عبد العزيز بوتفليقة، الرئيس الحالي للجزائر وأطولهم حكماً، بلاغته ومكره أوصلتاه إلى السُلطة في وقتٍ كانت فيه البلاد تنجرف نحو التطرف العنيف. بالنسبة للبعض، بوتفليقة ليبرالي يتمتع بالكاريزما من أتباع الراحل بومدين؛ وبالنسبة للبعض الآخر، ديكتاتور فاسد. ويصادف هذا العام عقده السادس منذ أن ترك المدرسة ليشارك في حرب الاستقلال والشروع في رحلة طويلة من الدبلوماسية والسياسة، التي امتازت بكلٍ من الإنتصارات والفشل. وبعد تعرضه لسكتتين دماغيتين في السنوات الأخيرة، اختفى تدريجياً من الحياة العامة.
ولد بوتفليقة في 2 مارس 1937 في وجدة في المغرب لأبوين من تلمسان- الجزائر. نشأ وترعرع في كنف عائلة متواضعة مع خمسة أشقاء وثلاث شقيقات من زوج والدته. وكونه نجل شيخ زاوية، حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة جداً. واصل تعليمه في وجدة إلى أن أنهى المدرسة الثانوية، وكحال الكثير من الشباب آنذاك، التحق بجيش التحرير الوطني الجزائري وسرعان ما تمت ترقيته. في عام 1960، عهدت إليه مسؤولية قيادة جبهة مالي في الجنوب الجزائري. أصبح يُعرف بـ”عبد القادر المالي،” اسمه الثوري المستخدم حتى يومنا هذا. برع بوتفلقية أثناء وجوده في جيش التحرير الوطني، كما يُقال، بالتواصل والتفاوض وأصبح يُعرف بمهاراته القيادية. وفي ذلك الوقت أيضاً، التقى بهواري بومدين، صديقه المقرب الذي أصبح فيما بعد رئيساً للجزائر من عام 1965 حتى عام 1978.
بعد استقلال الجزائر عن فرنسا في عام 1962، عيّن بوتفليقة وزيراً للشباب والرياضة والسياحة، وأصبح وزيراً للشؤون الخارجية عام 1963. وفي عام 1964، انتخب عضواً في المكتب السياسي واللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، الذي كان آنذاك الحزب السياسي الوحيد في البلاد. وبين عامي 1964-1965 حاول الرئيس بن بلة عزل حلفاء بومدين المعروفين باسم “عشيرة وجدة.” وعندما أراد فقط عزل بوتفليقة، اطاح به بومدين بانقلابٍ سلمي واستبدله بالمجلس الثوري. ساهم بوتفليقة بالانقلاب وعيّن في المجلس الثوري.
أصبح بومدين رئيس البلاد وأبقى بوتفليقة رئيساً للدبلوماسية في العصر الذي حافظت فيه الجزائر على سياسة عدم الانحياز ودعت إلى تنمية الدول ما بعد الاستعمار. برز اسم بوتفليقة في دول العالم النامي وخارجه باعتباره مفاوضاً ماهراً وخطيباً فصيح اللسان. وفي عام 1974، انتخبت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع بوتفليقة، الذي كان آنذاك يشغل منصب وزير الخارجية، رئيساً لها.
الخصومة
عندما توفي بومدين في ديسمبر 1978، تصدر بوتفليقة وزعيم جبهة التحرير الوطني، صلاح يحياوي، قائمة الخلفاء. ومع ذلك، خسر بوتفليقة أمام وزير الدفاع في عهد بومدين، الشاذلي بن جديد، الذي كان مرشحاً توافقياً مدعوماً من قبل الجيش، حيث اعتبر بوتفليقة ليبرالياً جداً؛ في حين كان يحياوي اشتراكياً للغاية. وزعم أن الجيش، الذي كان يُسيطر آنذاك على الحياة السياسية في البلاد، أراد وضع حدٍ لحقبة بومدين، إذ كان يُنظر إلى بوتفليقة باعتباره امتداداً له. وفي عام 1981، اتهم بوتفليقه بالفساد، ومن ثم وجد مذنباً بالتهم الموجهة إليه وتم عزله من صفوف حزب جبهة التحرير الوطني. ولتجنب مصير معاونيه في السجن، سنوسي وبوجقجي، غادر بوتفليقة البلاد إلى منفى اختياري، حيث قضى الفترة ما بين 1981 إلى 1986 في الإمارات العربية المتحدة وسويسرا وفرنسا. وفي عام 1983، وفقاً لما ذكرته صحيفة حكومية، المجاهد، وجد ديوان المحاسبة أن بوتفليقة ما بين 1965-1978 أساء إدارة أكثر من 6 مليارات سنتيم جزائري (59 مليون دينار جزائري أو 469,169 فرنك سويسري) المتعلقة بأنشطة ممولة من الميزانية والموارد الخارجة عن نفقات الميزانية للبعثات الدبلوماسية والقنصلية.
