وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

حوران.. حتى يكتمل المشهد

حوران
صورة تم التقاطها يوم ١ سبتمبر ٢٠٢١ لجندي روسي وهو يستعمل منظاراً خلال دورية في منطقة درعا البلد السورية جنوبي محافظة درعا السورية. وبعد ثلاث سنوات من استعادة النظام السوري للسيطرة على محافظة درعا الجنوبية المضطربة، عاودت قوات النظام الاشتباك مع الثوار هناك، ليبقى آلاف الناس في مرمى النيران. وفرّ حوالي نصف سكان منطقة درعا البلد التي يسيطر عليها المتمردون من القصف العنيف والمعارك البرّية، ومع ذلك، تحذّر الأمم المتحدة من قطع الإمدادات الشحيحة بالأصل عن المدنيين المتبقيين. المصدر: SAM HARIRI/ AFP.

حسين الزعبي

تصدرت محافظة درعا جنوبي سوريا خلال الأسابيع الماضية المشهد إثر شن النظام السوري هجوما عسكريا بهدف إخضاع منطقة درعا البلد الواقعة على الحدود الأردنية لسلطته. هذه الأحداث أعادت الملف السوري إلى الحياة في أروقة عواصم القرار، إعلاميًا على الأقل. وبلغت الأحداث ذروتها خلال الساعات الـ 72 الماضية لتثمر فيما بعد اتفاقا بين النظام والأهالي، برعاية روسية، اتفاقا لا يمكن تقييمه بمعزل عن اللحظة التاريخية للحالة السورية برمتها.

ولعلنا لا نكشف سرا إن قلنا: إن المقاتلين في حوران، ومركزها مدينة درعا، والذين رفعوا سقف مطالبهم تسببوا بالتأخر للوصول إلى اتفاق، فهم يحملون النزق الثوري الذي تفجر في عامي 2011-2012 مضافا إليه دوافع ذاتية لكل واحد منهم تتعلق بالوفاء لمن رحلوا، والإحساس بخيانة رفاق السلاح ممن قضوا بآلة النظام العسكرية، لمجرد الدخول بمفاوضات مع النظام، فما بالك بقبول وجود حواجزه داخل درعا البلد؟!

وفق هذا المنظور المتوقف عند سني الزخم الثوري، حين كانت دمشق شبه محاصرة، فإن الاتفاق هو ضرب من ضروب الخيانة من وجهة نظر الشباب الذين كبروا مع الثورة وحافظوا على فطرتهم الثورية. وفي هذا السياق، حاولت بقايا العناصر المتطرفة الاستثمار في هذا النزق وتصدر المشهد، واستطاعت خلال أيام قليلة إحداث شرخ في حالة الإجماع الأهلي المصطف خلف لجنة التفاوض، إذ بدأت تخرج أصوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تدعو للسير خلف طروحات العناصر المتطرفة. بيد أن الزخم الشعبي الرافض للانسياق وراء طروحات التطرف والمؤيد للجنة التفاوض أعاد القوة للأخيرة التي استدركت بعض الهفوات السابقة كتعدّد المتحدثين باسمها، وعدم إصدار بيانات دورية توضح تطور المفاوضات، وهو ما دفع جهات مجهولة لإصدار بيانات تم تداولها على نطاقٍ واسع وكأنها باسم عشائر حوران. واستدركت اللجنة ذلك وراحت تدير عملية التفاوض باقتدار، وربما هذا ما أعطاها القدرة على تحريك نسبة كبيرة من الشارع على امتداد حوران التي إن تحركت فلا شك أنها ستربك النظام والروس وإن إلى حين.

النظام من جهته وجد ضالته ببقايا العناصر المتطرفة، التي اعتادت على الظهور على امتداد الأرض السورية في الوقت الذي يكون فيه النظام بأمسّ الحاجة إليها، فصب جحيمه على ما تبقى من الأحياء المحاصرة باستخدام صواريخ الفيل ذات القدرة التدميرية العالية وغيرها من الصواريخ ذات الدقة المنخفضة بحجة وجودهم ورفض مغادرتهم المحافظة.

