على مدى العقدين الأخيرين، برزت شخصية حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني الشيعي كظاهرة ذات أثر عميق في الساحة السياسية الشرق أوسطية. ولربما فاق نصر الله من حيث صيته وأثره السياسي وكارزميته كل من سبقوه من زعماء ورؤساء وملوك إلى تلك الساحة.
تولى نصر الله زعامة حزب الله في العام 1992، خلفاً لعباس الموسوي الذي كان قد اغتيل على يد القوات الإسرائيلية، ومنذ ذلك الحين استطاع نصر الله أن يشكل قوة دفع حقيقية للحزب على الساحتين السياسية والعسكرية.
ولد نصر الله في العام 1960 في ضاحية برج حمود شرق بيروت، وهو الأكبر بين أشقائه التسعة، حيث كان يطمح للقيادة الدينية في سن مبكرة. ولدى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، عادت عائلته إلى موطنها الأصلي في قرية البازورية في الجنوب اللبناني. وما إن أتم حسن دراسته الثانوية
حتى ذهب لدراسة العلوم الدينية في مدينة النجف العراقية التي تعتبر مركزاً للمؤسسات الدينية الشيعية، وهناك التقى للمرة الأولى بعباس الموسوي.
عاد نصر الله إلى لبنان في العام 1978 مع الموسوي الذي أسس مدرسة دينية شيعية في لبنان، فقام نصر الله بالدراسة والتدريس فيها. ومع قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، التي كان لها تأثير كبير على الحركات السياسية والعسكرية الشيعية في لبنان، انضم نصر الله إلى حركة أفواج المقاومة اللبنانية الشيعية (أمل) في منطقة البقاع، وهي مجموعة شبه عسكرية ذات صلة بكل من إيران وسوريا، وذلك في فترة أفرزت فيها الثورة الإسلامية الإيرانية واقعاً جديداً في أوساط الشيعة في لبنان، وتم تعيينه في عام 1979 مسؤولاً سياسياً للبقاع، وعضواً في المكتب السياسي للحركة.
وفي عام 1982 شارك حسن نصر الله في تأسيس حزب الله، إذ انشق عن حركة أمل مع عدد من القيادات والكوادر التي انتمت آنذاك إلى تيار محسوب على طهران، وذلك إثر خلافات حول المنهج السياسي لرئيس الحركة نبيه بري (رئيس مجلس النواب اللبناني حالياً).
ومرة أخرى، علا شأن نصر الله بسرعة في منطقة البقاع حيث تولى مسؤولية المنطقة في حزب الله حتى العام 1985، حين انتقل إلى منطقة بيروت ليتولى فيها مسؤوليات تنظيمية عديدة و تولى في عام 1987 منصب المسؤول التنفيذي للحزب إلى جانب عضويته في مجلس الشورى الخاص به.
غادر نصر الله لبنان من جديد بين عامي 1988 و1989 إلى مدينة قم الإيرانية بهدف إتمام دراسته الدينية، لكنه ما لبث أن عاد إلى لبنان مع اشتداد المعارك هناك، خاصة بين حزب الله وحركة أمل. ولدى اغتيال زعيم الحزب عباس الموسوي في عام 1992 جرى اختيار نصر الله أميناً عاماً للحزب.
رأى كثيرون آنذاك أن حسن نصر الله لم يكن ـ نظرياً ـ يتمتع بالمؤهلات اللازمة لقيادة الحزب، فقد كان سلفه ـ الموسوي ـ قد قضى سنيناً طويلة في الدراسات الدينية قبل تبوئه ذلك المنصب. وقد قيل في حينه أن تعيين حسن نصر الله جاء بأمر من المرشد الأعلى للثورة في إيران، ولم يكن هناك إجماع داخل الحزب على تسميته. لكن نصر الله استطاع كسب تأييد أعداد كبيرة من عناصر الحزب من خلال الخدمات والمعونات الاجتماعية التي وفرها للمجتمع الشيعي في لبنان كالمساكن والمدارس والمراكز الصحية.
واستمر نصر الله ببناء شعبيته، إذ قام بتوسيع النشاط العسكري لحزب الله ضد إسرائيل، لكن الأهم من ذلك كان أن الأخير أحسن استخدام هذا النشاط إعلامياً بأفضل صورة ممكنة. وقد خرج حزبه منتصراً من كثير من المواجهات التي خاضها مع إسرائيل ومنها عملية “عناقيد الغضب” التي نفذتها إسرائيل ضده عام 1996، مما حوله إلى رمز للمقاومة في أعين الكثيرين وذيّع صيته في العالمين العربي والإسلامي، فشرع أنصاره يلقبونه “سيد المقاومة”.
صعود وهبوط
جاء انسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب اللبناني في العام 2000 (بعد احتلال دام 22 سنة) ليتوج هذه الجهود ويرفع من النفوذ السياسي لحزب الله ومن شعبية نصر الله، ليس على مستوى لبنان وحسب بل وعلى مستوى العالم بين مناهضي الصهيونية ومؤيدي القضية الفلسطينية.
