أثار إيمانويل ماكرون، أول رئيس للجمهورية الفرنسية مولود بعد حرب الجزائر (1954-1962)، جدلاً واسعاً خلال حملته الانتخابية عندما أعلن من الجزائر في فبراير 2017 كمرشح للرئاسيات أن “استعمار فرنسا للجزائر جزء من التاريخ الفرنسي. إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات.”
لقيت تصريحاته ترحيباً كبيراً من السلطة والأوساط الشعبية في الجزائر، وجدلاً واسعاً في فرنسا التي واجه فيها نقداً لاذعاً من حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، منافسه في الرئاسيات. ولكن ماكرون سرعان ما بدأ يتراجع عن وعوده ويتناقض مع مواقفه بعد دخوله قصر الإيليزي معلناً موقفاً جديداً بشأن تاريخ فرنسا الاستعماري في الجزائر “لا الإنكار ولا التوبة،” (نعترف ولا نعتذر)، مشدداً على عدم إمكانية البقاء في أسر للماضي وحسبه يجب تجاوز ذلك الماضي والسير قدماً في علاقات فرنسية جزائرية مبنية على مصالح مستقبلية مشتركة.
ليعود ماكرون وبعد أقل من سنة من توليه رئاسة فرنسا إلى الاعتراف بأن الثائر الفرنسي المناضل الشيوعي موريس أودان، الذي ناصر الثورة الجزائرية، مات مغتالاً على يد الجيش الفرنسي في ظل نظام تعذيب مؤسساتي أقرته السلطات الفرنسية خلال حرب الجزائر، ففي زيارة له يوم الأربعاء 12 سبتمبر سنة 2018 إلى ضواحي باريس الشرقية خص بها جوزيت أودان، أرملة المغدور أودان، وسلمها خطاباً رسمياً باسم الدولة الفرنسية، يطلب منها الصفح عن الآلام التي سببها اختطاف واعتقال، ثم اغتيال زوجها الناشط المؤيد لاستقلال الجزائر.
كان أودان الأستاذ المساعد في جامعة الجزائر في الخامسة والعشرين من عمره عندما اعتقلته قوات فرنسية من أمام منزله بتهمة إيواء مناضلين شيوعيين مؤيدين لاستقلال الجزائر. وتعرض للتعذيب في معتقل بأحد أحياء الجزائر العاصمة. وبعد عشرةٍ أيام من الاختفاء، تم إخبار زوجته جوزيت أنه هرب في أثناء نقله إلى سجن آخر. وظلت هذه هي الرواية الرسمية للأحداث حتى عام 2014 عندما اعترف فرانسوا هولاند، سلف ماكرون، بأن أودان مات قيد الاعتقال والتعذيب.
كذلك قام ماكرون بإطلاق إشاراتٍ عن احتمال المبادرة مستقبلاً بخطواتٍ مماثلة تجاه حوادث أخرى مؤلمة خلال حرب الجزائر، عندما قال “من المهم أن تُعرف هذه القصة [أودان]، وأن يُنظر إليها بشجاعة وجلاء. هذا مهم من أجل طمأنينة وصفاء نفس أولئك الذين سببت لهم الألم (…) في الجزائر وفي فرنسا على حد سواء).” كما وعد الرئيس الفرنسي بـفتح الأرشيف المتعلق بقضايا اختفاء مدنيين وعسكريين فرنسيين وجزائريين خلال سنوات الحرب، وهو الوعد الذي طال انتظاره من قبل الجزائريين، والذي يرجح أن يكون وراءه خلفيات سياسية، تستهدف حماية شخصيات سياسية وعسكرية تورطت في الإجرام إبان حرب الجزائر.
ردود الفعل الرسمية في الجزائر لم يعلن منها إلا ما قاله الطيب زيتوني، وزير المجاهدين (قدامى المحاربين الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي) في تصريحات صحفية قائلاً “تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يُشكل صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين، وهو دليلٌ على أن الملفات التاريخية العالقة بين الجزائر وفرنسا في طريقها إلى الحل، وأن فرنسا والجزائر سيعالجان ملف الذاكرة بحكمة.”
فقد تباينت ردود فعل الطبقة السياسية في الجزائر بين مرحبة ومنددة وممتنعة عن التعبير فلم يصدر موقف رسمي عن حزب الأغلبية حزب جبهة التحرير الوطني، الحزب الحاكم في الجزائر منذ الاستقلال، وهو الحزب الذي فجّر وقاد ثورة التحرير الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، ولا عن تنظيمات الأسرة الثورية في الجزائر، منظمة أبناء الشهداء ومنظمة المجاهدين، التي تعاملت بصمت غير عادي. وقد يشير هذا إلى أن توقيت اعترافات ماكرون أعِدت لتعزيز العلاقات الجزائرية الفرنسية، التي تشهد فتوراً منذ أن أعيد توجيه صفقات فرنسا التجارية مع الجزائر إلى الصين والولايات المتحدة وألمانيا، والتي بدورها تعمل على تحسين علاقاتها مع الجزائر وتكثيف الأنشطة التجارية معها.
