القمة العربية المقبلة ستظهر الهيمنة المتنامية للسعودية على العالم العربي.
خالد محمود
تستعد السعودية لاستضافة القمة العربية الثانية والثلاثين على أراضيها، في لحظةٍ تاريخية فارقة تصاعد فيها النفوذ السياسي للدولة الخليجية بشكل غير مسبوق على المستوى العربي.
القمة التي ستعقد في التاسع عشر من مايو 2023 ستكرّس مكانة السعودية باعتبارها المملكة الخليجية الثرية التي باتت في موقع قيادة منظومة العمل العربي المشترك. كما أنها تدشّن لملكيةٍ غير معلنة لولي العهد محمد بن سلمان ولحقبةٍ سعودية جديدة في منطقة الشرق الأوسط.
أهدافٌ متعددة
قمة العرب يغلب عليها الطابع البروتوكولي الخالي من المفاجأت. لكنّها في هذه المرّة تشهد عودة النظام السوري إلى المنظومة العربية. ويأتي ذلك بعد إبعادٍ استمر لسنواتٍ طويلة على خلفية الأزمة التي اشتعلت في سوريا منذ عام 2011.
التوقعات بشأن هذه القمة ستتحدد وفقاً لمدى نجاح الدبلوماسية السعودية في استغلال نفوذها لفرض هدنة بين طرفي الحرب في السودان، على نحو ربما سيقلّل من الفجوة التقليدية بين طموحات الشارع العربي وقادته السياسيين.
وبحسب مصادر سعودية تحدّثت لفنك، فإن ابن سلمان يطمح لإنهاء الحرب السودانية الدائرة بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”. وتؤكد المصادر على وضع ولي العهد السعودي لنفوذه الإقليمي والدولي على المحك لوقف النزاع السوداني.
وعلى الرغم من التفاؤل الذي ساد بشأن المفاوضات التي تعقد في جدة بين ممثلي الجانبين، فإن القتال لا زال محتدماً في مناطق متفرقة في السودان، لاسيما الخرطوم.
وتأمل السعودية، بحسب وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان، أن يقود حوار جدة إلى إنهاء الصراع، وانطلاق العملية السياسية، وعودة الأمن والاستقرار إلى السودان.
وتأكيداً لمكانة بلاده الدولية، فقد حرص وزير الخارجية السعودي على الإشارة إلى أن هذه الاستضافة هي “نتاج تكاتفٍ دولي والتي تمت بجهود حثيثة مع الولايات المتحدة الأمريكية وبالشراكة مع دول المجموعة الرباعية، والشركاء من الآلية الثلاثية”.
وكدلالة على الآمال الدولية والإقليمية المعقودة على نجاح الوساطة السعودية في السودان، فقد استقبل ولي العهد السعودي مستشارين للأمن القومي الإماراتي والأمريكي والهندي دفعة واحدة. ويأتي ذلك في الوقت الذي يتوافد فيه مسؤولون آخرون من دولٍ عربية وغربية على المملكة بحسب مصادر سعودية. وطبقا لنفس المصادر، فقد تمحور النقاش حول الوضع في السودان في ضوء الوساطة التي تقودها السعودية، وتشارك فيها الولايات المتحدة والأمم المتحدة.
لكن وكالة الأنباء السعودية، اكتفت بالقول إن اللقاء “بحث سبل تعزيز العلاقات والروابط بين دول هؤلاء المستشارين والسعودية، وبما يعزز النمو والاستقرار في المنطقة”.
وعلى الرغم من الضعف الذي تعانيه بشكل واضح العلاقات السعودية الأمريكية، فقد اجتمع ولي العهد السعودي مع وفد أمريكي ترأسه مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان.
وكان لافتاً إعلان البيت الأبيض في بيان أن سوليفان شكر ولي العهد السعودي “على الدعم الذي قدمته السعودية للمواطنين الأمريكيين أثناء الإجلاء من السودان”.
وينظر للأمير محمد على المستوى الدولي باعتباره حاكماً فعلياً للمملكة النفطية. ومع ذلك، فإن الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود يمارس مهامه بصورة رسمية. وترأس العاهل السعودي اجتماعاً عقدته الحكومة في جدة وتابع خلاله التطورات في السودان.
ومثّل الاجتماع مناسبةً للإعلان رسمياً عن “جهود المملكة الدبلوماسية والإنسانية لحل الأزمة وعودة الأمن والاستقرار إلى السودان”.
لكن دبلوماسيا سعوديا قال لوكالة الصحافة الفرنسية، إنه “لم يتم إحراز تقدم كبير حتى الآن”، لافتاً إلى أن “وقفا دائما لإطلاق النار غير مطروح على الطاولة”، باعتبار أن كل طرف يعتقد أنه قادر على كسب المعركة.
