وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الكابلات البحريّة في المنطقة العربيّة: أهميتها ومخاطرها

الكابلات البحريّة في المنطقة العربيّة التي تربط أجزاء كبيرة من آسيا وأوروبا وأفريقيا، تتعامل مع 30% من حركة الاتصالات العالمية.

الكابلات البحريّة المنطقة العربيّة
تظهر صورة الأقمار الصناعية التي نشرتها شركة ماكسار تكنولوجيز سفينة الشحن روبيمار التي ترفع علم بليز، والتي تضررت في هجوم صاروخي أعلنه الحوثيون. AFP

علي نور الدين

مع تصاعد النزاعات العسكريّة الإقليميّة في منطقة الشرق الأوسط، عاد الحديث عن المخاطر الأمنيّة التي تحيط بعمليّات الكابلات البحريّة، المخصّصة لغايات الاتصالات ونقل بيانات الإنترنت.

وقد ذهب البعض إلى اعتبار تهديد هذه الكابلات أحد الأسلحة الجيوستراتيجيّة والاقتصاديّة الخفيّة، خصوصًا أن كابلات بحار المنطقة العربيّة تصل مناطق واسعة من شرق وجنوب آسيا بدول أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط.

تجارب سابقة مُقلقة

في أحداث الأشهر الماضية ما يكفي للخشية من احتمالات تضرّر هذه الكابلات، أو تهديدها كجزء من النزاعات المتنقلة في المنطقة.

ففي بدايات شهر آذار/مارس 2024، وبموازاة التوتّرات المحيطة بالشواطئ اليمنيّة، خرجت بعض الأنباء التي تشير إلى تضرّر ثلاثة كابلات بحريّة في منطقة البحر الأحمر، دون كشف الجهة المسؤولة عن ذلك. كما لم يتضح ما إذا كانت الأضرار ناتجة عن هجوم متعمّدٍ، أو حصلت بشكلٍ غير مقصود نتيجة المواجهات البحريّة الجارية بين الحوثيين وبعض بوارج الجيوش الغربيّة.

يومها، أعلنت شركة “إتش جي سي غلوبال كوميونيكيشن” أنّ الحادث أدّى إلى انقطاع 25% من حركة البيانات التي تعبر البحر الأحمر، وهو ما أجبر الشركة على إعادة توجيه هذه الحركة باتجاه كابلات أخرى. ومن بين الكابلات التي تضرّرت، كان خط “أوروبا-الهند غيتواي”، الذي ينطلق من مدينة مومباي الهنديّة ويصل إلى المملكة المتحدة، مرورًا بالشرق الأوسط.

كما تضرّرت شبكة “آسيا-أفريقيا-أوروبا 1″، التي تنطلق من هونغ كونغ في شرق آسيا وتصل إلى فرنسا، لتربط بذلك العديد من دول جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالشبكات الأوروبيّة.

قبل هذا الحادث، وفي شهر شباط/فبراير 2023، سجّلت دولة جيبوتي في شرق أفريقيا انقطاعًا في خدمات الانترنت، وهو ما ربطته منظمة “نت بلوكس” بتضرّر كابلات البحر الأحمر أيضًا. وهكذا، كان على جيبوتي إعادة توجيه حركة البيانات الواردة إليها والمتجهة منها، لتفادي المرور بالكابلات المتضرّرة هناك. وتمامًا كالحادث الذي حصل في الشهر اللاحق، لم تنكشف طبيعة الأعمال التي أدّت إلى تضرّرٍ في الكابلات البحريّة.

روايات متضاربة حول حوادث البحر الأحمر

في تلك المرحلة، اتهمت الحكومة اليمنيّة المدعومة من المملكة العربيّة السعوديّة –والمعترف بها دوليًا- الحوثيين بتدبير هذه الهجمات، وعلى نحوٍ متعمّد ومقصود. وربطت الحكومة ما بين تضرّر الكابلات، والهجمات التي تعرّضت لها بعض السفن المتجهة إلى إسرائيل، في محاولة للإيحاء بأن الحوثيين يستعملون الكابلات البحريّة كوسيلة ضغط على المجتمع الدولي.

