وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الجزائر: نحو سياسة خارجية جديدة

سياسة الجزائر الخارجية الجديدة
صورة تم التقاطها يوم ٢٧ أغسطس ٢٠٢٢ للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أثناء إلقائه لكلمة في جناح ضيوف الشرف في مطار الجزائر بالعاصمة الجزائر. المصدر: Ludovic MARIN / AFP.

خالد محمود

مع تولي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون السلطة نهاية عام 2019، بدأت السياسة الخارجية الجزائرية في التغيّر عبر ما يوصف بالتموضع الآمن. ويهدف هذا التحوّل لتحقيق حالة من التوازن بين المحاور الإقليمية والدولية، وتنويع الشركاء الدوليين، بما يحقق لها سياسة خارجية متوازنة.

التغيرات الملموسة في ملامح السياسة الخارجية للجزائر تأتي أيضاً كمحاولة للخروج من حالة الجمود التي تعرضت لها الجزائر نسبيا خلال السنوات السبع الأخيرة من حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. كما أنها تسعى إلى نسيان “العشرية السوداء” التي أثرت على موقع الجزائر وعطلتها عن لعب أدوار إقليمية.

صدٌّ وجذبٌ عربي

تسعى الجزائر لاستعادة دورها الإقليمي والعربي عبر بوابة القمة العربية التي تستضيفها مطلع نوفمبر 2022. رهان الجزائر الجديد يأتي دون إغفال دور دول الجوار الجغرافي للعالم العربي كتركيا وإيران وإثيوبيا وإسرائيل.

الرئيس الجزائري يراهن مسبقا على نجاح القمة العربية المقبلة. بيد أن رهانه الدبلوماسي يظل بعيدا عن أرض الواقع، في ظل استمرار الخلافات المغربية الجزائرية، والتجاذب حول عودة سوريا لمقعدها العربي. يضاف إلى ذلك دور الجزائر في الساحة الليبية واصطدامه بمواقف مصر و تونس هناك.

مؤخرا، غمز تبون من قناة المغرب قائلا: “ستجتمع في الجزائر كلّ الدول التي ليست لديها مشكلة مع أي دولة عربية وتكنّ الاحترام لكلّ الدول”. وبحسب الرئيس الجزائري، فإن المهم هو “اجتماع الأسرة العربية في الجزائر التي هي أولى بجمع الشمل والوساطة لحلّ بعض النزاعات”.

وعلى الرغم من تأكيد عدم مشاركة النظام السوري في قمّة الجزائر المقبلة، فقد اعتبر تبون أن هذه المشاركة أمراً طبيعياً من الناحية القانونية. وفي ظل استعار الخلافات حول هذه المشاركة من الناحية السياسية، قال الرئيس الجزائري: “من الناحية القانونية، تعتبر سوريا بلداً مؤسساً للجامعة العربية، وعليه فإن تواجدها في القمة طبيعي”.

الغياب السوري يبدو محلّ اتفاق، سيّما وأنّ سوريا تفضّل عدم طرح عودتها إلى مقعدها خلال القمة العربية التي ستحتضنها الجزائر.في المقابل، ثمة حضورٌ مغربى متوقع في القمة. وخرجت التسريبات لتشير إلى اعتزام العاهل المغربي محمد السادس حضور القمّة. وكانت آخر قمة عربية يحضرها الملك المغربي هي تلك التي عقدت أيضا في الجزائر عام 2005.

سياسة الجزائر الخارجية الجديدة - القمة العربية
العاهل المغربي الملك محمد السادس يلتقي الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة يوم ٢١ مارس ٢٠٠٥ في العاصمة الجزائرية الجزائر على هامش القمة العربية. المصدر: AFP PHOTO STR.