في حين عبرت أحزاب أخرى وشخصيات بارزة عن موقفها بقوة. فالموقف لم يكن نفسه عند عبد العزيز بلخادم، رئيس الوزراء الجزائري الأسبق (من 2006 إلى 2008)، والأمين العام الأسبق لحزب جبهة التحرير الوطني (من 2005 إلى 2014). بلخادم، الذي أبعد عن الساحة السياسية بقرار من الرئيس بوتفليقة منذ 2014 لأسباب تبقى مجهولة ربما تكون لها علاقة بالترشح للرئاسيات، قال في تصريحٍ صحفي له لـ العين الإخبارية، تناقله موقعها الالكتروني بتاريخ 13 سبتمبر 2018 اعتبر أن الخطوة ليست مهمة وجاءت جد متأخرة، وفيما يتعلق بإمكانية أن يكون اعتذار ماكرون لأرملة موريس أودان واعترافه بجرائم فرنسا ضده خطوة فرنسية تمهد لاعترافها واعتذارها عن كل جرائمها في الجزائر، قال بلخادم إنه مهما طال الزمن أم قصر؛ سيعترف الفرنسيون بأن الاستعمار جريمة وبأنهم ارتكبوا الفظائع ضد الجزائريين، ومنه سيعتذرون للجزائريين.
و في تصريحٍ نقلته الحوار الجزائرية عبر موقعها الالكتروني قال شهاب صديق، الناطق الرسمي باسم التجمع الوطني الديمقراطي، الحزب الموالي للنظام والقوة السياسية الثانية في الجزائر بعد حزب جبهة التحرير الوطني، إن الخطوة التي أقدم عليها الرئيس ماكرون إيجابية، وستتبعها خطوات أخرى لا محالة بخصوص هذا الملف الذي أضحى في كل مرة حديث النخبة في البلدين. وقد وجب على الطرفين الجزائري والفرنسي الفصل فيه، فالعلاقات الجزائرية الفرنسية قوية ومتينة، ولكن في نفس الوقت معقدة بسبب هذا الملف الذي لا محالة أنه مع تعاقب الأجيال ومرور الزمن ستعترف فرنسا بما اقترفته من جرائم خلال الحقبة الاستعمارية.
الأمر لم يكن نفسه عند حزب العمال الاشتراكي، فيرى القيادي فيه رمضان تعزيبت، أن الجزائر لا علاقة لها بقضية اعتراف ماكرون باغتيال المناضل الشيوعي موريس أودان، حيث شدد تعزيبت على ضرورة عدم التدخل في هذه القضية، مرجعاً ذلك أن هذا الملف يخص الدولة الفرنسية شعباً وحكومة ولا علاقة للجزائر بها. وقال تعزيبت إن الجزائر هزمت الاستعمار الفرنسي وانتزعت حريتها ودفعت ثمناً باهظاً من أجل استرجاع سيادتها. كما أن الاستعمار حكم عليه التاريخ كجريمة في حق الإنسانية وتعدٍ على حق الشعوب والأمم ولا جدال في ذلك.
في حين كان لـعبد الرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم، الحزب الإسلامي الذي شكل التحالف الرئاسي الداعم للرئيس بوتفليقة منذ مجيئه في 1999 إلى غاية 2012، موقفٌ مغاير حين قال في 14 سبتمبر 2018 “إننا لا نشك أن موريس أودان بطلٌ من أبطال الثورة الجزائرية ونحن نعتز به،” لكن اعتذار ماكرون، لعائلة أودان دون الجزائريين الذين قتلوا وعذبوا إبان الثورة التحريرية هو عنصرية فرنسية، وهذا التصرف من ماكرون يدل كذلك على قلة احترام منه للمسؤولين الجزائريين ولكل الشعب الجزائري.”
أما عن ردود الفعل في أوساط المواطنين الجزائريين فهي الأخرى كانت متباينة، غير أنها تميل في مجملها إلى عدم أهمية تصريحات ماكرون والنظر إليها كمناورات سياسية لقضاء مصالح فرنسية بحتة، كما أنهم وجهوا اللوم للنظام الجزائري الذي حسبهم يبقى متواطئاً مع السلطات الفرنسية ولم يبذل جهوداً كبيرة فيما يخص ملف جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر.
يرى الكثير من الجزائريين أن تصريحات ماكرون هي كمثيلاتها من تصريحات الرؤساء الفرنسيين السابقين؛ بمن فيهم بنيكولا ساركوزي، الذي وصف النظام الاستعماري بـ”غير العادل،” ثم فرانسوا هولاند الذي قال إن “النظام الاستعماري ظالم ووحشي،” فهي تلاعب بالألفاظ للهروب من قول ما ينتظره الجزائريون وهو إدانة الجرائم الاستعمارية وتقديم الاعتذار الذي لا جدال في أحقيته ومن ثم تقديم تعويضات عن كل ما اقترفته فرنسا من جرائم وحشية والتي تصنف من أبشع الجرائم في التاريخ المعاصر.