غير أن الحوثيين قدموا رواية أخرى مختلفة كليًا، معتبرين أنّ هذه الاتهامات تستهدف “تأليب الرأي العام الدولي” ضدهم. واتهمت الجماعة المسلحة الولايات المتحدة وبريطانيا بالتسبب بهذه الأضرار، وذلك من خلال نشاط القطع العسكريّة التابعة لها في البحر الأحمر، وهو ما “عرّض أمن وسلامة الاتصالات الدولية والتدفق الطّبيعي للمعلومات للخطر”.

وبشكلٍ عامٍ، ظلّ الحوثيون –حتّى هذه اللّحظة على الأقل- يشددون على التزامهم بسلامة الكابلات البحريّة المحيطة باليمن، بموازاة تشديدهم على استمرار العمليّات البحريّة ضد السفن المتجهة لإسرائيل.

في واقع الأمر، ثمّة ما يدفع للاعتقاد بأنّ الحوثيين لم يهدفوا فعلًا إلى الإضرار المتعمّد بهذه الكابلات، خصوصًا أن تداعيات الحادث تؤثّر على دول يحرص الحوثيون على العلاقة الإيجابيّة معها، مثل الصين. كما تؤثّر هذه الحوادث على المجتمعات العربيّة، التي تستفيد من خدمات هذه الكابلات، في الوقت الذي يحرص فيه الحوثيون على استعراض عمليّاتهم بوصفها عملًا تضامنيًا مع الشعب الفلسطيني لا أكثر.

لذلك، ومن بين جميع الروايات المتضاربة، جاءت الرواية الأقرب للواقع من جانب اللّجنة الدوليّة لحماية الكابلات. إذ رجّحت اللّجنة أن تكون الكابلات قد تضرّرت خلال شهر آذار/مارس على نحو غير مقصود، نتيجة سقوط مرساة سفينة “روبيمار” بعد تعرّضها لهجوم من جانب الحوثيين.

ومن المعلوم أنّ السفن تستطيع في الظروف العاديّة الوصول إلى خرائط الكابلات البحريّة لتجنّب الإضرار بها من خلال مراسيها، إلا أنّ طاقم السفينة اضطرّ لإلقاء المرساة والتخلّي عن السفينة خلال الهجوم.

حساسيّة كابلات البحر الأحمر

على الرغم من استبعاد احتمال تعمّد جماعة الحوثي الإضرار بهذه الكابلات، من المؤكّد أن الجماعة تدرك جيّدًا السلاح الذي تمتلكه بيدها، من خلال سيطرتها على منطقة تعج بالكابلات البحريّة الاستراتيجيّة.

فقبل وقوع هذه الحوادث، نشرت عدّة وسائل إعلام مقرّبة من الجماعة خريطة لأماكن انتشار الكابلات قبالة الشواطئ اليمنيّة، مشيرة إلى القوّة التي تمتلكها، جرّاء اعتماد الانترنت في ثلاث قارّات على هذه الكابلات. وكان من الواضح أن تكرار ذكر هذه الكابلات، في وسائل الإعلام اليمنيّة، جاء كرسالة مباشرة لـ “التحالف الغربي” كما يسميه الحوثيون.

في الواقع، لا يوجد أدنى حد من المبالغة في الحديث عن حساسيّة كابلات البحر الأحمر، على مستوى حركة الاتصالات الدوليّة. ففي جميع أنحاء العالم، تُعتبر الكابلات البحريّة القناة الأساس التي تمرّ عبرها البيانات بين الدول، وهي مسؤولة نقل عن 95% من المكالمات وحركة الانترنت عير العالم.

وفي الوقت الراهن، باتت 30% من حركة الاتصالات والانترنت العالميّة تمرّ عبر كابلات البحر الأحمر، كما يمر عبرها 90% من حركة البيانات بين أوروبا وآسيا. وبهذا الشكل، يقارب عدد الأشخاص الذين يعتمدون على هذه الكابلات للاتصال أو الولوج إلى الانترنت، حدود الـ 2.3 مليار نسمة.

