وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تباعد باسيل وحزب الله: مصالح شخصيّة وعوامل إقليميّة

تضاءلت بشكل مطرد الفوائد التي جناها التيار الوطني الحر وحزب الله من التحالف، لأسباب ترتبط بمصالح باسيل الشخصيّة، وبعض التوازنات الإقليميّة التي يحرص عليها حزب الله.

تباعد باسيل وحزب الله
أنصار يلوحون بالأعلام الوطنية وكذلك الأعلام البرتقالية للتيار الوطني الحر والعلم الأصفر لحزب الله ، 30 تشرين الأول 2022. وكالة فرانس برس

علي نور الدين

مثّل توقيع وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيّار الوطني الحرّ سنة 2006، ومن ثم التحالف السياسي الوثيق بين الطرفين، انعطافة كبيرة في الحياة السياسيّة اللّبنانيّة. فحزب الله تمكّن من خلال هذه العلاقة من تحصين سلاحه سياسيًّا، من خلال التحالف مع تيّار يملك شعبيّة كبيرة في الشارع المسّيحي اللّبناني.

أمّا التيّار، فتمكّن من خلال تحالفه مع الحزب الأكثر قوّة على الساحة المحليّة من دخول الحياة السياسيّة اللّبنانيّة بشراسةٍ، بما مكّنه من فرض مؤسسه وقائده ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة. وعلى مدى السّنوات ال16 الماضية، كان هذا التحالف أحد العوامل المحددة لتوازنات التجاذبات السياسيّة المحليّة.

تحوّل سياسي كبير

هذا الواقع بات على وشك التغيّر اليوم، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من تبدّل كبير في المشهد السياسي اللّبناني. فرئيس التيّار الوطني الحر الحالي جبران باسيل، صهر رئيس الجمهوريّة السابق ميشال عون ووريثه السياسي، أشار بصريح العبارة إلى أنّ تفاهم تيّاره مع حزب الله بات “على المحك”، رافعًا شعارات تلمّح إلى تشكيكه بجدوى هذا التفاهم، من قبيل “لا قيمة لأي تفاهم وطني يناقض الشراكة المتوازنة”.

جاءت هذه التصريحات على خلفيّة اختلاف الطرفين في طريقة مقاربة العديد من الملفّات المحليّة. إلا أنّ جميع هذه الخلافات، عكست بدورها مصالح شخصيّة ترتبط بمستقبل جبران باسيل السياسي، وتأثيرات إقليميّة ترتبط بعلاقاته في الخارج. فرغم أنّ مؤسس التيّار وأباه الروحي ميشال عون مازال على قيد الحياة، إلا أنّ باسيل بات اليوم قائد التيّار وزعيمه الفعلي، ما ربط تحالفات التيّار وقراراته بطموحات باسيل وتطلّعاته.

الخلاف بين الطرفين، بات يطرح أسئلة عديدة، أبرزها نوعيّة الضغوط السياسيّة التي سيتعرّض لها حزب الله في المرحلة المقبلة، وخصوصًا على مستوى الدفاع عن شرعيّة احتفاظه بسلاحه، في حال خسارة حليفه الذي يتزعّم جزءًا كبيرًا من الشّارع المسّيحي.

مع الإشارة إلى أنّ حزب الله يعاني أساسًا من انحسار تأييد سلاحه في أوساط جميع الطوائف الأخرى، باستثناء الطائفة الشّيعيّة التي يتزعمها مع حليفه نبيه برّي. كما يطرح هذا الخلاف أسئلة حول خيارات باسيل في المرحلة المقبلة، ونوعيّة التحالفات البديلة التي يمكن أن يعقدها.

الأهداف الأساسيّة لتحالف الطرفين

من الواضح أن ما يجري اليوم من تباعد بين الطرفين، يعكس بالدرجة الأولى انتفاء الأسباب التي دفعت باتجاه عقد التحالف بينهما منذ البداية. لهذا السبب، ولفهم الأسباب التي تدفع اليوم التيّار الوطني الحر إلى التشكيك بجدوى استمرار تحالفه مع حزب الله، قد يكون من المفيد العودة إلى أسباب عقد هذا التحالف منذ ستّة عشر عامًا، ونوعيّة المصالح التي قام عليها التحالف.

بحلول نهاية العام 2005، كانت قد مرّت ثمانية أشهر على عودة ميشال عون من منفاه في فرنسا، ومن ثم خوضه الانتخابات النيابيّة، وحصوله على نحو 70% من أصوات الناخبين المسيحيين. وفي تلك المرحلة، كانت إشكاليّة عون الأساسيّة إبعاده عن التمثيل داخل الحكومة اللبنانيّة، وفي التعيينات الإداريّة داخل مؤسسات الدولة، ما اعتبره إجحافًا بالغًا بحقّه، بوصفه صاحب “التمثيل الأكبر” في الشّارع المسيحي. وليكسب المزيد من التضامن في أوساط المسيحيين، رفع عون يومها شعار “استعادة حقوق المسيحيين”، باعتبار أن التهميش الذي يتعرّض له –كزعيم مسيحي- هو تهميش لشريحة من المسيحيين في لبنان.

