وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تغييب المعارضة عن الحياة السياسيّة في البحرين

تخلّصت السلطات البحرينيّة من أكبر جمعيتين كانتا تمثلان جناحي المعارضة الأساسيين في البحرين.

تغييب المعارضة في البحرين
الشرطة البحرينية تغادر بعد تفريق المتظاهرين خلال اشتباكات في قرية شهركان الشيعية جنوب المنامة في 5 أبريل 2016. محمد الشيخ / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

أكثر من 330 مرشّحًا تنافسوا للوصول إلى 40 مقعدًا في مجلس النوّاب البحريني، من بينهم 73 إمرأة، وهو ما اعتبرته السلطات البحرينيّة إنجازًا كبيرًا بالنظر إلى عدد المرشحين القياسي. ومع ذلك، لم ترَ المنظمات الحقوقيّة الدوليّة أنّ هذا الاستحقاق مثّل تطوّرًا إيجابيًّا على مستوى حريّة العمل السياسي في البحرين. بل على العكس تمامًا، أجمعت هذه المنظمات على أنّ الاستحقاق جرى وسط تغييب متعمّد للمعارضة السياسيّة بجميع أطيافها، ما يجرّد هذه الانتخابات من مصداقيّتها.

على مدى السنوات الستّ الماضية، تفاعلت العوامل المحليّة والداخليّة مع حسابات الدول الإقليميّة المحيطة بالبحرين، وأولويّات التدخّل الأجنبي، ما أفرز المشهد السياسي الراهن بشكل متدرّج.

وفي نتيجة كل هذه التطوّرات، لم تعد الحياة السياسيّة البحرينيّة تحظى بالتنوّع الموجود في الدول الوراثيّة الدستوريّة الأخرى، كالكويت والأردن، ما جعل البعض يعتبر أن ما تمارسه البحرين بات مجرّد ديموقراطيّة شكليّة فقط.

إقصاء المعارضة على مراحل

أقصت السلطات البحرينيّة المعارضة، وشلّت قدرتها على الحركة على مراحل، خلال السنوات الماضية. في 14 يونيو/حزيران من العام 2016، قرّرت السلطات حلّ جمعيّة “الوفاق الوطني الإسلاميّة”، التي تمثّل أكبر تنظيمات المعارضة الإسلاميّة الشيعيّة في البلاد.

يومها، وجهت السلطات إلى الجمعيّة مجموعة من التهم التي شملت “التبعيّة للخارج ونشر الإرهاب والتطرّف في المجتمع البحريني وتعريض السلم الأهلي للخطر”. وكان من الواضح أن السلطات البحريّة تربط، من خلال هذه التهم، ما بين مواقف الجمعيّة الشيعيّة المعارضة وتدخلات إيران، التي تتهمها البحرين بمحاولة قلب نظام الحكم الملكي الموجود فيها.

لاحقًا، وفي مايو/أيّار 2017، لجأت السلطات البحرينيّة إلى حل جمعيّة “العمل الوطني الديمقراطي (وعد)”، التي تمثّل الجناح العلماني الليبرالي في المعارضة البحرينيّة، متهمة إياها بارتكاب “مخالفات جسيمة تستهدف مبدأ احترام حكم القانون، ودعم الإرهاب وتغطية العنف من خلال تمجيدها محكومين في قضايا ارهاب”.

مع الإشارة إلى أنّ وسائل إعلام النظام البحريني ركّزت طوال الفترة التي سبقت إصدار هذا الحكم على اتهام الجمعيّة بتنفيذ أجندة جمعيّة “الوفاق الوطني الإسلاميّة” الشيعيّة، في محاولة لتوريط جمعيّة “وعد” بالاستقطاب المذهبي والإقليمي، رغم أفكارها العلمانيّة الواضحة.