بينما كانت وجهة نظر الأكاديميين ونشطاء المجتمع المدني أكثر إيجابية، فقد رأت في تصريحات ماكرون وسيلة للمطالبة بالاعتراف بجرائم مماثلة وأخرى أكثر بشاعة. فبعد الاعتراف من قبل الرئيس ماكرون بجريمة الدولة التي ارتكبت ضد موريس أودان، نشرت صحيفة الوطن الناطقة باللغة الفرنسية في 28 سبتمبر 2018، نسخةً من رسالة للمجاهدة ظريفة بن مهيدي، شقيقة الشهيد العربي بن مهيدي، وهو من الزعماء 22 الذين فجروا الثورة الجزائرية في عام 1954 ومن أبرز قادتها. تعرض بن مهيدي للاعتقال والتعذيب ثم الاعدام دون محاكمة في 4 مارس 1957 والذي تصرح السلطات الفرنسية بشأنه أنه مات في زنزانته بعد الانتحار. دعت ظريفة في الرسالة الرئيس الفرنسي إلى إظهار الشجاعة مرة أخرى و فعل نفس الشيء لأخيها العربي بن مهيدي ولجميع الجزائريين الذين عانوا نفس الفظائع.
بينما تشعر قطاعات أخرى من المجتمع بالتجاهل، فقد قال المنسق الوطني لضحايا التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية في عام 1960، محمد محمودي، رداً على الرئيس ماكرون “نستنكر تصريحات ماكرون الذي اعترف بمسؤولية بلاده في تعذيب أودان دون ذكر جرائمها في حق ضحايا تفجيراتها النووية في الجزائر.”
كان رأي الأكاديمي والمختص في المسائل الأمنية أحمد ميزاب، في تصريحٍ لقناة الغد التلفزيونية، إن ما قام به ماكرون صحيح خطوة إيجابية ولكنها تعتبر نقطة في بحر، لأن ما هو مطروح أمام فرنسا والجزائر أكبر من ذلك بكثير، فهناك مجموعة من الملفات متعلقة التاريخ وبالأرشيف، والاعتراف بجرائم فرنسا ضد المدنيين وضحايا تجارب نووية مازالت آثارها إلى اليوم، وهذه الخطوة يجب قراءتها في سياقها حيث نجد أن فرنسا تورطت دولياً وإقليمياً في عدة ملفات وهي تبحث لنفسها عن طوق نجاة وتجد في اللعب على هذا الملف المتلعق بالاستعمار الفرنسي للجزائر منفذاً يمكن أن تلجأ إليه لتحسين صورتها. فالنسبة لميزاب، الخطوة جداً محتشمة لأن الجزائريين ينتظرون أكثر من ذلك بكثير وعلى فرنسا أن تملك الجرأة للتعامل مع كل الملفات المطروحة أمامها بخصوص ماضيها الاستعماري في الجزائر.
وحسب جريدة الحوار الجزائرية كان رأي الأكاديمي والمحلل السياسي الجيلالي كرايس، المختص في علم الاجتماع السياسي، مختلفاً حين وصف اعترافات ماكرون بالبائسة والمسيئة لتاريخ الجزائر وما هي إلا محاولة للتلاعب بالتاريخ، بدليل أن فرنسا الاستعمارية لم تقتل موريس أودان فقط وإنما مئات الآلاف من الجزائريين الذين لقوا مصيراً ربما أسوأ من مصير أودان. ودعا كرايس كل الجزائريين، شعباً وحكومة، إلى عدم الانخداع وراء ما تقوم به فرنسا، مشيراً إلى أنها حركة من حركات ماكرون التي قال قبل انتخابه إنه مستعد لفتح ملف الذاكرة، إلا أنه وبعد وصوله إلى قصر الإليزي تنكر وادعى أنه لا ينتمي إلى جيل الثورة ولا يمكنه أن يقدم الاعتذار.
مع انتظار ما ستأتي به الأيام القادمة من جديد بخصوص ملف الاعتراف والاعتذار والتعويض عن جرائم فرنسا الاستعمارية، وخاصة في الزيارة المرتقب أن يقيمها الرئيس ماكرون إلى الجزائر قبل نهاية السنة الجارية والتي تسبق الانتخابات الرئاسية في الجزائر المزمع عقعدها في شهر أبريل 2019. وعلى الرغم من الانتقادات من مختلف الجهات، يعتبر ماكرون أول رئيس فرنسي كانت له الشجاعة لأن يعترف رسمياً باسم الدولة الفرنسية أن فرنسا أسست نظاماً للاعتقال والتعذيب وأنها اعتقلت وعذبت موريس أودان حتى الموت. كما فتح ماكرون الباب أمام كل من يملك الوثائق والشهادات لتقديمها من أجل إثبات حقائق مماثلة، وكذلك تعتبر هذه الاعترافات جزءاً من الاستجابة لوعوده الانتخابية بعد سنة فقط من توليه الرئاسة وستكون بداية لاعترافات أخرى تليها بجرائم فرنسا في الجزائر وكذلك تمهيداً للتعامل مع ملف الذاكرة بأكثر جرأة وشجاعة من طرف جيلٍ جديد لم يعايش حرب الجزائر.