حسين علي الزعبي
ترتكز العلاقات الجزائرية التركية على ثلاثة مفاصل رئيسية هي الاقتصاد والسياسة والتاريخ. وفي الوقت الذي يأتي فيه الاقتصاد على رأس العوامل الجامعة بين الجزائر وتركيا، فإنّه لا يمكن الاستهانة بالدور الذي يلعبه توافق الرؤى السياسية في الجمع بين البلدين، لا سيّما عندما يتعلق الأمر بالمناطق المجاورة جغرافياً للجزائر. ويحضر الفضاء التاريخي المشترك بين البلدين بقوّة عندما تكون الجزائر واحدة من ساحات صراع النفوذ بين تركيا والغرب، وبشكل أدق بين تركيا وفرنسا.
في الجانب الاقتصادي، ومع بدايات الألفية الثانية لم يكن في الجزائر سوى 7 شركات تركية. والآن وصل العدد إلى ما يزيد عن 1300 شركة. وبحسب وكالة الأناضول التركية الرسمية، فإن البيانات الرسمية لسفارة تركيا في الجزائر تشير إلى مساهمة هذا النمو في خلق 30 ألف فرصة عمل. وتطرّقت الوكالة إلى إقامة شركات تركية لاثنين من أكبر مصانع التصدير في الجزائر خلال تلك الفترة. وأقيم المصنع الأول في ولاية وهران بشراكة بين شركات جزائرية خاصة ومجمع توسيالي التركي للحديد والصلب. وفي الوقت الذي زادت فيه صادرات المصنع عن 700 مليون دولار في عام 2021، فإن القائمين عليه يتطلعون إلى رفع صادراتهم لتصل إلى مليار دولار بنهاية العام الجاري. أما المصنع الثاني فيختص في أعمال النسيج وأقامه مجمع تايبا التركي بشراكة مع مجمع شركات حكومي جزائري. ويعد المصنع الموجود في ولاية غليزان من أكبر مصانع النسيج في القارة الإفريقية.
في المقابل، جدّدت شركة سوناطراك للمحروقات الجزائرية (حكومية) عقود توريد الغاز المسال إلى تركيا عام 2018، بكميات تصل 5 مليارات متر مكعب سنويا. وتجري حاليا أعمال تشييد مصنع للبتروكيماويات بشراكة بين سوناطراك ورونيسانس هولدينغ التركية بولاية أضنة جنوبي تركيا لإنتاج مادة البيلوبروبيلان.
وعلى الرغم من الآثار المترتبة على جائحة كورونا، فقد ارتفع حجم التجارة بين البلدين بنسبة 35 بالمئة في العام 2021 مقارنة مع العام 2020. وبلغ حجم التجارة في العالم الماضي 4.2 مليارات دولار، مع هدف وصولها إلى 10 مليارات خلال الفترة المقبلة والحديث للرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
الانتكاسات في الاقتصاد التركي الذي يشهد معدلات تضخم مرتفعة مع فقدان الليرة لأكثر من 30 بالمئة من قيمتها خلال السنوات القليلة الماضية، شكّل عامل ضغط على الإدارة التركية ودفعها لتنمية الشراكات الاقتصادية مع العديد من الدول. وتزداد أهمية هذا التحرّك مع معرفة أنّ هذه الإدارة مقبلة على انتخابات يبدو أنها لن تكون كسابقاتها، على الأقل لجهة نوع الخصوم. هذه المرة الخصوم من حلفاء الأمس وأبرزهم وزير الخارجية الأسبق أحمد داوود أوغلو ووزير الاقتصاد الأسبق علي باباجان.
بالمقابل، يعد عبد المجيد تبون أول رئيس جزائري يأتي من “خلفية اقتصادية”، سيّما وأنه تخرج من المدرسة الوطنية للإدارة في اختصاص اقتصاد ومالية عام 1965. وعلى هذا الأساس، فإن تبون معنيٌّ بشكل كبير بالنهوض بالاقتصاد الجزائري الذي شهد مؤشرات سلبية كثيرة خلال شهور الحراك الثوري في الجزائر وجائحة كورونا.
وفي النصف الأول من عام 2019، عانى واحد من بين كل أربعة مواطنين جزائريين تحت سن الثلاثين من العطالة. ويمثل الشباب نحو 70 بالمئة من عدد السكان البالغ نحو 43 مليون نسمة. وفي الوقت الذي ارتفع فيه معدل النمو بنسبة 2.3 بالمئة في عام 2018، فإن هذا المعدّل انخفض في 2019 ليصل إلى 1 بالمئة. كما بلغ العجز التجاري في النصف الأول من العام نفسه 17 بالمئة. وانخفضت القدرات الإنتاجية المحلية خارج قطاع الطاقة بنسبة 50 بالمئة. وفي الأشهر الأربع الأولى من العام نفسه، ارتفعت فاتورة الاستيراد لخطوط تجميع السيارات الخاصة بمقدار الخمس، أي ما يعادل 1.234 مليار دولار. وانخفض الاحتياطي الأجنبي ليصل إلى 72.6 مليار دولار بعد أن ناهز 78 مليار دولار في عام 2014.