أما إن أردنا قراءة الاتفاق من منظور اللحظة الراهنة، فهو ليس أكثر من المفاضلة بين الأسوأ والسيئ، الأول، أي الأسوأ يتمثل بالاقتحام العسكري أما الثاني فهو الاتفاق نفسه، وهذه المفاضلة جراء عاملين الأول: يقين النظام ومن خلفه إيران بأن اقتحام درعا وإخضاعها لن يقض مضاجع الدول العربية ولن تدينه الدول صاحبة القرار العالمي، وبالتالي سيتمكن مستندا على قوة السلاح ودعم الميليشيات المتلطية ضمن تشكيلات الفرقة الرابعة من دخول درعا البلد وإخضاعها بالقوة وإهانة أهلها، باعتبارها المحافظة التي صفعته مرارا، بعد حصارها، مستفيدا كذلك من عدم توفر خطوط إمداد وضعف العتاد بيد المقاتلين فضلا عن ممارسة الضغط على الأهالي.

أما العامل الثاني: فهو الصلابة التي تمتع بها المقاتلون ومعهم لجنة التفاوض ومن خلفهم الأهالي على امتداد حوران وفي دول الاغتراب واللجوء، صلابة أوصلت للنظام رسالة واضحة، أن العملية العسكرية لن تكون سهلة، وأن انتشارها على كامل مناطق حوران بات قاب قوسين أو أدنى، والنتيجة كانت أن توصلت لجنة التفاوض بمشاركة الفيلق الخامس المحسوب على روسيا وكان من مخرجات تسوية العام 2018 إلى اتفاق برعاية روسية، وهذا الاتفاق يمثل الطرف الثاني مع المعادلة وهو “السيئ”.

حوران
صورة تم التقاطها يوم ٦ سبتمبر ٢٠٢١ لمجموعة من أبناء درعا وهم يتحدثون إلى القوات الروسية في منطقة درعا البلد التي يسيطر عليها الثوار في مدينة درعا، حيث تقوم هذه القوات بفرض وقف إطلاق النار بين قوات النظام واللجان المحلية، وذلك في إطار جهود المصالحة بعد سبعة أشهر من حصار القوات الحكومية للمنطقة. وشهد يوم ١ سبتمبر ٢٠٢١ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في محافظة درعا برعاية روسية، علماً بأن هذه المحافظة تعتبر مهد الثورة السورية التي قاتلتها قوات النظام. وكانت قوات النظام استعادت السيطرة على محافظة درعا التي بقيت لسنوات تحت سيطرة قوات المعارضة في عام ٢٠١٨، وذلك وفق اتفاقٍ لوقف إطلاق النار جاء برعاية روسية. وأتاح هذا الاتفاق للثوار البقاء في بعض المناطق. المصدر: Sam HARIRI / AFP.

لماذا هذا سيئ وذاك أسوأ؟ الجواب يعود بنا إلى 18 آذار من العام 2011، حيث انطلاقة الثورة السورية في حوران وسقوط أول الشهداء، والرمزية التي أوجدتها درعا البلد وجامعها العمري أحد مفاصل الاعتداد الطائفي، فالمسجد بناه الخليفة عمر بن الخطاب وهو من الشخصيات محل “الشتيمة” لدى الطائفة الشيعية الحاكمة في إيران، وكذا الحالة التي شكلتها في الوجدان السوري بوصفها مهداً للثورة، وبالتالي فإن كسرها سيعطي النظام دفعة معنوية وسياسية من جهة، وسيضيف خيبة جديدة لخيبات الكتلة السورية المعارضة من جهة أخرى، وهذا ما لم يحدث فدرعا لم تكسر، وكشفت الصور التي انتشرت في أربعة أصقاع الأرض الندية الواضحة خلال التوقيع على الاتفاق الأمر الذي حفظ الكرامة، وهذه ليست نافلة قول، بل في لب ما حصل.

