وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الجزائر وروسيا: خلافات تحت سقف العلاقة الإستراتيجيّة

تحرص الجزائر وروسيا على الحفاظ على أطر التعاون القائمة بينهما، بما في ذلك المناورات والتدريبات العسكريّة المشتركة والاتفاقيّات التجاريّة والاستثماريّة.

الجزائر وروسيا
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون. ميخائيل ميتزل / سبوتنيك / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

منذ وصول الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون إلى الحكم في أواخر العام 2019، حافظت الجزائر على سياسة خارجيّة متوازنة، تقوم على تنويع الشراكات بمختلف أشكالها. وبشكلٍ عام، حافظت البلاد على علاقة براغماتيّة وهادئة مع الغرب، وخصوصًا في ما يتعلّق بصفقات الطاقة، حتى وإن شابت هذه العلاقة بعض الخلافات والتجاذبات مع الاتحاد الأوروبي وفرنسا.

لكن في المقابل، عمّقت الجزائر شراكاتها القديمة والقائمة أساسًا مع روسيا والصين، والتي تمتد جذورها التاريخيّة إلى مرحلة النضال الجزائري ضد الاستعمار.

على هذا النحو، يمكن القول إن روسيا والجزائر محكومتان بعلاقة إستراتيجيّة، بدأت منذ زمن الاتحاد السوفياتي، وحافظت على زخمها في مختلف الحقبات التاريخيّة، بالاستناد إلى مصالح اقتصاديّة وعسكريّة وسياسيّة متبادلة.

إنمّا تحت سقف هذه العلاقة المستمرّة حتّى اليوم، بدأت تطفو بعض الخلافات بين الطرفين حول ملفّات عدّة، يرتبط معظمها بالدور العسكري الذي تلعبه روسيا في الدول الأفريقيّة.

وبهذا الشكل، باتت السياسة الخارجيّة الروسيّة في أفريقيا تحتكّ بشكل فج جدًا بالمصالح الأمنيّة الجزائريّة، وخصوصًا في ليبيا ودول الساحل الإفريقي.

مؤشّرات وعوارض الخلاف المُستجد

في شهر تمّوز/يوليو 2024، استقبلت الجزائر رئيس مجلس الدوما الروسي فولودين فياتشيسلاف فيكتوروفيتش، في زيارة هدفت إلى إذابة الجليد المترسّب بين البلدين، بعد فترة لا بأس بها من الفتور في العلاقات بينهما. المُلفت والغريب في ذلك الحدث، كان تصدّي رأس السلطة التشريعيّة الروسيّة لهذه المهمّة، التي تختصّ بالتفاوض على سياسة البلاد الخارجيّة، بدل أن يتولّاها –كما هي العادة- وزير الخارجيّة الروسي أو أعضاء من السلطة التنفيذيّة.

في واقع الأمر، كانت تلك المفارقة جزءًا من عوارض الخلاف والفتور المستجد بين الدولتين. فوزير الخارجيّة الروسي سيرجي لافروف كان قد أثار حفيظة النظام الجزائري منذ أغسطس/آب 2023، بعد استبعاد الجزائر من عضويّة مجموعة “بريكس”.

يومها، برّر لافروف اختيار المنضمّين الجدد إلى المجموعة بوجود معايير محدّدة لتوسعة “بريكس”، ومنها “وزن وهيبة الدولة ومواقفها على الساحة الدوليّة”، في إشارة واضحة لعدم امتلاك الآخرين –وعلى رأسهم الجزائر- لهذه الخصائص.

ومنذ ذلك الوقت شعرت الجزائر بالمرارة والحسرة، إزاء تقاعس روسيا عن الضغط لقبول البلاد في مجموعة “بريكس”. بل وكانت الخيبة مضاعفة بالنسبة لتبّون، الذي وعد شعبه سابقًا بتتويج العام 2023 بانضمام بلده إلى مجموعة “بريكس”، مراهنًا بحماسةٍ على علاقات بلاده التاريخيّة والمميّزة مع روسيا والصين.

أمّا أكثر ما أزعج الجزائريين، فكان قبول “بريكس” عضويّة بلدان أخرى أكثر ميلًا للغرب، وأقل اتجاهًا للشرق، مثل الأرجنتين والسعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة ومصر، وهو ما جعل استبعاد الجزائر مسألة غير مفهومة أبدًا.

وببساطة، تلمّس النظام الجزائري بعض الاعتبارات السياسيّة في قرار استبعاده من عضويّة “البريكس”، ومنها الخلافات التي طرأت بين روسيا والجزائر في ما يخص بعض الملفّات الإقليميّة، في الشمال والساحل الأفريقي. وجاءت تصريحات لافروف المُستفزّة للجزائريين، عند الحديث عن “الوزن والهيبة”، لتؤكّد وجود هذا النوع من المكائد السياسيّة المبيّتة.

وكان من الواضح أنّ كلام لافروف عن الاعتبارات المتعلّقة بمواقف الدول على الساحة الدوليّة، كمعيار للقبول في “بريكس”، جاء كتلميح مبطّن للخلافاتٍ الروسيّة الجزائريّة المستجدة.