ويأمل الكثيرون في أن يفتح حضور العاهل المغربي للقمّة المقبلة باب الحوار مع الجزائر، وبما يساهم في إيجاد صيغة للتعامل بين البلدين. لكن الأمر قد لا يمضي على النحو المطلوب، لأن “التقارب” الجديد بين البلدين يبقى مجرد إجراء بروتوكولي. وعلى الرغم من الاتصالات الخليجية الرامية لرأب الصدع بين البلدين، إلا أن ذلك قد لا ينعكس بالضرورة على تحسين العلاقات الثنائية.

يعزز هذا الاتجاه الدعاية الجزائرية المناوئة لما يسمى بنظام المخزن في المغرب، وهي النخبة المحيطة بالملك هناك. وتحتفي وسائل الإعلام الرسمية الجزائرية بما تصفه بسجل الإخفاقات الدبلوماسية المتتالية للمغرب منذ تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتخبط القصر الملكي وتساقط أوراق ضغطه الواحدة تلوى الأخرى.
الجزائر تعاملت رسميا واعلاميا مع احتمالية مشاركة ملك المغرب ببرود إعلامي لافت للانتباه. ويشير ذلك إلى عدم وجود احتمال لتطبيع العلاقات المغربية الجزائرية من بوابة القمة.

في المقابل، تكهنت تقارير إعلامية بتخفيض المغرب لمستوى تمثيله إلى مرتبة رئيس وزرائه عزيز أخنوش ووزير خارجيته ناصر بوريطة. هذا الأمر دفع البعض إلى التكهن بأن التسريبات الصحافية مجرد جسّ نبض.

من جانبٍ آخر، تسعى الجزائر لاحتضان اجتماع للفصائل الفلسطينية قبل انعقاد القمة العربية، خاصة بعد تأكيد تبون على امتلاك الجزائر “كامل المصداقية” لتحقيق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية. ووفقاً لتبون، فإن الجزائر هي “الدولة الوحيدة التي ليست لديها حسابات ضيقة في هذا الشأن”. وشدد الرئيس الجزائري على الثقة التي تتمتع بها بلاده لدى جميع الأطراف الفلسطينية، بما فيها حركة حماس.

على صعيد آخر، لا تبدِ مصر حماسا تجاه سعي الجزائر للعب دور الوسيط الرامي لحلّ أزمة سد النهضة الإثيوبي. كما لم تحصل القاهرة على ردٍّ مفيد من الجزائر عقب إشادة وزير خارجية إثيوبيا ديميكي ميكونين بما وصفه بمبادرة الجزائر ومساعيها الرامية لتنقية الأجواء وتمكين الأطراف المعنية من تجاوز الخلافات الراهنة.

ويرى البعض أن سعي الجزائر للدخول من هذا الباب “ليس فقط من أجل مساعدة مصر، بل أيضاً لإعطاء دفعة قوية للدبلوماسية الجزائرية” في القارة الإفريقية.

في المقابل، لا تعتبر القاهرة التحالف الجزائري مع إثيوبيا معاديا لها، على نحو ما حاولت ترويجه وسائل إعلام ومواقع إلكترونية مغربية.

العلاقات مع تركيا

سياسة الجزائر الخارجية الجديدة - استعراض حرس الشرف
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون أثناء استعراض حرس الشرف في أنقرة يوم ١٦ مايو ٢٠٢٢. المصدر: Adem ALTAN / AFP.

من وجهة نظر تبون، فإن تطوير العلاقات مع تركيا أمرٌ طبيعي بحكم التاريخ العريق بين البلدين ولأنّ تركيا من أكبر المستثمرين في الجزائر.
ووصل حجم الاستثمارات التركية في الجزائر إلى عتبة 4 مليارات

دولار أمريكي. كما تعمل أكثر من 1400 شركة تركية في الجزائر، وتوفر وظائف لما يفوق 30 ألف جزائري.