وفي يناير 2004، كسر نصر الله جميع الأرقام القياسية من حيث الشعبية، وذلك حين تمكن من التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى مع إسرائيل أخرج بموجبها أكثر من 400 من الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم من المعتقلين العرب من السجون الإسرائيلية إضافة إلى استعادة جثث لبنانيين وعرب، من بينها جثة ابنه هادي الذي كان قضى في مواجهات مع القوات الإسرائيلية في العام 1997.
في الواقع وقبل زمن ليس ببعيد، مر وقت استأثر فيه حسن نصر الله باحترام ودعم شرائح واسعة من شعوب العالمين العربي والإسلامي، إذ كادت صوره لا تفارق الشوارع وسلاسل المفاتيح وشاشات الحواسيب، ولطالما تسمر الملايين خلف شاشات التلفاز لساعات كلما ألقى خطاباً، وفاقت شعبيته وشهرته شهرة ملوك ورؤساء حكموا بلادهم عقوداً من الزمن.
في تموز 2006، شنت القوات الإسرائيلية هجوماً كاسحاً على الجنوب اللبناني وعلى الضاحية الجنوبية معقل حزب الله في بيروت. وكان الهجوم قد أعقب قيام حزب الله بنصب كمين للجيش الاسرائيلي أسفر عن مقتل ثلاثة جنود واختطاف جنديين من دورية إسرائيلية على الحدود مع لبنان. وقد تعرض نصر الله لعدة محاولات إغتيال كان منها أن قام الطيران الإسرائيلي بتدمير بيته ومكاتبه خلال حرب تموز (يوليو)، فيما صرح عدد من المسئولين الإسرائيلين خلال مقابلات إعلامية عن نية اسرائيل تصفيته ما إن تسنح الفرصة.
ورغم الدمار الكبير الذي ألحقته إسرائيل بلبنان على مدى شهر من الحرب في تموز 2006، استطاع حزب الله تكبيد إسرائيل خسائر كبيرة بالأرواح والعتاد مما اضطرها أخيراً إلى توقيع اتفاقية لوقف إطلاق النار. وجاء ذلك بمثابة نصر لحزب الله وعزز من مكانة زعيمه في العالم العربي. كما أن جهود الحزب في إعادة إعمار البيوت المدمرة ومساعدة المتضررين من الحرب رفعت شعبية الحزب وزعيمه على نحو كبير على المستوى اللبناني والعربي.
لكن سجل حسن نصر الله لا يعتبر براقاً بالنسبة إلى كثير من اللبنانيين، فقد تعرض الأخير إلى الكثير من الانتقادات بعد قيام الحزب “باحتلال” غرب العاصمة بيروت في أيار (مايو) 2008 بقوة السلاح وذلك بعد قيام الحكومة اللبنانية باتخاذ إجراءات ضد شبكة الاتصالات الخاصة بالحزب. كان ينظر إلى الحادث من قبل غالبية اللبنانيين السُنة والمسيحيين باعتباره إشارة إلى أن حزب الله قد “يحتل” البلاد بأكملها بالقوة.
وقد شكلت قضايا احتفاظ حزب الله بالقوة العسكرية والسلاح، باعتبار اسرائيل مصدر تهديد مستمر، وارتباطه المباشر وطويل الأمد بإيران نقاطاً خلافية بين غالبية اللبنانيين من غير الشيعة.
كما أثار خطاب قديم ألقاه حسن نصر الله عام 1988 الذي سُرّب حديثاً من قبل القناة الإخبارية السعودية، العربية، يتحدث فيه عن نية الحزب إقامة دولة إسلامية شيعية في لبنان، الكثير من الجدل.
لكن أكثر ما أثر سلباً في شعبية حسن نصر الله وحزبه على مدى السنوات الأربع الأخيرة كان قراره بدعم نظام بشار الأسد في سورية، والمشاركة العسكرية في الحرب الأهلية الدائرة هناك منذ عام 2012 ضد خصوم النظام رغم الرفض الرسمي اللبناني.
نظر كثيرون إلى هذا الدعم على أنه اصطفاف طائفي أعمى إلى جانب نظام علوي بغض النظر عن شرعيته في الحكم. كما أثار حفيظة السواد الأعظم من الشعوب العربية ازدواجية حسن نصر الله في مواقفة حيال ثورات الربيع العربي، فمن ناحية كان يدعم الحراك (الشيعي) في البحرين ضد حكومتها بينما بادر العداء لكل من رفض النظام في سورية بما في ذلك النشطاء السلميين.
على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، أدت هذه المواقف إلى تدهور شعبية حزب الله وزعيمه حسن نصر الله في الشارع العربي والإسلامي. وحسب آراء كثير من الخبراء، فإن الطريقة التي أدار فيها حزب الله مواقفه كانت بمثابة وصفة ناجعة لهدر عقود من التربع في قلوب الملايين.