كان خصم عون الأساس في هذه المواجهة هو ما يُعرف بتحالف 14 آذار، الذي ضمّ مجموعة من الأحزاب التي خاضت “انتفاضة الاستقلال” عام 2005، ضد ما عُرف بالوصاية السوريّة على لبنان. ورغم أنّ عون حمل نفس الشّعارات المناوئة للوجود السوري، وخاض “انتفاضة الاستقلال” إلى جانب هذه القوى، سرعان ما برزت الخلافات بينه وبين هذه الأحزاب خلال وبعد انتخابات العام 2005 النيابيّة، لأسباب تتصل بالخلاف حول حصّة عون داخل النظام.

ولهذا السبب، وبعد نيل قوى 14 آذار الأكثريّة داخل المجلس النيابي، لم يتم إشراك التيار الوطني الحر في أولى الحكومات التي تم تشكيلها بعد الانتخابات، بل تم إشراك وزراء مسيحيين من المحسوبين على قوى أخرى داخل 14 آذار.

هكذا، ورغم أن عون ظلّ منفيًّا لمدّة 15 سنة بفعل معارضته الوصاية السوريّة على لبنان بين 1990 و2005، ورغم حَمله طوال هذه السّنوات الشّعارات المنددة بهذه الوصاية وحليفها الأبرز حزب الله، انقلب موقف عون تمامًا بعد عودته إلى لبنان سنة 2005. فبات خصم عون الأساس تحالف 14 آذار، الذي تكتّل منذ سنة 2005 ضد النظام السوري وسلاح حزب الله، وانتزع الأكثريّة النيابيّة والحكومة.

وبعد تخلي عون عن شعارات “سيادة الدولة” في مواجهة سلاح حزب الله والتدخل السوري في الشأن اللّبناني، بات مطلب عون الرئيس الحصول على حصّة المسيحيين داخل السلطة، بدل أن تحصل على هذه الحصّة القوى المسيحيّة المنضوية في تحالف 14 آذار.

على المقلب الآخر، كان حزب الله يملك ما يكفي من أسباب لمعارضة استحواذ قوى 14 آذار على السلطة، وللعمل على تكوين تحالف مضاد في وجهها. فحزب الله لم يرَ في هذا التحالف منذ البداية إلا إحدى الثورات الملوّنة التي يدعمها الغرب، لاستهداف محور المقاومة في المنطقة. وبعد أن تمكنت هذه القوى من فرض انسحاب الجيش السوري من لبنان سنة 2005، تحوّلت هذه القوى إلى المطالبة بنزع “السلاح الخارج عن إمرة الدولة”، أي سلاح الحزب نفسه، وهو ما اعتبره حزب الله خطرًا داهمًا لا يمكن تجاهله.

لكل هذه الأسباب، كانت الأرضية مهيّئة منذ نهاية العام 2005 لعقد هذا التحالف بين التيار الوطني الحر، بقيادة ميشال عون، وحزب الله. فالتيّار كان بحاجة إلى حلفاء أقوياء، ليخوض معركة دخول السلطة من جديد، والاستحواذ على حصّة المسيحيين داخل الدولة. فيما كان حزب الله يحتاج إلى غطاء سياسي، من خلال تحالف مع قوى وازنة من طوائف أخرى، لحماية سلاحه من الاستهداف السياسي. وهذه المعادلة بين الطرفين، لخّصت كل أهداف هذا التحالف الفعلية منذ عام 2006 ولغاية اليوم.

أبرز مكتسبات التحالف

منذ العام 2006، تمكن التحالف من انتزاع مكتسبات مهمّة للطرفين. خاض الطرفان معًا بين عامي 2006 و2008 معركة إسقاط الحكومة التي شكلتها قوى 14 آذار، عبر تظاهرات صاخبة في الشارع. وفي نهاية الأمر، استقالت الحكومة بالفعل عام 2008، بعد عمليّة عسكريّة واسعة النطاق قام بها حزب الله، ردًا على قرارات حكوميّة قضت بتفكيك شبكة اتصالات هاتفيّة خاصّة يديرها الحزب.