بهذه الطريقة، تخلّصت السلطات البحرينيّة من أكبر جمعيتين، كانتا تمثلان جناحي المعارضة الأساسيين (الجناح الديني الشيعي والجناح العلماني الليبرالي)، ما ضرب قدرة المعارضة التنظيميّة وإمكانيّة تنظيم الحملات الانتخابيّة.

ولاستكمال هذا المسار، قامت السلطات بحملات متقطعة لاعتقال رموز المعارضة الأساسيين، حيث نتج عن هذه الحملات وجود أكثر من 4500 سجينًا سياسيًا في المعتقلات البحرينيّة في الوقت الراهن، بحسب المركز البحريني لحقوق الإنسان.

مع الإشارة إلى أنّ عدد الناشطين السياسيين الذي دخلوا السجون خلال فترات متقطعة تجاوز ال15 ألفًا، ما يمثّل عددًا ضخمًا بالنظر إلى عدد المواطنين البحرينيين المحدود، الذي لا يتجاوز ال713 ألف مواطن.

أحكام قضائيّة وعزل سياسي

وللمزيد من الضغط على المعارضة، أصدرت المحاكم البحرينيّة أحكامًا قاسية على المعارضين المعتقلين، كحال الشيخ علي سلمان، رئيس جمعيّة “الوفاق الوطني الإسلاميّة” المنحلّة، الذي حكمت عليه محكمة الاستئناف العليا بالسجن المؤبّد في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2018.

يومها، وجهت المحكمة لسلمان اتهامات قاسية وكبيرة، من قبيل التخابر مع دول أجنبيّة كقطر، وإفشاء أسرار دفاعيّة تمس بالأمن القومي. وهذا النوع من الأحكام القضائيّة، تحوّل إلى سلاح رادع بيد السلطات البحرينيّة، ما سمح لها بإخافة المتعاطين بالشأن العام الذين يتخطون خطوطها الحمر.

وإلى جانب أحكام السجن المؤبّد، ثمّة 26 ناشطًا معارضًا ينتظرون اليوم أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم البحرينيّة، بعدما استنفدوا كل سبل الطعن والاستئناف. وجميع هذه الأحكام، جاءت على خلفيّة قضايا تتصل بنشاطهم السياسي. وفي الوقت الراهن، يمتلك الملك البحريني حمد بن عيسى آل خليفة صلاحيّة التوقيع على هذه الأحكام وتنفيذها، أو تخفيفها ومنح العفو الملكي.

لكن في جميع الحالات، تشير تقارير المؤسسات الحقوقيّة الدوليّة كهيومان رايتس واتش إلى أنّ المعنيين بهذه الأحكام لم يستفيدوا من الحقوق المدنيّة البديهيّة خلال المحاكمات، كحق الاتصال بمحامٍ، كما تحوم شكوك حول مصداقيّة التحقيقات، ومدى انطوائها على اعترافات تم انتزاعها تحت التعذيب.

وأخيرًا، وللإطباق على قدرة المعارضين على المنافسة في الانتخابات كليًّا، بدأت البحرين منذ العام 2018 بتطبيق قانون العزل السياسي. هذا القانون سمح للحكومة بمنع آلاف المنتسبين للجمعيات المنحلّة من الترشّح للانتخابات، أو حتّى العمل كأعضاء في مجالس إدارة الجمعيّات المحليّة والمؤسسات العامّة.

كما نصّت مندرجات القانون على تطبيق إجراءات العزل إلى الأبد، دون تمكين المتضررين منه من الاعتراض أو الطعن لدى السلطات القضائيّة. وكان من اللافت أن الحكومة طبّقت هذه الإجراءات على المعنيين بها، عبر الامتناع عن منح شهادات حسن السيرة، دون إصدار قرارات علنيّة تسمح بمعرفة عدد المتضررين الدقيق.

