وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تعثر ثورة السودان مع تصاعد الخلافات

Sudan- protests sudan
متظاهرون سودانيون يهتفون بشعاراتٍ أثناء تجمعهم في “مليونية الإحتجاجات” خارج مقر الجيش في العاصمة الخرطوم في 25 أبريل 2019. Photo AFP

وصلت الأوضاع في السودان مرحلة حرجة تُهدد بإجهاض ثورة السادس من أبريل الشعبية التي أطاحت بالرئيس المخلوع عمر البشير ونظامة الإسلامي القابض بعد 30 عاماً من البطش والقبضة الأمنية.

وصلت المفاوضات بين قوى إعلان الحرية والتغيير، المُمثلة لغالبية الحراك في الشارع السوداني وبين المجلس العسكري، المتحكم في مفاصل السلطة عقب الإطاحة بالبشير وحكم الاخوان المسلمين في السودان، إلى تمسك المجلس العسكري بتكوين مجلسٍ “سيادي عسكري مدني” الغالبية فيه للجيش – 7 عسكريين مُقابل تمثيل 3 من المدنيين.

رفضت قوى إعلان الحرية والتغيير المقترح وأكدت بأنها لن تتنازل عن مطالب الثورة بتسليم السلطة كاملة لحكومة مدنية وتكوين مجلسٍ سيادي مدني بتمثيلٍ عسكري محدود. كما هددت أيضاً بتصعيد الحراك السلمي بوسائل جديدة تشمل العصيان السياسي والمدني.

حراك الاحتجاج

وصلت الأوضاع في السودان منذ مطلع ديسمبر من العام 2018 حالةً حرجة من الإحتقان السياسي وتزايد الغضب الشعبي بعد تدهور الأوضاع الإقتصادية وعودة صفوف الخبز والوقود وتدهور القطاع المصرفي وعدم تمكن المواطنيين من سحب أموالهم من البنوك فضلاً عن إرتفاعٍ جنوني في جميع السلع الإستهلاكية الضرورية والأدوية وإرتفاع معدل التضخم إلى مستوياتٍ عالية وصلت لأول مرة في تاريخ السودان إلى 72%.

وبحلول السادس عشر من ديسمبر خرجت تظاهرات كبيرة في العاصمة الخرطوم دعا لها تجمع المهنيين السودانيين، المحرك الفعلي للشارع عبر بيانات وخطابات إلي جماهير الشعب السوداني عبر صفحته الرسمية في مواقع التواصل الإجتماعي. لم تتوقف الإحتجاجات منذ ذلك التاريخ وظل الشارع السوداني خاصة الشباب يستجيبون لكل نداءٍ يطلقه تجمع المهنيين للإحتجاجات بعد تحديد أماكن نقاط تجمع الحشود وتسيير المواكب عبر طرقات محددة وصولاً إلى القصر الجمهوري مكان مكتب الرئيس المخلوع عمر البشير.

تطور الأمر إلى تمدد الإحتجاجات في العديد من مدن السودان المختلفة، بما فيها عطبرة، وبربر، وود مدني، والمناقل، وكوستي، والدويم، وربك، والقضارف، وكسلا، وبورتسودان. خلف ذلك عدداً من القتلى تجاوز الـ50 قتيلاً وتجاوز عدد الإصابات المختلفة 7 ألف إصابة وفقاً لإحصائية رسمية صادرة من وزارة الصحة، فضلاً عن إعتقال أكثر من 4 آلاف شخصٍ والزج بهم في السجون.

ونتيجة لتطور الأوضاع تعمدت الحكومة البائدة حجب شبكات التواصل الإجتماعي في السودان لكنها لم تفلح في كبح جماح الإحتجاجات المُتصاعدة وتوصل المحتجون إلى طرق جديدة بإستخدام برامج كسر التشفير.

موكب السادس من أبريل

تصاعد الحراك في السودان ونشطت الإحتجاجات بقوة بعد مقتل المعلم بمرحلة الأساس أحمد الخير بمدينة خشم القربة على أيدي أفراد وضباط في معتقلات جهاز الأمن بصورة بشعة تحت التعذيب وصل مرحلة الإنتهاكات الجنسية. وقّع تجمع المهنيين وثيقة “إعلان الحرية والتغيير” مع عددٍ من أحزاب المعارضة الفاعلة غير المشاركة في الحكومة السابقة لإزالة نظام البشير والترتيب لمرحلةٍ إنتقالية لحكم السودان تمهيداً لعودة الديمقراطية وكتابة دستور دائم للسودان.

بدأت الدعوة من تجمع المهنيين أكثر ترتيباً لتسيير موكب ضخم بتاريخ السادس من أبريل الماضي بعد نجاح الموكب السابق من الإقتراب من القصر الجمهوري لتسليم مذكرة طالبت بتنحى البشير.