ثم دخل التيّار الوطني الحرّ وحزب الله وحلفاؤهما الحكومة الجديدة، إلى جانب قوى 14 آذار التي تملك الأكثريّة النيابيّة، ضمن تسوية أعطت تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر حصّة كافية لتعطيل أي قرار داخل مجلس الوزراء. وهكذا، دخل التيار الوطني الحر السلطة في لبنان شريكًا أساسيًا.

وعلى مدى السنوات التالية، استفاد التيار الوطني الحر من أصوات حزب الله في جميع الدورات الانتخابيّة، كما تمكّن بمساندة حزب الله من فرض قانون انتخابي يعزّز حصّته داخل المجلس النيابي.

وبين عامي 2014 و2016، تمكن الطرفان مع حلفائهما من تعطيل جلسات انتخاب رئيس الجمهوريّة في المجلس النيابي، عبر إفقاد الجلسات نصابها الدستوري، ما أدخل البلاد طوال هذه الفترة في فراغ على مستوى رئاسة الجمهوريّة. وبهذه الطريقة، تمكن ميشال عون –زعيم التيار الوطني الحر يومها- من فرض تسويات مع سائر الأحزاب السياسيّة، بما أفضى إلى انتخابه رئيسًا للجمهوريّة.

وعلى مدى هذه السنوات، تمكن حزب الله من إخراج مسألة سلاحه تدريجيًّا من النقاش داخل المؤسسات الدستوريّة، بعد أن انقلبت التوازنات السياسيّة إلى حد كبير لصالحه، ولصالح حليفه التيار الوطني الحر. لا بل بلغت الأمور حد تفكك تحالف 14 آذار، وتشتت مكوّناته. ورغم تراجع شعبيّة سلاح الحزب لدى شرائح واسعة من الشعب اللّبناني، خارج نطاق الطائفة الشيعيّة، تمكّن الحزب من تحييد السجالات داخل النظام السياسي عن مسألة هذا السلاح.

تلاشي أسباب التحالف

بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، بدأت تدريجيًّا أسباب هذا التحالف بالتلاشي. فرئيس التيّار الحالي جبران باسيل بات يبحث اليوم عن مستقبله السياسي، وهو يدرك أن تحالف تياره مع حزب الله كان السبب وراء إدراجه على لوائح العقوبات الأميركيّة، التي فرضت عليه عزلة في أوساط المجتمع الدولي.

ولهذا السبب بالتحديد، يبحث باسيل اليوم عن تسويات تسمح برفع العقوبات عنه، ولو كلّفه ذلك بعض المساومات على موقفه المتحالف مع حزب الله. ببساطة، لم يعد التحالف مع حزب الله رافعة لزعيم التيّار الوطني الحر الحالي، بل بات عبئًا يحول دون تحقيق طموحاته السياسيّة.

في الوقت عينه، وبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، ودخول لبنان في مرحلة الفراغ الرئاسي، لا يبدو حزب الله هذه المرّة مستعدًا لدعم جبران باسيل في معركة الترشّح إلى رئاسة الجمهوريّة، كما فعل مع الرئيس السابق ميشال عون قبل انتخابه.

وهذه المسألة تتصل أولًا بتحفّظ حلفاء حزب الله الآخرين على شخص جبران باسيل، وربما بسعي الحزب لتأمين وصول رئيس يملك علاقات جيّدة مع الدول الغربيّة والخليجيّة، دون أن يملك موقفًا سلبيًا من الحزب وسلاحه. ففي ظل الانهيار الاقتصادي الراهن، يدرك الحزب جيّدًا أنه بحاجة إلى رئيس قادر على تأمين الدعم الخارجي للبنان، كي لا يتحمّل الحزب المزيد من النقمة الشعبيّة نتيجة الأزمة الماليّة، وهذا ما لا يستطيع فعله جبران باسيل.

هكذا، انتفت تدريجيًّا أسباب التحالف، لأسباب ترتبط بمصالح باسيل الشخصيّة، وبعض التوازنات الإقليميّة التي يحرص عليها حزب الله اليوم. أمّا القشّة التي قسمت ظهر البعير، فكانت تجاهل حزب الله اعتراضات التيار الوطني الحر على عقد جلسة لمجلس الوزراء، وحضور وزراء الحزب الجلسة بمعزل عن مقاطعتها من قبل وزراء التيار الوطني الحر.

وهذا التطوّر بالتحديد، أعاد التيّار الوطني الحر إلى شعار الدفاع عن حقوق المسيحيين، بعدما اعتبر التيّار عقد الجلسة بغياب وزرائه المسيحيين تهميشًا للطوائف المسيحيّة التي يمثلونها. وتمامًا كما كان الحال دائمًا، عادت الأحزاب اللّبنانيّة إلى سجالات تحمل عناوين طائفيّة، بمجرّد اختلافها على مسائل تتصل بمصالح زعمائها الشخصيّة.