هواجس السلطات البحرينيّة

لدى السلطات البحرينيّة هواجس سياسيّة خاصّة تدفعها باتجاه هذا النوع من السياسات بحق المعارضين. فالبحرين دولة صغيرة، لا تتجاوز مساحتها ال765 كلم2. وهذه المساحة الموزّعة على جزيرة أساسيّة، تضم العاصمة، وأرخبيل مكوّن من 32 جزيرة. وعلى مدى التاريخ، حاولت الدول والقوى الإقليميّة المختلفة السيطرة على هذه الدولة الصغيرة، نظرًا لموقع أرخبيلها المميّز في قلب الخليج العربي، والمساحات البحريّة الواسعة التي تقع وسط الجزر الموزّعة هناك.

وأهم القوى التي طمعت بالسيطرة على جزر البحرين تاريخيًّا، كانت إيران، التي ظلّت لغاية العام 1970 تطالب رسميًّا بوضع البحرين تحت سيادتها. لا بل اعتبرت القوانين الإيرانيّة في تلك المرحلة البحرين المديريّة الفارسيّة الرابعة عشرة، وخصصت مقاعد لهذه المديريّة في مجلس النوّاب الإيراني. إلا أنّ إيران لم تتمكّن في ذلك الوقت من فرض سيطرتها عسكريًّا على البحرين، نظرًا لوقوعها تحت الحماية البريطانيّة.

بعد قيام الثورة الإيرانيّة، وإعلان الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، تحسست العائلة الحاكمة البحرينيّة، آل خليفة، من حماسة أبناء المذهب الشيعي داخل البحرين للنظام الإيراني الجديد. فأسرة آل خليفة والقبائل البحرينيّة المؤيّدة لها يتبعون المذهب السنّي المالكي، في حين أن معظم مواطني البحرين يتبعون المذهب الشيعي الإثني عشري.

ببساطة، كان النظام البحريني يخشى من المد الإيديولوجي الشيعي الذي أطلقه النظام الإيراني الجديد، والذي يمكن أن يؤثّر في ولاء الغالبيّة الشيعيّة داخل البحرين. كما خشي النظام البحريني من إمكانيّة استخدام إيران السلاح المذهبي من أجل التدخّل في شؤون البحرين الداخليّة أو محاولة قلب نظام الحكم فيها، لتحقيق الطموحات الفارسيّة التاريخيّة التي لطالما استهدفت هذه الجزر، والتي قد لا تتغيّر مع تغيّر النظام.

وسرعان ما أكّدت التطوّرات هواجس العائلة الحاكمة البحرينيّة، بعدما حاول أعضاء في “الجبهة الإسلاميّة لتحرير البحرين” عام 1981 القيام بانقلاب للإطاحة بالنظام البحريني. مع الإشارة إلى أنّ هذه الجبهة تُعد حركة بحرينيّة شيعيّة مسلّحة، تدعو لإنشاء نظام ديني في البحرين شبيه بنظام ولاية الفقيه في إيران.

وعند حصول الانقلاب، كان رئيس الجبهة رجل الدين هادي مدرسي يتخذ من طهران مقرًّا له، حيث قام بدعم من الحرس الثوري الإيراني باستقطاب مجموعة من الشباب البحرينيين الشيعة، تحت شعار “انتفاضة جميع المسلمين تحت قيادة الإمام الخميني”. ورغم فشل الانقلاب، ظلّت الجهة تعمل من طهران لتحقيق هذه الأهداف، إلى حين حلّها عام 2002.

لكل هذه الأسباب، بات النظام البحريني ينظر بريبة لجميع حركات المعارضة التي تأخذ طابعًا شيعيًّا، كجمعيّة “الوفاق الوطني الإسلاميّة”، نظرًا لحساسيّاته الديموغرافيّة والإيديولوجيّة التاريخيّة. كما ساهم الدعم الإيراني الإعلامي لهذه الجمعيّات بزيادة قلق النظام البحريني من أبعاد تحرّكات المعارضة الشيعيّة المحليّة، حيث بات النظام البحريني يرى فيها نافذة يمكن أن يتغلغل من خلالها التدخّل الإيراني في شؤونه المحليّة.