ولكن موضوعيا، درعا لم تنتصر، وفق بنود الاتفاق نفسه، فالنظام الذي فشل طوال عقد في إثبات حضوره بدرعا البلد، ها هو يحصل على جزء مما أراد عبر رفع علمه إلى جانب العلم الروسي، وسيكون له أيضا نقاط أمنية داخل الأحياء، بالإضافة إلى تسليم كمية محدودة من السلاح، وعمليات تسوية للمطلوبين.. نعم قد تكون هذه أموراً رمزية، ويمكن الإطاحة بها خلال أي تطور عسكري قد يطرأ، لكن هذه الرمزية ليست كذلك في عيون آباء الضحايا وأمهاتهم وأبنائهم ممن طحنتهم آلة النظام العسكرية في تلك البقعة على مدار عقد من الزمن. هذا بغض النظر عما ألحقه القصف من دمار في المنازل والمساجد والبنى التحتية، ومن خسائر بشرية تجاوزت الـ 40 قتيلا في عموم حوران، فضلا عن جرحى لا سبيل لعلاجهم.

ما حدث في درعا لم يكن بمعزل عن الحالة الدولية، فبات معلوماً أن إيران تسعى لفرض سيطرتها، عبر الميليشيات التابعة لها، على الجنوب السوري ولا يستبعد توظيفه في مفاوضات الملف النووي وإسرائيل ليست بعيدة عن أروقته، فيما تسعى على المدى الاستراتيجي، وهذا ديدن النسّاج الفارسي الذي لا يكشف عن اللوحة المرسومة على سجادته إلا بعد انتهائها، لإطباق كماشتها على السعودية والأردن بإتمام السيطرة على اليمن وسوريا. وهنا يسجل على الأنظمة العربية الاستمرار بالتعامي عن الأخطبوط الإيراني الذي التهم العراق بينما تضرب أذرعه في سوريا واليمن ولبنان.. وبالتالي ومن هذا التصور، يمكن قراءة الاتفاق بطريقة استراتيجية مع افتراض أنه، أي الاتفاق، سيستمر فترة زمنية لا بأس بها. وهنا، يمكن القول إن الاتفاق الأخير في درعا انتصار بكل بالمعاني، فميليشيات إيران خارج المشهد وما زالت على هوامش حوران، وبهذا تتحول درعا إلى واحد من معوقات المشروع الإيراني. إلا أن الإفشال الحقيقي للمخطط الإيراني يتمثل بإعادة الحياة إلى المحافظة وبعودة الأهالي إلى بيوتهم سواء من هم في مخيمات الأردن أو من المغتربين في الدول العربية، ولا سيما في دول الخليج ممن لم يعودوا إلى ديارهم منذ العام 2011،  فالمشروع الايراني قائم على منطق تهجير الأغلبية وتفريغ المناطق و”تشييع” القلة المتبقية وتحويل الشباب منهم إلى عناصر في ميليشياتها، ولعل هذا ما ينفذه في أرياف دير الزور، وكذلك في ريف حمص،. أما في حمص المدينة، فمنع النظام من يريد من الأهالي العودة لإصلاح بيته في الأحياء المدمرة وترك سبعة أحياء خاوية على عروشها.

ولأنه رب ضارة نافعة، فالاتفاق سيخدم، ربما من حيث لم يرد النظام، الحالة المجتمعية بضبطه للسلاح المنفلت الذي أصبح مهددا للسلم الأهلي، إذ لا يكاد يمر أسبوع إلا وتسجل المحافظة عملية اغتيال أو اثنتين لا نبرئ النظام منها. كما لا نبرئ الخلايا المتطرفة النائمة التي تستثمر فوضى السلاح في تصفية حساباتها، ليس مع النظام بل مع الأهالي، ولعل هذا يقود إلى ضرورة مراجعة تجربة اللواء الثامن الذي أنجزه اتفاق 2018 ويسيطر حاليا على منطقة بصرى الشام بإشراف روسي، فكان حاضرا بقوة في التطورات الأخيرة في درعا وإن لم يتصدر المشهد، مع ضرورة التعامل وفق منطق مصلحة المحافظة وامدادها بالمزيد من مقومات الصمود المجتمعية، فالسياسة لا تعترف بالقوالب الجامدة بل بديناميكية تحرك المصالح والاستفادة من التحولات.