وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

هل السودان يصبح جسر روسيا لإفريقيا

 جسر روسيا لإفريقيا
صورة تم التقاطها يوم ٢٧ إبريل ٢٠٢١ لسفينة تابعة لسلاح البحرية الروسي وهي ترسو في ميناء مدينة بورت سودان السودانية. المصدر: Ibrahim ISHAQ / AFP.

أثارت زيارة نائب رئيس المجلس السيادي السوداني الجنرال محمد حمدان دقلو لروسيا في 23 فبراير 2022 عشية غزو الجيش الروسي لجارتها أوكرانيا الكثير من الاستهجان داخليا ودوليا وأعادت لواجهة الاهتمام العلاقات السودانية الروسية المعلنة والخفية والمتعددة المستويات والأغراض والمرامي.

لم يصدق أحد أن التوقيت المريب للزيارة والتصريح المثير للجدل الذي أدلى به الجنرال شبه الأمي دقلو (المعروف باسم حميدتي أيضا) زعيم مليشيات الدعم السريع، في اليوم التالي للغزو الروسي لأوكرانيا، يمكن أن يعزى لقلة خبرته وحداثة عهده بحساسية العلاقات الدولية. حميدتي أعرب عن أمله في حل سلمي للازمة الروسية – الأوكرانية. وأضاف بالحرف الواحد: “لكن لروسيا الحق في أن تدافع عن مواطنيها وتدافع عن شعوبها وهذا حق يكفله الدستور والقانون وكل العالم له حق الدفاع عن شعبه”، الأمر الذي تم تفسيره بأنه تأييد سوداني للغزو الروسي.

استجابة قلقة ومرتجلة

يرى بعض المراقبين في الخرطوم هذه الخفة واللهفة على زيارة نائب الرئيس السوداني برفقة وزراء المالية والطاقة والمعادن والزراعة لموسكو في هذا التوقيت، استجابة قلقة ومرتجلة للضغوط السياسية والاقتصادية المتفاقمة التي تتعرض لها حكومة الفريق البرهان في الخرطوم منذ انقلابه على السلطة المدنية برئاسة د. عبد الله حمدوك في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي.

أصيبت حكومة الخرطوم بخيبة أمل كبيرة من موقف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الصريح ضد الانقلاب العسكري للفريق البرهان وتجميدهم أكثر من ثلاثة مليار دولار من المساعدات الاقتصادية الموعودة للسودان الذي يواجه مصاعب اقتصادية واضطرابات سياسية متطاولة المدى. وتحاول حكومة البرهان أن تبحث عن دعم دولي من طرف آخر، مثلما فعل الرئيس السابق البشير بزيارته لموسكو عام 2018 ليسقط بعدها بعدة أشهر في أبريل 2019.

الرد الأمريكي على زيارة حميدتى جاء سريعا عبر تصريح لرئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي غريغوري ميكس، الذي قال في تغريدة إن “إرسال السودان وفداً إلى روسيا، مع بدء غزو أوكرانيا يوجه رسالة – لا جدل في شأنها – إلى العالم، مفادها أن المجلس العسكري السوداني ليست لديه مصلحة في دعم الديمقراطية أو المبادئ الأساسية للسيادة. (نحن نراقب)، بحسب ما أوردت صحيفة “السوداني”.

فيما اتخذت دول الاتحاد الأوروبي موقفا لا يقل حزما، في إجراء غير مسبوق، بأن أوفدت كل سفرائها في الخرطوم دفعة واحدة لوزارة الخارجية السودانية يوم 27 فبراير 2022 لمقابلة وزير الخارجية السوداني.

وقال روبرت فان دن دول، رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي بالسودان، في تصريحات صحافية عقب الاجتماع، إن السفراء دعوا السودان، للانضمام إلى المجتمع الدولي في الخروج علنا لتأييد التعددية وتبني قواعد تستند إلى النظام الدولي وعدم القبول بقرار روسيا غير القانوني بالاعتراف بإعلان استقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك.

ردا على ذلك، خرجت السيدة سلمى عبد الجبار، الناطق الرسمي باسم مجلس السيادة الانتقالي، بتصريح قالت فيه إنّ المجلس أكد على موقف السودان الداعم لاعتماد الحوار وسيلة لحل الأزمة بين روسيا وأُوكرانيا وأوضحت أن السودان مع الحل الدبلوماسي سبيلا للخروج من الأزمة ويدعم المساعي الجارية الآن بين البلدين.