ومع تصاعد مسار العلاقات الاقتصادية، فقد اعتبرت الجزائر تركيا حليفا رئيسيا في المستقبل. وتعوّل النخبة السياسية الجديدة في الجزائر كثيرا على مد جسور التعاون السياسي والاقتصادي مع تركيا. يأتي هذا على الرغم من مخاوف بأن يزيد ذلك التقارب من حدة الضغوطات الخارجية والداخلية على الجزائر.

إيران

قد تختلف السياسة الخارجية التي تتبعها الجزائر عن تلك الخاصة بإيران، لكن ذلك لا يحول دون حدوث تقارب بين البلدين بحسب ما يراه باحث العلوم السياسية عبد الله بلغيت. وعلى الرغم من رفض الجزائر لتدخّل إيران في بعض الدول العربية، فإنها لدى البلدين ما يجمعهما من مصالح.

وبينما ساندت إيران قرار الجزائر بقطع العلاقات مع المغرب، فإنها بطبيعة الحال تستثمر موقف الجزائر الرافض للتطبيع مع إسرائيل. وتعتبر الجزائر إحدى الدول العربية القلائل التي ما زالت تغرّد خارج السرب المبشر بسلام قد يأتي لحسم الصراع العربي الإسرائيلي.

الصين بعد فرنسا

نجحت الصين مؤخرا في إزاحة فرنسا عن صدارة المصدرين للجزائر. كما تمكنت من انتزاع صفة الشريك التجاري الأول للجزائر من الولايات المتحدة. وبلغ حجم التجارة الصينية الجزائرية 8 مليارات دولار، منها قرابة 7 مليارات صادرات صينية. ويأتي ذلك في إطار “شراكة إستراتيجية شاملة” مع الجزائر، وهي الشراكة الوحيدة من نوعها للصين في المغرب العربي.

الجزائر التي تخصص أكبر ميزانية دفاعية في إفريقيا، حصلت مؤخرا على عدّة أسلحة صينية. كما أنها أطلقت عام 2017 قمرا صناعيا من قاعدة في الصين.
وعززت الصين استثماراتها في الجزائر. ومن المشاريع الضخمة التي تقوم بها الشركات الصينية في الجزائر مشروع مشترك التمويل لبناء أكبر ميناء في إفريقيا وعلى حوض البحر المتوسط.

ولا تبدو الجزائر قلقة من التحذيرات الأمريكية والغربية من إغراقها بالديون الصينية. ويعود الفضل في ذلك إلى تبنّي مبدأ الشراكة وفق قاعدة 51 بالمئة للجزائر و49 بالمئة للشريك الأجنبي. وتتيح احتياطات الجزائر من النقد الأجنبي تغطية هذه الاستثمارات دون اللجوء إلى الاقتراض الكثيف.

على مفترق طرق

لم تكن الجزائر يومًا “موالية” لأمريكا صراحةً أو في صفّ الغرب رسميًا. لكنها نجحت، وفقا لتحليلات أمريكية، في إثبات قيمتها الجيو-إستراتيجية لواشنطن. ويعود الفضل في ذلك إلى لعبها لدور هام في توفير المعلومات الاستخباراتية، فضلاً عن المساعدة في عمليات مكافحة الإرهاب ضد تنظيمي القاعدة و”الدولة الإسلامية”.

واصطدم التعاون العسكري والأمني مع واشنطن باعتراف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية بدلًا من الاستجابة لمطالب جبهة البوليساريو، حليفة الجزائر الإستراتيجية.

وتلقّى الأمن القومي الجزائري صفعة بقرار ترامب وإبرام المغرب “الاتفاقيات الإبراهيمية” واعترافها بإسرائيل. وجاء ذلك بالتزامن مع اضطرابات محلية عصفت بالجزائر عام 2019 وأرغمتها على عدم إيلاء أولوية للسياسة الخارجية.