لم يكن إختيار تاريخ السادس من أبريل مصادفةً. إن مثل هذا التاريخ ما هو إلا إستلهامٌ لذكرى انتفاضة 6 أبريل 1985 التي أقتلعت النظام العسكري القابض للجنرال جعفر نميري وأزاحته عن سدة حكم جلس عليها 16 عاماً. ويومها، انحاز الجيش إلى الشعب وتولى الأمور لعام، ثم سلم السلطة إلى حكومة الصادق المهدي المنتخبة.

كثفت المعارضة السودانية حملةً إعلامية واسعة لحشدٍ كبير بالعاصمة الخرطوم خطط له بترتيب محكم لتجمع الحشود في تمام الواحدة ظهراً ليوم السادس من أبريل 2019، والتوجه إلي القيادة العامة للقوات المسلحة والإعتصام أمام مقر وزارة الدفاع السودانية شرقي العاصمة الخرطوم والتي تضم داخلها سكن الرئيس المخلوع عمر البشير وقيادات حكومته.

وقبل تاريخ السادس من أبريل أصدرت المعارضة بياناً أظهر إيماناً مغايراً بالدور الوطني للقوات المسلحة راهنت فيه على الجيش في دعم التغيير وإنحيازه لمطالب الشعب.
تمكن المحتجون من كسر الحواجز الأمنية والصمود أمام العنف والتنكيل من قبل قوات الأمن والشرطة التي أستخدمت القوة المُفرطة والغاز المسيل للدموع، لكن السلطات تفاجأت بالحجم الهائل لموكب انتفاضة 6 أبريل، وفي تمام الساعة الثالثة من مساء ذات اليوم نجح الثوار بعد كرٍ وفر وإعادة تنظيم صفوفهم من الوصول إلي مقر قيادة الجيش وإحتلال جميع الشوارع المؤدية إليه.

Sudan- Sudan demos
متظاهرون سودانيون يلوحون بالأعلام الوطنية وهم يهتفون بالشعارات أثناء اعتصامٍ خارج مقر الجيش في العاصمة الخرطوم في 26 أبريل 2019. Photo AFP

تمرد صغار الضباط

قضى الثوار ليلتهم الأولى بكثيرٍ من المخاوف من تدخل مليشيات الحزب الحاكم المسلحة وتواطؤ الجيش مع قوات الأمن لفض الإعتصام بالقوة وسفك مزيدٍ من الدماء والأرواح. وبالفعل، تسللت عناصر مسلحة معروفة بـ “كتائب الظل” تتبع للحركة الإسلامية والحزب الحاكم، المؤتمر الوطني، مدعومةً بجهاز الأمن من الجهة الشمالية لمقر الجيش وإعتلت مبني تحت التشييد وأطلقت النار علي المعصمين مما دفع قوات كتيبة البحرية التابعة للجيش السوداني من التصدي لها وتبادل إطلاق النار معها ما خلف سقوط 4 قتلى من عناصر الجيش. دفع هذا صغار الضباط والجنود إلى التمرد على قيادات الجيش المُساندة حتى ذلك الوقت للرئيس المخلوع البشير، وأعلنوا إنحيازهم لمطالب المعتصمين.

تطورت الأوضاع في اليوم الثاني واستمرت محاولات فض الإعتصام بالقوة، ولكن نحج مئات الآلاف من المواطنيين من عبور الجسور المغلقة أمام حركة المواصلات بأرجلهم والإنضمام للمعتصمين. في تلك المرحلة، قدرت الإعداد في محيط القيادة بأنها تجاوزت الثلاثة ملايين سوداني أدوا صلاة الجمعة في مشهدٍ مهيب.

صمود المحتجين

صمد المحتجون لليوم الثالث والرابع على التوالي أمام مقر القيادة في شمسٍ قاسية ودرجة حرارة تجاوزت الـ 40 درجة مئوية ونقصٍ في المياه والأكل. بعد محاولاتٍ متكررة لفض الاعتصام بالقوة، أكسبهم ذلك تعاطفاً لافتاً في اليوم الثالث (الاثنين) بعد تدفق المزيد من المواكب نحو ساحة الاعتصام. تمكن المحتجون من السيطرة على جسرين على نهر النيل الأزرق، بما في ذلك كبري كوبر، الذي تحول إلى جسر للمشاة.

في اليوم الرابع (الثلاثاء)، وصلت الإمدادات للمعتصمين من مختلف نواحي العاصمة الخرطوم، خاصة من حي بري شرق الخرطوم الأقرب إلى مكان الإعتصام. وعلى امتداد شارع القيادة العامة نصب المعتصمون خياماً للاحتماء من حرارة الشمس وبدأ شباب وشابات بحمل أكياسٍ لجمع التبرعات لشراء المياه والأكل، وخلال ساعات النهار حرص الواصلون إلى شارع القيادة على جلب المياه في سياراتهم، ويحملون معهم أيضاً حافظات الشاي والقهوة. أما في ساعات الليل، فثمة تبرعاتٍ يرسلها متعاطفون مثل البلح فضلاً عن وصول أعداد كبيرة من الأسر بأطفالها يحملون معهم مختلف المأكولات والمشروبات يوزعونها على المعتصمين.