علاقات قديمة ومتجددة

مهما يكن من أمر، فإن تطلع روسيا والسودان لعلاقات أوثق وأقوى ليست وليدة ضغوط عابرة وطارئة. لكن ما يتغير فيها هي دوافع وتطلعات كلا الطرفين ويستخدم فيها الطرف الروسي أذرع متعددة دبلوماسية علنية وأخرى غامضة وغير رسمية تضع أعينها على موقع السودان المهم على البحر الأحمر والاستراتيجيات الروسية فيها وموارد السودان المعدنية الوفيرة عبر أخطبوط شركة فاغنر الأمنية كما سيرد في هذا المقال.

شهدت العلاقات السودانية الروسية نموا متصاعدا في المجالات العسكرية والاقتصادية خلال الفترة من 1993-2020 في الوقت الذي أدرجت فيه الولايات المتحدة الأمريكية السودان كدولة راعية للإرهاب وتعرضت لحصار سياسي واقتصادي قاسٍ.

توج التقارب بين البلدين بزيارتين للرئيس السابق عمر البشير لروسيا في نوفمبر 2017 ويوليو 2018 والتي طلب خلالها علنا من الرئيس بوتين أن يحمي السودان من السياسات الأمريكية العدائية. وقال البشير خلال لقائه بالرئيس بوتين أمام الصحفيين إن “الوضع في البحر الأحمر يثير قلقنا، ونعتقد أن التدخل الأمريكي في تلك المنطقة يمثل مشكلة أيضا، ونريد التباحث في هذا الموضوع من منظور استخدام القواعد العسكرية في البحر الأحمر”.

لم تتحمس موسكو وقتها للعرض السوداني لكنها استدركت الأمر فيما بعد وخرجت بأربعة اتفاقات تعاون بين البلدين خاصة بعد لقاء الرئيسين فلاديمير بوتين وعبد الفتاح البرهان في روسيا في أكتوبر2019.

أبدى السودان بعض التردد في المضي قدما في الاتفاق عندما تحسنت علاقاته بالغرب إبان تولي عبد الله حمدوك رئاسة الوزراء. لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صادق على الاتفاق في نوفمبر 2020.

يتضمن الاتفاق، الذي يسري لخمسة وعشرين عاما، إقامة قاعدة بحرية روسية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر يفضل الروس تسميتها “مركز دعم لوجيستي”. ويستوعب المركز اللوجستي الذي تم الاتفاق عليه 300 جنديا وموظفا ويمكن أن يستضيف 4 سفن عسكرية في نفس الوقت بينها سفن تحمل أجهزة طاقة نووية.

وقال وزير الدفاع السوداني اللواء ياسين إبراهيم في تصريح صحفي: “في الواقع، لا يدور الحديث عن اتفاقية واحدة، بل عن أربع اتفاقيات متعلقة بالتعاون العسكري بين البلدين تقضي بإنشاء ممثلية لوزارة الدفاع الروسية في السودان وتسهيل دخول السفن الحربية الروسية للموانئ السودانية، ومن ثم الاتفاق على إنشاء مركز دعم لوجستي روسي في السودان”.

فيما قال الرئيس البرهان، في تصريحات لوكالة “سبوتنيك” الروسية إن “لدينا اتفاقا مع روسيا من ضمنه إنشاء قاعدة بحرية (في بورتسودان) ونتحدث فيه باستمرار ولدينا بعض الملاحظات نحتاج إلى إزالتها” قبل المضي في تنفيذه، دون تفاصيل أكثر.

وأضاف: “ملتزمون بالاتفاقيات الدولية وسنمضي في تنفيذ الاتفاق (مع روسيا) حتى النهاية” وشكر روسيا على معارضتها إدانة انقلابه العسكري بواسطة مجلس الأمن الدولي.

وما أدراك ما فاغنر

 جسر روسيا لإفريقيا
صورة تم التقاطها يوم ٢ مارس ٢٠٢٢ للزعيم العسكري السوداني محمد حمدان دقلو “حميدتي” وذلك على هامش المؤتمر الصحفي الذي عقده في امطار الخرطوم عقب عودته من العاصمة الروسية موسكو. المصدر: ASHRAF SHAZLY / AFP.