ولفهم أهميّة البحر الأحمر بالنسبة إلى حركة البيانات والانترنت العالميّة، تكفي الإشارة إلى أنّ هذا البحر يستوعب 16 كابلًا بحريًا أساسيًا، بسعة إجماليّة تصل إلى 178 تيرابايت. وهذه الكابلات، تُعتبر قناة الاتصال الأساسيّة التي تربط كبرى تكتلات مستهلكي الانترنت، في أوروبا وشرق أفريقيا وشرق وجنوب آسيا ودول الخليج العربي.

وعلى الرغم من انتشار الانترنت الفضائي خلال السنوات الماضية، لا يزال هذا النوع من الكابلات البحريّة العنصر الأوّل والأهم في شبكة الانترنت والاتصالات العالميّة.

على المستوى الأمني، تكمن الإشكاليّة الأهم في اتساع المساحة الجغرافيّة التي تنتشر عبرها هذه الكابلات، وهو ما يجعل حمايتها على مدار الساعة مسألة صعبة. وبخلاف السفن التجاريّة التي يمكن توجيه حركتها بحسب مقتضايات الوضع الأمني، فهذه الكابلات ترتبط بمسارات ثابتة ومعرّضة للهجمات بشكلٍ دائمٍ. أمّا مسارات الكابلات البحريّة في منطقة البحر الأحمر، التي تتوسّط ثلاث قارّات، فلا يوجد بديل عنها حتّى الآن.

كابلات أخرى حسّاسة في المنطقة العربيّة

على مستوى المنطقة العربيّة، وفضلًا عن البحر الأحمر، يتسم بحران آخران بحساسيّة استثنائيّة على مستوى أمن خطوط نقل البيانات والاتصالات.

فبحر العرب –وامتداده في الخليج العربي- يعجّان بعشرة كابلات رئيسة، بالإضافة إلى 33 كابلًا فرعيًا تستفيد منها دول مجلس التعاون الخليجي، و6 كابلات فرعيّة تستفيد منها إيران. وبعض هذه الكابلات يلعب دورًا حيويًا على مستوى ربط الهند ودول جنوب آسيا بمنطقة الشرق الأوسط، ومنها إلى أوروبا وأفريقيا.

أمّا الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط، فيستوعب جميع الكابلات الأساسيّة المتجهة من البحر الأحمر نحو أوروبا، كما يستوعب الكابلات الفرعيّة التي تصل لبنان وسوريا وتركيا وإسرائيل وقبرص بالشبكة العالميّة. وعلى الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسّط، يفتخر المسؤولون في مصر باستيعاب بلادهم لأكثر من 90% من حركة البيانات التي تنتقل بين آسيا من جهة، وأوروبا وشمال أفريقيا من جهة أخرى. مع الإشارة إلى أنّ الحكومة المصريّة استهدفت تطوير شبكة الكابلات هذه، كجزء من خطتها لتطوير البنية التحتيّة التكنولوجيّة.

لكل هذه الأسباب، تمثّل الكابلات البحريّة في المنطقة العربيّة جزءًا حسّاسًا من شبكة نقل المعلومات والبيانات على المستوى الدولي، وهو ما يمثّل فرصة مهمّة لدول المنطقة. فالاستثمار في هذه الشبكات وتطويرها والاستفادة منها، يسمح لدول المنطقة بتطوير مداخيلها من قطاع التكنولوجيا، كما يسمح بتطوير قطاعات أخرى تعتمد على سهولة الاتصال مثل اقتصاد المعرفة.

وفي الوقت عينيه، من المفترض أن تسعى دول المنطقة إلى تنويع البنى التحتيّة التي تعتمد عليها في هذا المجال، وتنويع أماكن انتشارها، لتقليص أثر المخاطر الأمنيّة والجيوسياسيّة.