أمّا المعارضة الليبراليّة، فلم يرَ فيها النظام إلا عامل مساندة للمعارضة الإسلاميّة الشيعيّة. وهذا تحديدًا ما فاقم من ردّة فعله الأمنيّة في وجه المعارضة السياسيّة الداخليّة، حتّى حين يتعلّق الأمر بالرموز التي لم تنخرط في الاحتجاجات الشعبيّة في وجهه.

عوامل أقليميّة أخرى

في الوقت نفسه ساهمت مجموعة من العوامل الإقليميّة في دعم موقف النظام البحريني في وجه المعارضة الداخليّة. فسائر دول مجلس التعاون الخليجي، وجدت في المعارضة البحرينيّة ذراعًا يمكن أن تمتد من خلالها يد طهران إلى الشواطئ الغربيّة للخليج العربي، تمامًا كما فعلت إيران في جنوب شبه الجزيرة العربيّة من خلال الحوثيين في اليمن.

ولهذا السبب بالتحديد، قدّمت المملكة العربيّة السعودية وسائر دول الخليج الدعم اللامتناهي للنظام البحريني، حتّى حين عنى ذلك التدخّل في النزاعات السياسيّة الداخليّة. وهذا ما حدث عندما دخلت قوّات درع الجزيرة إلى البحرين، للوقوف إلى جانب النظام في وجه الانتفاضة الشعبيّة عام 2011.

أمّا الدول الغربيّة، فتأخذ بعين الاعتبار عدّة عوامل، كوجود القاعدة البريطانيّة الوحيدة في منطقة الخليج العربي في البحرين، وتمركز قيادة الأسطول البحري الأميركي الخامس في منطقة “الجفير” شرق العاصمة البحرينيّة المنامة. وبفضل الوجود العسكري الأميركي والبريطاني في البحرين، تساهم هذه القوّات في السيطرة على خطوط إمداد النفط في الخليج العربي، مستفيدةً من توزّع أرخبيل الجزر البحرينيّة على امتداد مناطق بحريّة واسعة.

ولذلك، وبالنظر إلى استفادة الدول الغربيّة من تعاونها العسكري مع النظام البحريني، وخشيتها من أي تغييرات سياسيّة يمكن أن تؤثّر على هذا التعاون، لطالما غضّت الولايات المتحدة وبريطانيا النظر عن ملف انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين.

كما تخشى الدول الغربيّة من تأثير إيران على الأغلبيّة الشيعيّة داخل البحرين، وإمكانيّة أن يؤدّي أي تغيير سياسي إلى نشوء نظام جديد متحالف مع طهران. مع الإشارة إلى أنّ الولايات المتحدة أصدرت في بعض المراحل بيانات نددت بالتضييق على الحريّات في البحرين، إلا أنّ ذلك لم يمنع استكمال صفقات مبيعات الأسلحة إلى النظام البحريني.

في النتيجة، ساهمت كل هذه العوامل الداخليّة والخارجيّة، وبشكل متدرّج، في تسهيل عمليّة إقصاء المعارضة البحرينيّة عن المشهد السياسي، ما أدّى إلى انكفائها عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة. أمّا مجلس النوّاب الجديد، فتكوّن بأغلبيته من نوّاب مستقلين، بما يسمح للنظام بالتحكّم بمفاصل الحياة البرلمانيّة، دون أن يتقيّد بأي كتل نيابيّة وازنة قادرة على تحدّيه داخل المجلس.

برلمان هش من هذا النوع، سيسمح للنظام بالمزيد من السيطرة على الحريّات العامّة في البلاد، والمزيد من التضييق على أصحاب الرأي، ما سيفاقم من الضغوط التي تتعرّض لها المعارضة اليوم.