الخلاف حول الملف اللّيبي

في جميع المداولات المرتبطة بالملف اللّيبي، تمسّكت الجزائر تقليديًا بموقف صارمِ يدعو إلى انسحاب المجموعات المسلّحة الأجنبيّة من ليبيا، وعلى رأسها مجموعة “فاغنر” الروسيّة. وهذا الموقف ينطلق أساسًا من تقييم النظام الجزائري السلبي لدور هذه المجموعات، بوصفها عاملًا يصعّبُ الوصول إلى حلول سياسيّة، تُنهي الحرب الأهليّة القائمة.

وفي المقابل، ظلّت أولويّة النظام الجزائري تتركّز على إيجاد عمليّة سلميّة، تفضي إلى إفراز مؤسسات شرعيّة ليبيّة جديدة، لإعادة توحيد السلطة القائمة في البلاد.

موقف الجزائر هذا، يستند أولًا إلى خشيتها من تداعيات الأزمة اللّيبيّة على أمنها القومي، وخصوصًا من جهة تدفّق اللاجئين عبر حدود البلاد الشرقيّة، ونشاط الجماعات المسلحة العابرة للحدود في تلك المناطق. وهذا ما دفع الجزائر للانخراط تقليديًا في مبادرات عدّة لإيجاد تسويات سياسيّة في ليبيا، إلى جانب دعمها المُعلن لحكومة عبد الحميد الدبيبة في العاصمة طرابلس.

وفي هذا السياق، ظلّت السياسة الخارجيّة الجزائريّة تتذمّر بشكلٍ متكرّرٍ من “التدخلات الخارجيّة” التي تغذّي الانقسامات المحليّة، في إشارة واضحة للدول التي تدعم بعض الجماعات المُسلحة المحليّة، ومنها طبعًا روسيا وتركيا.

من البديهي القول إنّ هذه الأولويّات الجزائريّة في الملف اللّيبي تتناقض بشكلٍ جذري مع المقاربة الروسيّة. إذ تُعتبر مجموعة “فاغنر” الروسيّة إحدى أبرز الجهات الداعمة للمُشير خليفة حفتر، الضابط اللّيبي الذي يقود قوّات متمرّدة ضد الحكومة والمؤسسّات السياسيّة اللّيبيّة، في شرقي البلاد.

وفي مقابل الدعم الذي وفّرته روسيا لحفتر، حصلت “فاغنر” والشركات الروسيّة على حقوق استثمار مجموعة من حقول النفط الواقعة في شرق ليبيا. وبهذا الشكل، كانت شراكة روسيا مع حفتر إحدى الأبواب التي مكّنت روسيا من زيادة رقعة نفوذها في شمال أفريقيا، على حساب نفوذ الدول الغربيّة.

بلغت التناقضات بين الدورين الجزائري والروسي في ليبيا أوجّها في صيف العام 2021، خصوصًا عندما حاول حفتر التمدد في مناطق غرب ليبيا، وإغلاق الحدود مع الجزائر. وقد جاء ذلك التصعيد -من قبل الجماعة المسلّحة المدعومة من روسيا- بعد أيّام قليلة من تصريحات أطلقها تبّون، تناول فيها دور بلاده في منع سقوط العاصمة اللّيبيّة طرابلس بيد حفتر.

وبهذا الشكل، أكّدت خطوات حفتر مخاوف نظام تبّون من تداعيات الخضّات الأمنيّة في ليبيا، وخصوصًا على مستوى نشاط الجماعات المُسلّحة غير النظاميّة، والمتمرّدة على المؤسسات الدستوريّة الخاضعة للعمليّة السياسيّة.

ولعلّ أبرز ما يُقلق الجزائر في المقاربة الروسيّة، هو ميل الجماعات المُسلّحة المتعاونة مع “فاغنر” للتنسيق على امتداد عدّة دول في الوقت عينيه. فقوّات حفتر اللّيبيّة مثلًا، لعبت دورًا في دعم قوّات الدعم السريع في السودان، كما تدخّلت في أنشطة مسلحة داخل الأراضي التشاديّة.

ولذلك، تمتلك الجزائر ما يكفي من أسباب للقلق من إمكانيّة تمدد عمل هذه الجماعات المسلّحة، لتتقاطع مع أنشطة وطموحات انفصاليّة قبليّة موجودة أساسًا في جنوب الجزائر. وهذا ما يحوّل المسألة برمّتها إلى أزمة أمنٍ قومي بالنسبة للجيش الجزائري.

إشكاليّات الاضطرابات في مالي

تمثّل الاضطرابات القائمة في مالي نقطة تناقض شائكة ما بين السياستين الخارجيّتين الروسيّة والجزائريّة. فالجزائر لعبت دورًا أساسيًا في الوساطة، التي أدّت إلى توقيع الحكومة السابقة في مالي على اتفاق سلام، مع المتمرّدين من قبائل الطوارق شمال البلاد، عام 2015. ومنذ ذلك الوقت، ساهم الاتفاق في إرساء حدٍ أدنى من التهدئة، ما بين القوّات النظاميّة في مالي، وسكّان الإقليم الشمالي الطامح للحكم الذاتي.