الأرقام السابقة للحالة الاقتصادية الجزائرية والخبرة الاقتصادية لرئيس البلاد جعلته يجد في أيمن بن عبد الرحمن مواصفات الخبرة الاقتصادية والمالية و”البراغماتية” القادرة على “الخروج عن المألوف” في تسيير الشأن الاقتصادي للبلاد. وبات عبد الرحمن أول مسؤول حكومي يتولى منصبين اثنين في حكومة واحدة، وهما رئاسة الوزراء ووزارة المالية.
وبحسب صحيفة العين الإماراتية، فإن تكليف تبون لوزير ماليته بقيادة الحكومة الجديدة يحمل في طياته عدة دلالات ومؤشرات. ومن أبرز هذه المؤشرات تولي أيمن بن عبد الرحمن لقيادة بنك الجزائر في ظرف حساس مرت به الجزائر، وذلك عقب سقوط نظام بوتفليقة وما تبعه من متابعات قضائية لأركان نظامه بتهم فساد غير مسبوقة. وبحسب الإعلام المحلي الجزائري، يحسب لأيمن بن عبد الرحمن “قدرته” على “وقف نزيف الأموال خارج البلاد من قبل عدة متهمين بقضايا فساد من النظام السابق”، بعد أن وضع يده على أخطر الملفات وأهمها، ومطلع واسع على تحديات الاقتصاد الجزائري ونقاط ضعفه.
الملفات الساخنة
تشكل قضية الصحراء واحدة من محددات السياسة الخارجية الجزائرية. وفي هذا السياق، تحرص تركيا على عدم إعلان موقف من شأنه أن يزعج الجزائر. كما أنها تحاول حمل العصا من المنتصف بحيث لا تقف على النقيض تماما من الموقف المغربي. وفي هذا السياق، قال تانجو بيلغيتش، المتحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية التركية، ردا على تقارير إعلامية أشارت إلى اعتراف تركيا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية إن: “تركيا تدعو إلى إيجاد حل سياسي لقضية الصحراء الغربية في إطار قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة”. وأضاف إن بلاده “تدافع منذ البداية عن إيجاد حلّ سياسي لقضية الصحراء الغربية في إطار قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة ومن خلال الحوار بين الأطراف”، لافتاً إلى دعم تركيا لـ “وحدة أراضي وسيادة جميع دول المنطقة داخل حدودها المعترف بها دوليا”.
هذا عن المغرب، الجار الغربي للجزائر. أما بالنسبة لليبيا، فإن تصريحات المسؤولين في أنقرة والجزائر تشير إلى توافق على إنهاء الصراع الذي تشهده البلاد منذ العام 2011 استنادا إلى صناديق الاقتراع. وهذا ما أشار إليه الرئيس عبد المجيد تبون خلال مؤتمر صحفي خلال زيارته تركيا منتصف مايو الماضي. وأكد تبون وجود “اتفاق جوهري” مع تركيا على أن “يستعيد الليبيون أمنهم عبر الانتخابات”.
ولفت تبون إلى اتفاقه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على “تكثيف التنسيق والتشاور حول ملف الأزمة الليبية”. كما اعتبر أن “التنسيق والاتفاق على أن الانتخابات هي الحل هي آلية الخطوات المقبلة والمشتركة حول ليبيا”.
الصراع التركي الفرنسي على الجزائر
لا يكتمل المشهد المرتبط بالعلاقات التركية – الجزائرية دون النظر إلى الجزائر باعتبارها ساحة تنافس فرنسي تركي. فلفرنسا وجودٌ تاريخي في الجزائر عمره قرابة 130 عام. وهذا التواجد سبقه حضورٌ عثماني عمره مئات السنين. ولكلتا الدولتين تاريخٌ في الجزائر فيه الكثير من الصور غير المشرقة. وتسعى باريس وأنقرة لتبييض تلك الصفحات من خلال استهدافهما لبعض.
وفي هذا السياق، جاء كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في اجتماع عقده مع عددٍ من أبناء الحركيين قبيل الانتخابات الفرنسية. وقال ماكرون الذي يعيش في بلاده ملايين الجزائريين: “في الجزائر استعمارٌ منسي. أنا مفتونٌ بقدرة تركيا على جعل الناس ينسون تماماً الدور الذي لعبته في الجزائر، والهيمنة التي مارستها، وشرح أن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون، وهو أمرٌ يصدقه الجزائريون”.