العودة إلى الساحة
في عام 1986، منح الرئيس بن جديد بوتفليقة عفواً وبرأه من تهم الفساد، وذلك بعد عدة مناشدات من بوتفليقة نفسه ووساطات شخصيات مؤثرة مثل ياسر عرفات والشيخ زايد في الإمارات العربية المتحدة. عاد بوتفليقة إلى الجزائر في وقت الأزمات الاجتماعية الناجمة عن سوء الإدارة. أدى ذلك إلى تغيير في الدستور يسمح بالانفتاح الديموقراطي، ونهاية حكم الحزب الواحد لجبهة التحرير الوطني، والحرب الأهلية الدامية التي اندلعت بعد أن أبطل بن جديد والجيش فوز الاسلاميين في الانتخابات. في عام 1989، أعاد حزب جبهة التحرير الوطني انتخاب عبد العزيز بوتفليقة إلى اللجنة المركزية. وفي عام 1992، تمت دعوة محمد بوضياف، الذي كان قد ذهب إلى المنفى في المغرب عام 1964، للعودة كرئيسٍ لمجلس الدولة المدعوم من قِبل الجيش. وفي أعقاب اغتيال بوضياف عام 1992، طلب الجيش من بوتفليقة، الذي رأى فيه خير خليفة، قيادة البلاد. رفض ذلك قائلاً “أنا لا أمتهن السياسة، لا أريدها بعد الآن، أقسم أنني لن أشارك مجدداً في الحياة السياسية.” ومع ذلك، في عام 1999، ترشح بوتفليقة للانتخابات وفاز بالرئاسة، على الرغم من أنّ الانتخابات شابتها مزاعم التدخل العسكري وانسحاب المرشحين الآخرين قبل يوم واحد فقط من التصويت.
كرئيس، ركز بوتفليقة على إعادة بناء البلاد وتعزيز سمعة الجزائر على المستوى الدولي. قاد حملة ناجحة لإقناع الجزائريين بالتصويت على مشروع وطني للسلام والمصالحة يهدف إلى إعادة تأهيل المتطرفين الذين وجدوا غير مذنبين بالقتل والاغتصاب والتفجير. قال أكثر من 97% من الناخبين “نعم” للمصالحة. وبمساعدة تواصل ارتفاع أسعار النفط، شطب جميع الديون الخارجية على الجزائر وباشر في تنفيذ مشاريع مهمة للبنية التحتية، والإصلاحات القانونية التي تهدف إلى تحرير الاقتصاد وجذب الاستثمارات. وعلى صعيد السياسة الخارجية، روّج لتحقيق التكامل الإقليمي على مستوى المغرب العربي والبحر الأبيض المتوسط، وسعى لتنصيب الجزائر زعيم افريقيا. استضافت البلاد العديد من الفعاليات الإقليمية والدولية، وبفضل خبرة بوتفليقة الواسعة في هذا المجال، لعبت الجزائر أيضاً دوراً غير مسبوق في مكافحة الإرهاب في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل.
محلياً، عمل بوتفليقة على إبعاد الجيش، وبالتحديد الأجهزة الأمنية، من الساحة السياسية. خلق هذا صراعاً على السُلطة لا يزال حتى الآن يحدد السياسة الجزائرية. وفي سبتمبر 2015، نجح في إحالة الرئيس السابق لوحدة الاستخبارات الجزائرية، دائرة الاستعلام والأمن، على “التقاعد،” وإنشاء وكالة جديدة تحت سيطرة الرئاسة. وبعد موجة الربيع العربي التي انطلقت عام 2011، وعد بوتفليقة بإجراء المزيد من الإصلاحات في محاولة لإنقاذ نظامه من مصير التونسي زين العابدين بن علي. وفي فبراير 2016، نفذت آخر هذه الإصلاحات عندما وافق البرلمان الجزائري على مجموعة بارزة من الإصلاحات الدستورية تمنح المزيد من الحريات للصحافة والأقليات والمعارضة والشباب والنساء المهمشات.
الانتقادات
كانت صحة بوتفليقة المعتل سبباً في الكثير من التكهنات في السنوات الأخيرة، التي دعمها عدم وجود معلوماتٍ من الرئاسة حول هذا الموضوع. وفي عام 2013، تعرّض الرئيس لسكتة دماغية نقل على إثرها إلى فرنسا لتلقي العلاج. ومنذ ذلك الحين، قل ظهوره الشعبي بشكلٍ لافت حيث بات يتواصل فحسب من خلال الرسائل التي يقرأها حلفائه وشركائه. وتشتمل هذه القائمة على أصدقائه المقربين، ومستشاره وكاتب خطاباته، محمد بن عمر زرهوني، ورئيس الوزراء السابق أحمد أويحيى، والوزير السابق بلعيز وشقيقه سعيد. وبالرغم من ذلك، ترشح بوتفليقة لولاية رابعة وفاز بها في عام 2014، على الرغم من وصف خصومه للنتائج بأنها مزورة وطالبوا باستقالته.
وعلاوة على ذلك، كثيراً ما شاب الفساد إدارته على جميع المستويات. وفي عام 2015، صنفت منظمة الشفافية الدولية الجزائر في المرتبة 88 من أصل 186 بلداً. واليوم، مع الانخفاض التاريخي لأسعارالنفط، يتساءل العديد من الجزائريين لمَ لا يزال اقتصادهم يعتمد على مثل هذا المورد المحدود، وعن ما فعلته الحكومة بالدولارات البترولية التي كسبتها عندما وصل سعر النفط إلى 140 دولار للبرميل الواحد.