مكنت سيطرة المحتجين على الشارع بين نفق جامعة الخرطوم غرباً وحتى مشارف حي بري شرقا من وصول إمدادات الطعام وحتى قوارير المياه، وقد تمكنت سيارات لشركات ومصانع من الوصول إلى وسط الاعتصام وتوزيع منتجاتها من المواد الغذائية للمعتصمين.

سقوط الديكتاتور

كان يوم الخميس الموافق العاشر من أبريل يوماً حاسماً في عمر الثورة السودانية بإنحياز قيادات الجيش والإطاحة بالبشير ووضعه قيد الإقامة الجبرية بمنزله “بيت الضايفة” داخل مقر القيادة العامة للجيش وعزله بعد ثلاثين سنة من الحكم.

وفي كلمةٍ أذاعها التلفزيون الرسمي، أعلن وزير الدفاع عوض محمد أحمد بن عوف تشكيل مجلس عسكري لإدارة شؤون الدولة لفترةٍ انتقالية مدتها عامان تتبعها انتخابات. وأوضح أن البشير محتجز “في مكانٍ آمن،” لكنه لم يوضح من سيرأس المجلس العسكري. كما أعلن تعطيل الدستور وإعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر وإغلاق المجال الجوي لمدة 24 ساعة والمعابر الحدودية لحين إشعارٍ آخر. وكذلك حل المجلس الوطني ومجالس الولايات ومؤسسة الرئاسة ومجلس الوزراء.

وفي ذات اليوم الخميس أعلن التلفزيون السوداني، في المساء، أن وزير الدفاع عوض محمد أحمد بن عوف هو رئيس المجلس العسكري، والفريق كمال عبد المعروف الماحي نائباً للرئيس.

ولكن سرعان ماعمت حالة من الإحباط الشارع السوداني في أعقاب الأخبار، وخرجت التظاهرات تطالب برحيل بن عوف وتردد شعار “تسقط تاني.” ودعا تجمع المهنيين السودانيين، المنظم الرئيسي للاحتجاجات ضد البشير، إلى مواصلة الاعتصام في محيط وزارة الدفاع حتى سقوط كامل رموز النظام السابق.

وفي صبيحة اليوم الثاني ونتيجةً لضغوط الشارع، أعلن بن عوف تنحيه من رئاسة المجلس العسكري. سرعان ما خرج الناس إلى شوارع الخرطوم ومدن البلاد في مظاهرات فرحٍ عارمة بإعلان سقوط جنرالين خلال 24 ساعة. سمى إبن عوف الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيساً للمجلس العسكري خلفاً له لقيادة المرحلة.

تبع ذلك إستقالة المدير العام لجهاز الأمن السوداني، الذي يخشاه الجميع، الفريق أول صلاح عبد الله قوش في 11 أبريل.

خلافات تُهدد الثورة

شرع رئيس المجلس العسكري الجديد البرهان في تسمية مجلس جديد ضم إلي جانبه قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو، الذي تُشارك قواته في حرب اليمن إلى جانب السعودية والامارات. كما ضم المجلس الجديد ثمانية من الأعضاء العسكريين، على الرغم من تعهد البرهان بتسليم الحكومة إلي سلطةٍ مدنية حال توافقت الأحزاب. كما شرع في عقد إجتماعاتٍ مع قوى إعلان الحرية والتغيير المؤثرة في الحراك.

ومع ذلك، لم يسلم المجلس العسكري الجديد بقيادة البرهان من الضغوط من قبل الشارع والمحتجين حيث رفضت قوى إعلان الحرية والتغيير التفاوض مع اللجنة السياسية بالمجلس العسكري وحددث ثلاثة أسماء في المجلس أرادت تنحيتهم، هم الفريق أول عمر زين العابدين، والفريق أول جلال الدين الشيخ، والفريق أول بابكر الطيب، لخلفيتهم الإسلامية وإنتمائهم الصريح للحزب الحاكم السابق.

لكن تباعدت وجهات النظر بين الطرفين ووصلت المفاوضات إلى طريقٍ مسدود بين الطرفين بتمسك كل جانب بوجهات نظره وبلغ التصعيد مداه بتبادل الإتهامات بأن كل طرف طامع في السلطة.

ومازال المشهد السوداني مُعقداً بعد توقف المفاوضات بين العساكر والمدنيين ما أدخل الثورة في نفقٍ مظلم ومخاوف من إجهاضها بعد التضحيات العظيمة التي قدمها السودانييون في سبيل نجاحها.