بدأ الحديث عن نشاط شركة فاغنر في السودان بعد عدة أشهر من زيارة الرئيس السابق البشير لروسيا عام 2017. وهذه الشركة شركة روسية خاصة شبه عسكرية، أسسها رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين، المقرب من الرئيس بوتين وأجهزة الاستخبارات العسكرية الروسية.

بدأت فاغنر في السودان من خلال شركتي “مروي جولد” و“آم إنفست” بأنشطة للتنقيب عن الذهب الذي استقطب الكثير من المغامرين السودانيين والأجانب منذ عقدين من الزمان.

لكن سرعان ما وسعت فاغنر أنشطتها لتقديم خدمات أمنية لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير لمواجهة الثورة الشعبية ضده في ديسمبر 2018. وقدمت فاغنر خدمات سيبرانية ضد الناشطين، بالتزامن مع تعطيل مواقع الإنترنت المعارضة والتأثير على محتوى مواقع الإنترنت حول السودان بإنشاء آلاف الحسابات الوهمية المؤيدة للنظام حتى اضطرت فيسبوك للتدخل لاستبعاد الحسابات المزورة.

كما شوهد خبراء فاغنر الأمنيين في شوارع الخرطوم التي كانوا يتجولون فيها بالشاحنات الروسية والأزياء العسكرية المميزة ونشرت صورهم على المواقع السودانية وواصلت نشاطها فيما بعد في مساندة العسكريين ضد الحكومة المدنية والترويج للمصالح الروسية في السودان.

لا يعرف بالتحديد متى بدأت علاقة شركة فاغنر بقوات الدعم السريع وزعيمها حميدتي. غير أنه من المؤكد أن نشاط فاغنر في التنقيب عن الذهب والمعادن الأخرى في مناطق دارفور البعيدة عن السيطرة والرقابة الحكومية والتي تعيش فوضى وسيولة أمنية، قد قربت بينهما وسهلت لكليهما عمليات تهريب الذهب الواسعة التي تعترف بها السلطات السودانية ولا تجد سبيلا لمكافحتها.

عملت بعدها فاغنر في تدريب مليشيات الدعم السريع وتزويدها بالأسلحة وتحسين صورتها في الاعلام على الإنترنت.

وتشير تقارير صحفية إلى أن فاغنر قد دربت وتدرب ضباطا من قوات الدعم السريع على استخدام الطائرات المسيرة (الدرون) في روسيا. هذا الأمر قد يسبب خللا في التوازن بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني ويهدد بتعزيز القوة العسكرية والاقتصادية لقوة ذات طبيعة إثنية وانتماء جغرافي محدد مقابل غالبية المواطنين.

فاغنر من السودان للجيران

تجاوز تعاون الدعم السريع وشركة فاغنر الحدود السودانية وتورطا معا في تقديم الدعم العسكري لقوات خليفة حفتر في ليبيا وتأجيج الحرب الأهلية هناك إلى حد تعذر فيه على الأطراف الليبية إخراج المرتزقة الأجانب من أراضيها حتى بعد اعترافها باستخدامها والاتفاق على إخراجها من البلاد.

ومن السودان أيضا، انطلقت فاغنر وبالتعاون مع الدعم السريع للجارة المنهكة، إلى جمهورية إفريقيا الوسطى. وتزعم وسائل إعلام غربية ومحلية أن فاغنر نقلت أسلحة وأفرادا من السودان إلى جمهورية إفريقيا الوسطى عبر مطاراتها أو عبر الحدود بين البلدين من منطقة أم دافوق. هذا الأمر دفع الولايات المتحدة لإدراج شركة “آم إنفست” الروسية، في قائمة العقوبات في 15 يوليو 2020، باعتبارها غطاء لشركة فاغنر.

وتعمل فاغنر كمخلب قط للإسترتيجيات الروسية في إفريقيا، حتى أنها أخرجت فرنسا من جمهورية مالي وتسعى لأهداف مماثلة في عشرة دول إفريقية أخرى تنشط فيها.

تخلص صحيفة لوموند في تقرير مطول لها على “أنه بعد 30 عاما من فك الارتباط مع إفريقيا في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي، بدأت منذ عام 2017 “الملحمة الكبرى” لعودة روسيا إلى القارة السمراء عبر السودان.