غير أنّ الانقلاب الذي جرى في مالي عام 2020 غيّر المشهد بشكلٍ جذري. فالسلطات العسكريّة الانقلابيّة هناك سرعان ما عادت وتبنّت الخيار العسكري، في وجه الانفصاليين من قبائل الطوارق، وهو ما أثار انزعاج الجزائر المتوجّسة من اشتعال الجبهات مجددًا، قرب حدودها الجنوبيّة. وهكذا، بات التوتّر والتباعد سيّد الموقف ما بين المجلس العسكري في مالي، وسلطات الجزائر التي حذّرت من عودة الحرب الأهليّة في شمال مالي.

عند هذه النقطة، دخلت روسيا على الخط، ومن خلال مجموعة “فاغنر” أيضًا. فبعد انقطاع الدعم الفرنسي الذي استفاد منه سابقًا الجيش النظامي في مالي، أصبحت “فاغنر” الداعم الأساس لنشاط الجيش شمالي البلاد، في مقابل استفادة روسيا من الثروات الطبيعيّة الموجودة في البلاد.

وبطبيعة الحال، وجدت الجزائر هذا التدخّل الروسي عاملًا مزعزعًا للاستقرار، خصوصًا أنّه أتى من خارج التفاهمات السابقة المعقودة لإطفاء بؤر التوتّر في المناطق الشماليّة.

لكل هذه الأسباب، باتت الجزائر تتبنّى رسميًا توصيف “المرتزقة الدوليين” للإشارة إلى أنشطة “فاغنر” في مالي. كما باتت ترفع علنًا مطلب انسحاب “فاغنر” من البلاد، ووقف الأنشطة الروسيّة الداعمة للأعمال الحربيّة ضد الانفصاليين الطوارق. وعلى المستوى السياسي، انتقل الخطاب الرسمي الجزائري للامتعاض من استفادة الميليشيات الأجنبيّة من خيرات الدول الأفريقيّة، بدل استعمال استثمار الموارد الطبيعيّة للإنفاق على التنمية.

وفي شهر تمّوز/يوليو 2024، أعلن مسلحو الطوارق عن قتل وجرح العشرات من مسلحي مجموعة “فاغنر” وعناصر الجيش الحكومي المالي، في كمين استهدف تقدّم هذه القوّات باتجاه المناطق الانفصاليّة. وجاءت هذه التطوّرات بعد أيّام من الاشتباكات العنيفة وغير المسبوقة بين الطرفين، على مقربة من حدود الجزائر. وهذا ما أكّد مخاوف نظام تبّون من إلغاء اتفاقيّة السلام وعودة سلطات مالي للحل العسكري، بدعم من روسيا.

الخلاف ضمن ضوابط العلاقة الإستراتيجيّة

من الجدير الإشارة هنا إلى أنّ جميع هذه الخلافات لم تصل إلى حد التأثير على العلاقة الإستراتيجيّة بين الطرفين، والتي مازالت محكومة بمصالح لا يمكن تجاهلها. فعلى سبيل المثال، تمثّل روسيا المصدر الرئيس الذي يزوّد الجيش الجزائري بـ 72.63% من واردات السلاح، بما في ذلك الطيران الحربي والدبابات والصواريخ. ولهذا السبب، لا يمكن للجزائر الاستغناء عن التكنولوجيا العسكريّة الروسيّة، الضروريّة لصيانة وتطوير المعدات العسكريّة الجزائريّة، وتأمين قطع الغيار لها.

وفي المقابل، تمثّل الجزائر ثالث أكبر مشتري للسلاح بالنسبة لروسيا، وهو ما يكرّس أهميّة هذه الشراكة بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ظل العقوبات الاقتصاديّة المفروضة على بلاده. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، حافظت الجزائر على موقف محايد ومتوازن ما بين الطرفين، كما صوتت ضد قرار الجمعيّة العامة للأمم المتّحدة، الذي يدعو إلى تعليق عضويّة روسيا في مجلس حقوق الإنسان في أبريل/نيسان 2022.

ضمن هذا السياق، تحرص الدولتان على الحفاظ على أطر التعاون القائمة بينهما، بما في ذلك المناورات والتدريبات العسكريّة المشتركة والاتفاقيّات التجاريّة والاستثماريّة. كما تحرص الجزائر بالتحديد على إبقاء سياستها الخارجيّة المنفتحة على الشرق، لتقليل أثر الضغوط الغربيّة على البلاد، دون قطع الشراكات وأطر التعاون القائمة مع الغرب.

وهذا ما ينسجم مع تراث سياسة عدم الانحياز، التي تبنّتها الجزائر تاريخيًا. ومع ذلك، لا يحول كل هذا دون وجود تجاذبات وخلافات مع شركاء تاريخيين كروسيا، وخصوصًا في القضايا التي تمس بأمن الجزائر القومي. وهذا ما أدّى إلى الفتور الحالي، الذي تشهده العلاقات الروسيّة الجزائريّة.