ولم تتحسن العلاقات السيئة بين واشنطن والجزائر منذ عام 2020. وجاء ذلك في الوقت تتسم فيه العلاقة بفرنسا بالتوتر وبالتزامن مع تعليق العلاقات التجارية مع إسبانيا على خلفية موقف الأخيرة من قضية الصحراء الغربية. كلّ ذلك جعل الجزائر في عزلة غير مسبوقة عن العالم الغربي.

وتنظر واشنطن بغير عين الرضا لتقارب الجزائر مع روسيا والصين والذي أدى بدوره إلى فتورٍ في العلاقات. ويرى البعض أن هذه العلاقات وصلت بالفعل إلى الحضيض في الوقت الراهن.

ويظهر هذا في دعوة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للجزائر بإعادة النظر في علاقاتها مع روسيا. وقد يكون غزو الأخيرة لأوكرانيا بمثابة فرصة هامة لكي تستعيد الجزائر أهميتها في نظر الولايات المتحدة عبر دبلوماسية الغاز التي أصبحت أحد ملامح سياسة الجزائر الخارجية.

سياسة الجزائر الخارجية الجديدة - الرئيس الجزائري
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ونظيره الإيطالي سيرجيو ماتاريلا في القاعدة العسكرية الخاصة بمطار كابوديكينو يوم ٢٧ مايو ٢٠٢٢. المصدر: STRINGER/ Anadolu Agency via AFP.

من جانبٍ آخر، دشّنت زيارة تبون الأخيرة إلى إيطاليا نقلة نوعية ودفئا كبيرا بين الجانبين. وفي الوقت الذي تشهد فيه علاقات الجزائر بفرنسا وإسبانيا حالة غير مسبوقة من البرود، فقد ارتفع حجم التجارة مع إيطاليا خلال العام الماضي ليصل إلى 8.5 مليار دولار.

وتقدم الجزائر نفسها حالياً كدولة مصدرة للطاقة إلى أوروبا الجنوبية لتعزّز أهميتها في أجندة واشنطن. كما أن هذه المقاربة تهدف إلى معالجة العزلة التي تعيشها الجزائر في منطقة البحر المتوسط بترميم روابطها مع فرنسا وإسبانيا لدعم اقتصادها الهش.

وينصح البعض الجزائر بتخفيف حدّة الخطاب القومي الذي يسود سياستها الخارجية واستبداله بآخر عملي يركز على ما يمكن حصده من مزايا عبر اتفاقات تجارة أكثر متانة مع شركاء الطاقة الأوروبيين.

وفقا لهذا التحليل، فإن الجزائر قد تكون في أهم لحظة في تاريخها الدبلوماسي، وهو ما يتطلب بناء علاقات متعددة الأطراف لإقناع الولايات المتحدة بمواصلة التلميح للجزائر بأنها شريك مهم. وقد يؤدي ذلك لتحقيق التوازن مع الموقف الحالي الذي تتخذه واشنطن حيال الصحراء الغربية عبر توسيع مشاركة الجزائر في العملية التي تقودها الأمم المتحدة هناك.

يأتي ذلك في الوقت الذي أعلنت فيه الجزائر عن إمكانية انضمامها إلى دول بريكس، لكونها “قوة اقتصادية وسياسية”. واعتبر تبون أن الانضمام للمجموعة سيبعد الجزائر عن “تجاذب القطبين”.

في نهاية المطاف، فإنّ المسألة الأهم التي يتوجب على السياسة الخارجية أخذها بعين الاعتبار في الفترة المقبلة هو ضمان تحقيق التوازن بين المعسكرين الأوروبي والروسي على الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية. وبحسب ما يراه البعض، فإنّ الجزائر قد تكون قادرة على تحقيق أهدافها وتعظيم مكاسبها في مختلف الملفات الإقليمية والدولية، لكن هذا لا بدّ وأن يتم دون الإضرار بمصالحها المرتبطة بحلفائها التقليديين.

user placeholder
written by
Kawthar Metwalli
المزيد Kawthar Metwalli articles