مصادر عربية واسعة الاطلاع كشفت لفنك النقاب ما وصفته بـ “خطة سعودية لتصفير المشاكل”، سواء التي تخص السعودية مع دول جوارها الجغرافي، أو تلك العالقة على المستوى العربي. وبحسب تلك المصادر، فإن المملكة تسعى للعب ما سمته بدور “إطفاء الحرائق السياسية والعسكرية في المنطقة”.
وقادت السعودية عودة سوريا إلى الجامعة العربية، في تطوّرٍ لافت أملت الجزائر بتحقيقه العام الماضي أثناء استضافتها للقمة العربية المنصرمة. وحال غياب السعودية ومعظم دول الخليج عن تلك القمة دون تحقيق الطموح الجزائري.
وبحسب المصادر العربية التي اشترطت حجب هويتها، فإن فشل الجزائر في إعادة الأسد للمنظومة العربية ولّد غضباً جزائرياً مكتوماً، وهو ما دفع السعودية لامتصاصه عبر قيام وزير خارجيتها فرحان بزيارة خاصة للجزائر.
وأبرز بيان وزارة الخارجية السعودية اجتماع بن فرحان مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لإقناعه بحضور القمة العربية المرتقبة على الأراضي السعودية، خاصة وأنه يترأس الدورة الحالية لمجلس الجامعة العربية على مستوى القمة.
واستهدفت هذه الزيارة ضمان حضور الجزائر للقمة المقبلة، في انتظار “استلام السعودية للرئاسة خلال القمة المقبلة”، وهو التعبير الذي استخدمه فرحان عقب لقائه مع تبون. ولفت وزير الخارجية السعودي إلى أن “التنسيق والتعاون على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف يخدم ليس فقط بلدينا، لكن يخدم أمن واستقرار العالم العربي ومنطقتنا بشكل أوسع”.
حضور الجميع مطلبٌ سعودي
تأمل السعودية في حضور كلّ القادة والرؤساء العرب لقمتها المقبلة. وتضع الرياض كلّ نفوذها السياسي والدبلوماسي لضمان عقد قمة بمشاركة عربية غير مسبوقة تعكس الهيمنة السعودية والمكانة التي باتت تتمتع بها عربياً ودولياً.
وتسعى المملكة لتأمين حضور العاهل المغربي محمد السادس للقمة. وبطبيعة الحال، فإنّ الرياض تتطلع لمصافحةٍ رمزية بينه وبين تبون لتدشين نقلة جديدة رمزية في العلاقات المتوترة بين المغرب والجزائر.
وبعدما تغيّب عن كلّ القمم العربية التي تلت قرار الجامعة العربية تجميد عضوية سوريا فيها قبل 12 عاما، من المنتظر أن يحضر الرئيس السوري بشار الأسد قمة جدّة.
حضور الأسد ليس سوى مثالاً واضحاً على الطابع البراغماتي للسياسة السعودية. ووفقاً لهذه المنهجية، فإنّ الرياض لا تهدف إلى تصفير المشاكل الإقليمية فحسب، بل إلى تأهيل الدول العربية لحقبةٍ جديدة، في مواجهة الصراع الروسي الأمريكي على المنطقة.
ورغم كل الاعتراضات التي ساقتها بعض الأطراف العربية، نجحت السعودية في تأمين إجماع عربي على عودة دمشق مجدداً إلى المشهد العربي الرسمي. ويرى مراقبون أنّ هذه الخطوة تعكس تغييراً في النهج الإقليمي تجاه الأزمة السورية. وبحسب هؤلاء، فإنّ حضور الأسد الرمزي للقمة العربية المقبلة سيكون بمثابة “أهم تطور لإنهاء عزلته داخل العالم العربي”.
وقال مسؤولٌ عربي مطلع على كواليس اتخاذ هذا القرار إنّ السعودية لعبت دوراً حاسماً في ضرورة توفير هذا الإجماع، لافتاً إلى نجاح الرياض في تهميش الاعتراض الأمريكي على هذه العودة. وبحسب المسؤول العربي الذي طلب من فنك عدم تعريفه، فإنّ القيادة السعودية تعاملت بهدوء مع ملاحظات بعض العواصم العربية بالخصوص.
وفي هذا الصدد، قال المسؤول: “كان هناك مزاجٌ عربي لعودة دمشق، لكن الموضوع مركب الطابع. وكما هو معروف، فقد كان لكلّ دولة اعتباراتها الخاصة تجاه هذا القرار. وعلى سبيل المثال، يتهم اليمن سوريا بدعم جماعة الحوثي. أما قطر، فلديها موقفٌ مسبق تجاه هذه العودة. وفي الكويت، لا يحبّ الإخوان المسلمون بشار الأسد”.