ويشير المسؤولون الأتراك بصورةٍ متكرّرة إلى “همجية الاستعمار الفرنسي في ظلّ ارتكاب جرائم ومجازر ضد الإنسانية”. في المقابل، فإن الفئات المجتمعية ذات الثقافة الفرنسية بالجزائر تذكّر على الدوام بتصويت تركيا في الأمم المتحدة ضد قرار استقلال الجزائر. وبحسب هذه الفئات، فإن العلاقات العثمانية الفرنسية كانت جيدة بصفةٍ عامة منذ عهد فرانسوا الأول والسلطان سليمان القانوني. وكان الأتراك قد سكتوا عمّا ارتكبته فرنسا من انتهاكات بحقّ الجزائر في حقبة استعمارها لهذا البلد. لهذا السبّب، ترى تلك الفئات أن تركيا ليس لديها أدنى حق في التعليق على هذا الموضوع الآن. ويذهب هؤلاء إلى تحميل الدولة العثمانية مسؤولية وقوع الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي وأن الدولة العثمانية لم تتحرك لنجدة البلاد.
ويقرّ الصحفي حامد فتحي بأن الدولة العثمانية لم تكن قادرة على الدفاع عن الجزائر حينذاك، لكنّ ذلك لا يعفيها من تحمّل المسؤولية بصفتها حاكم البلاد. وفي المقالة التي نشرها على موقع حفريات حول هذا الموضوع، استشهد فتحي بالمؤرخ صالح عباد وما كتبه هذا الأخير عن الداي حسين باشا، آخر الحكّام التّرك الذي سلّم الجزائر للفرنسيين. وبحسب عباد، فإن الداي “لم يترك الخزينة سالمة فحسب للفرنسيين، بل سلّم البلاد بكاملها مقابل تأمين حياته وحياة حاشيته وحياة الإنكشارية”. كما أنّه “رحل تاركاً رعيته تقاوم الاحتلال دون مال أو سلاح”. ويرى فتحي أن حكّام المناطق المعروفين بـ “البايات” نسجوا على منوال الداي حسين. كما تعاونت فئة الكراغلة، وهم من آباء أتراك وأمهات جزائريات وكانوا أكثر عدداً من الأتراك، مع الفرنسيين ضدّ المقاومة الوطنية بقيادة الأمير عبد القادر.
الوجود التاريخي لكلّ من فرنسا وتركيا في الجزائر دافعٌ كبير لمحاولة إعادة إحياء هذا الوجود. وبحسب الكاتب السياسي التونسي أيمن عبيد، فإنّ استراتيجية “تركيا الكبرى” دفعت القيادة التركية لإعادة مدّ الجسور نحو العالم الإسلامي. ويرى عبيد أن الأتراك حققوا على هذا المسار نتائج إيجابية في آسيا الوسطى والخليج والقرن الافريقي، لكنهم لم يحققوا النتائج ذاتها في شمال إفريقيا. ولهذا السبب، فقد كانت أنقرة تراقب التطورات في الجزائر وكان رجب طيب أردوغان أول رئيس يزور الجزائر بعد تولي الرئيس عبد المجيد تبون سدّة الحكم هناك.
ويبدو أن أنقرة ترى في الجزائر بوابة للولوج إلى العمق الأفريقي الذي يعدّ من الناحية التاريخية الحديقة الخلفية لفرنسا. يأتي ذلك في الوقت الذي نشهد فيه تراجعاً مضطرداً في الحضور الفرنسي في تلك المنطقة، وهذا ما يعدّ أحد مبررات الصراع بين فرنسا وتركيا. وقد يكون الأتراك حققوا تفوقا في هذا الجانب على الفرنسيين، سيّما وأن هؤلاء دخلوا أكثر من مرة في حالة اشتباك سياسي مع الجزائر. وأسفرت حالات التشنّج تلك إلى حظر الجزائر للطيران العسكري الفرنسي من عبور الأجواء باتجاه العمق الافريقي، قبل أن تعود العلاقات مع باريس للتحسن.
سياسة كسر العظم بين باريس وأنقرة أخذت أشكالا عدّة منها تصريحات سياسية من قبل رئيسي البلدين. ووصل الأمر في حدّته إلى مستوى التناول الشخصي والتنافس في الجوانب الاقتصادية والاستخباراتية. ويأتي في هذا السياق تسريب باريس وثيقة عبر صحيفة “لوفيغارو” تشير إلى وجود علاقات بين حركة “رشاد” الإسلامية، المصنّفة في الجزائر منظمة إرهابية، وبين السلطات التركية. وبحسب الوثيقة التي نشرتها الصحيفة الفرنسية، فإن أنقرة قدمت دعما لوجستيا لقيادات الحركة بهدف تعزيز وجودها في الشارع الجزائري. هذا التسريب جاء مباشرة بعد تصريحاتٍ دعا فيها أردوغان لفتح “ملف جرائم فرنسا في الجزائر وضرورة الاعتراف بها والتعويض عنها”.
وعلى ضوء ما سبق، فإنّ تنامي علاقات الجزائر المتنامية مع تركيا سيبقى يدور في فلك تقاطع مصالح الدولتين من الجوانب الاقتصادية والسياسية والتاريخية وخلافاتهما المزمنة مع فرنسا.