تمكنت على سبيل المثال الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من الانضمام إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول فيما تم فرضه من ضغوطاتٍ على إيران بما دفعت هذه الأخيرة للجلوس على طاولة المفاوضات. وأفضى هذا الأمر بعد تسعة أعوام للتوصل إلى الاتفاق النووي الذي تم التفاوض عليه.
ويرى صاحب المقالة أن الولايات المتحدة تحايلت على هذه العملية الطوعية متعددة الأطراف عندما انسحبت من الاتفاق النووي الإيراني وفرضت من جانب واحد “عقوبة ثانوية تتجاوز أراضيها”. وأدت هذه العقوبات إلى منع الدول أو الشركات التي تشتري النفط الإيراني أو غيرها من المنتجات الخاضعة للعقوبات من القيام بالأعمال التجارية في الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من عدم موافقة معظم البلاد على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، ناهيك عن رفض بعضها لتلك العقوبات لأنها تمثّل تعدياً على سيادتها، فإنها وقفت عاجزة وغير قادرة على فعل شيء. ولا تستطيع هذه الدول تحمّل خسارة التمويل الدولاري أو فقدان علاقتها بالاقتصاد الأمريكي، الأمر الذي دفع هذه الدول إلى القبول بقرار واشنطن رغم إرادتها.
الإيرانيون يدفعون الثمن
يرى كورترايت أن الشعب الإيراني هو من يدفع ثمن ما يتم فرضه من عقوبات.
وتعيش إيران على وقع انخفاض صادرات النفط ومعدلات الدخل القومي، ما يتزامن مع ارتفاع نسب التضخم وما تواجهه هذه الدولة من صعوباتٍ اقتصادية. وفقد الريال الإيراني ما يزيد عن ٦٠٪ من قيمته في العام الماضي، ما أدى إلى تآكل مدخرات الإيرانيين العاديين.
كما باتت حياة العائلات العاملة التي تكافح من أجل تلبية احتياجاتها أصعب بصورة متنامية. وهناك دلائل تشير إلى حيلولة العقوبات الجديدة دون تدفق السلع الإنسانية، ناهيك عن مساهمتها في نقص الأدوية المتخصصة لعلاج أمراض مثل التصلب المتعدد والسرطان.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى إيقاف شركة كارغيل وغيرها من عمالقة صناعة الغذاء في العالم لما تقدمه لإيران من شحنات بسبب قلة التمويل المتاح.
ويبدو أن معاقبة المواطنين الإيرانيين سياسة متعمدة. فعندما سُئل مؤخراً وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عن احتمال تغيير الحكومة الإيرانية لما تنتهجه من سلوك تحت وقع العقوبات، فقد اعترف بأن العقوبات لن تحقق هذا الهدف وأن أمر “تغيير الحكومة” يعود إلى الشعب.
وبكلماتٍ أخرى، فإن ألم العقوبات سيجبر الشعب على الانتفاض والإطاحة بقادته. وهو تصورٌ ساذج ويدعو للسخرية بالقدر ذاته. وتظهر المنهجية الأمريكية في التعامل مع إيران مدى الاعتماد على نظريةٍ فقدت مصداقيتها منذ زمنٍ طويل وترى أن السكان الخاضعين للعقوبة سيوجّهون إحباطهم وغضبهم تجاه زعمائهم وسيطالبون بتغيير السياسة أو تغيير النظام. إلا ان العقوبات لم تنجح في تحقيق هذه النتيجة قط.
والنتيجة الأرجح هي أن نرى تأثير “الاحتشاد حول العلم” المعتاد. فصحيح أن الإيرانيين ينتقدون سياسات حكومتهم الاقتصادية، إلا أنهم يلقون باللوم أيضاً على ترامب لما يواجهونه من معاناة جراء فرض العقوبات على بلدهم. كما تحسن الحكومات التي تتعرض للعقوبات إلقاء اللوم على خصومها الخارجيين، وهو ما يفعله زعماء إيران من علماء الدين والسياسيين المنتخبين ضد الولايات المتحدة.
ومن المرجح أن تقوم طهران بالرد على العقوبات الحازمة التي تم فرضها بحقها عبر توفير المزيد من الصلاحيات للشركات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، أحد الأفرع الرئيسية للجيش الإيراني، ما سيزيد من تمكين القوى المتشددة التي تدّعي الولايات المتحدة محاربتها.
ويرى كورترايت أن البيت الأبيض يتعامى عن هذه الحقائق ويضغط على إيران بعقوباتٍ تجارية قاسية أملاً في اشتداد الألم حتى يستسلم قادة طهران. ومع ذلك، فإن إيران لم تظهر حتى الآن أية إشارات على أنها تستسلم أو أنها في طريقها للخضوع. وبمرور الوقت، قد يتزايد الضغط على الجانبين حتى يتوصل الجانبان إلى اتفاق.
ويختم كورترايت مقالته بالتالي: “مع ذلك، فإن الضرر الذي لحق بالمؤسسات الدبلوماسية سيستمر، كما أننا سنبقى بحاجة لاستعادة الثقة في مبادئ التعاون الدولي”.