وبعد محادثات غير معلنة مع السعودية، غضّت قطر النظر عن رفضها لعودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية. وبحسب مصدرٍ عربي، فإن المباحثات السعودية – القطرية “دفعت الدوحة باتجاه التصويت لصالح عودة دمشق في الإطار العربي، بعيدا عن المماحكات الثنائية”.
الموقف القطري المتوافق مع الرؤية الأمريكية تجاه الأزمة السورية عبّر عنه ماجد الأنصاري، المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية القطرية. وفيما أكد الأنصاري أن الدوحة لن تعيد العلاقات الرسمية مع النظام السوري في حال عدم وجود حل سياسي للأزمة السورية، فإنه لفت إلى إعادة الأسد للجامعة لا بد وأن ينظر له على أنه فرصة لتعديل الأوضاع في سوريا.
وللمرّة الأولى منذ حرب أكتوبر 1973، اتخذت الدول العربية بقيادة السعودية موقفاً يغاير الرؤية الأمريكية تجاه حدثٍ يقع في منطقة الشرق الأوسط. وفي ضوء القرار العربي الجديد، فقد غيّرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من تكتيكها السياسي.
ولم تقم واشنطن بإدانة الموقف العربي، لكنها أعربت عن قلقها بشأن الترحيب العربي بعودة سوريا إلى الجامعة العربية. كما خرجت الإدارة الأمريكية بتصريحاتٍ أكدت فيها أن النظام “لا يستحق” إعادة قبوله في الجامعة العربية.
وللمرة الأولى أيضا، خرج مسؤولون عرب بتصريحاتٍ قللوا فيها من شأن الاعتراض الأمريكي. وفي مقابلةٍ أجرتها معه قناة سي إن إن الأمريكية، أكد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أن الأردن ودولٌ عربية أخرى تواصلت مع الإدارة الأمريكية للتنسيق في هذا الشأن.
ومع ذلك، فقد شدّد على أن ما يتم تنفيذه هو “جهدٌ من شأنه أن يضع نهاية واقعية للأزمة ويأخذنا عن الوضع الراهن غير المجدي الخطير، حيث لا شيء يتحرك للأمام والوضع يتدهور”.
في نفس السياق، خرج وزير الخارجية المصري سامح شكري ليقول إن لأمريكا وغيرها أن “تقيّم الأمر كما تشاء”، لافتا في الوقت نفسه إلى “أن الأزمة السورية قضيةٌ عربية يتم التعامل معها في إطار عربي”.
وقبل وصول بايدن إلى البيت الأبيض ما كان بإمكان العرب المغامرة بمناطحة السياسة الأمريكية على هذا النحو. ويبدو أنّ التطوّر الراهن جاء كنتيجة طبيعية لنجاح السعودية في كسر الاحتكار الأمريكي للمنطقة. وكان ذلك عبر جذب الصين للمنطقة والاحتفاظ بعلاقات وطيدة مع روسيا.
الكاتب والسياسي الفلسطيني حسن عصفور ينظر إلى الأمر على أنه بلورةٌ لخيار جديد بعيداً عن “خيار التبعية” الحاكم في صياغة العلاقات العربية، وخاصة الخليجية مع المنظومة العالمية. وبحسب عصور، فإنّ الخيار الجديد يفتح “باب علاقات المصالح المتبادلة بديلا للهيمنة المتغطرسة”.
وقد يكون النجاح السعودي السابق الذكر ما دفع الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط إلى توقّع أن تترك القمة العربية القادمة بصمةً على الوضع العربي بصفة عامة.
وكانت السعودية قد طلبت ضماناتٍ أمنية ومساعدة من واشنطن في تطوير برنامج نووي مدني مقابل إبرام صفقة تطبيع بين المملكة وإسرائيل. كما أنها اشترطت عدم تقويض اتفاقات ابراهام السابقة قبل توقيع الاتفاق مع إسرائيل.
ورغم الزخم الذي أحاط ملف التطبيع مع إسرائيل، فقد صعّدت السعودية موقفها باشتراط إقامة دولة فلسطينية. كما أنها سعت، بحسب الصحفي الإسرائيلي دافيد هوروفيتس، إلى تعميق تحالفاتها السرية.
وبكلماتٍ أخرى، تستغل السعودية الانسحاب الأمريكي من المنطقة وتراجع الدور التقليدي لمصر والعراق وسوريا لبلورة حقبةٍ جديدة تمسك فيها بعصا القيادة. وستكون قمة جدّة المنتظرة، التي تعقد بعد ستة أشهر فقط من قمة الجزائر، أكبر من مجرد اجتماع سنوي عادي. فهذه القمة ستعيد على الأرجح رسم التوازنات والعلاقات بين أعضاء جامعة الدول العربية.