وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الاتفاقية البحرية الليبية التركية: شراكة أم كأسٌ مسمومة؟

Turkey libya deal
مجلس النواب الليبي يعقد جلسةً طارئة في مدينة بنغازي بشرق ليبيا يوم 4 يناير 2020، لمناقشة التدخل العسكري المرتقب لتركيا لدعم حكومة طرابلس المعترف بها من قِبل الأمم المتحدة. Photo: Abdullah DOMA / AFP

في أوائل ديسمبر 2019، وقعت تركيا وليبيا اتفاقاً لإضفاء الطابع الرسمي على حدودهما البحرية، وإنشاء منطقة اقتصادية خالصة تمتد عبر البحر المتوسط. ومنذ أن تم التصديق عليها من قبل البرلمانات المعترف بها دولياً لكلا البلدين، فتحت الصفقة صندوق الشرور في منطقةٍ تواجه لعنةً مزدوجة من سباق استغلال النفط والغاز المكتشفين حديثاً تحت قاع البحر، والسحابة المظلمة من العداء الجيوسياسي.

فرصةٌ في البحر المتوسط

قد تبدو الحدود البحرية التي يبلغ طولها 35 كيلومتراً بين البلدين غير مهمة، بيد أنها جزءٌ رئيسي من أحجية البحر الأبيض المتوسط المعقدة المتمثلة في الحدود البحرية، مما أثار غضب الجيران في وقتٍ تتصاعد فيه المنافسة على حقوق حقول النفط والغاز.

ومما لا يثير الدهشة، صوّت البرلمان الليبي الذي يتخذ من شرق البلاد مقراً له والموالي للجنرال خليفة حفتر بالإجماع ضد الاتفاق الموقع من قبل حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس. ومع ذلك، وفقاً للقانون الدولي، الإتفاق مستمر.

وبموجب الإتفاق، وافقت ليبيا وتركيا على إنشاء منطقة اقتصادية خالصة من الشاطىء الجنوبي لتركيا إلى الساحل الشمالي لليبيا. فهذه المنطقة الممتدة عبر وسط البحر الأبيض المتوسط لا تفرض سيادةً فحسب على مساحةٍ شاسعة من احتياطيات النفط والغاز التي يعتقد أنها تقع تحت قاع البحر، ولكنها أيضاً تفرض رقابةً تقييدية على عبور هذه المواد من حقول الغاز في شرق البحر المتوسط إلى الأسواق الرئيسية في أوروبا.

وتشير تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إلى أن حوض شرق المتوسط يحتوي على غاز طبيعي بقيمة 700 مليار دولار، وقد ذكرت تركيا بالفعل أنها وليبيا مستعدتان للتعاقد مع شركاتٍ دولية لاستغلال النفط والغاز.

استغلال الاتفاقية

تؤكد الإتفاقية مطالبةً واضحة بحقوق البلدين في استغلال الموارد أسفل قاع البحر في جزءها من المنطقة الاقتصادية. فقد كانت حقوق الاستغلال نقطة خلافٍ متنامية لطالما أشعلت التوترات في البحر المتوسط في السنوات الأخيرة. وفي ظل حرص الدول القوية على الحصول على قطعةٍ من هذه الكعكة، إلى جانب التوترات التي طال أمدها حول تحديد نقاط الحدود البحرية وما إذا كانت الدول تمتلك الحق في المطالبة بالسيادة عليها، إلا أن التحركات نحو استغلال النفط والغاز لم تمر دون جدال.

فقد اشتبكت ليبيا في الماضي مع اليونان بشأن حقوق الاستغلال في المياه القريبة من جزيرة كريت اليونانية. وعليه، تزود الإتفاقية الليبية التركية طرابلس بحليفٍ قوي في الدفاع عن مطالبها. ومن ذلك الحين، قامت اليونان بطرد السفير الليبي بسبب تورط طرابلس بالإتفاقية.

Turkey libya gas deal
المصدر: Center for Strategic & International Studies (CSIS), The Jerusalem Post, Stratfor, Limes, alaraby.co.uk. @Fanack

كما كانت تركيا أيضاً في قلب هذه التوترات. ففي السنوات الأخيرة، نشرت أنقرة سفناً بحرية لمنع دول البحر المتوسط الأخرى من استغلال المواد الهيدروكربونية في المياه التي تطالب بها لنفسها أو جمهورية شمال قبرص التركية الانفصالية. وعليه، أرسلت تركيا طائرةً عسكرية بدون طيار إلى قبرص الشمالية لمراقبة سفينتي الحفر اللتين استخدمتهما أنقرة لحفر حقول الغاز المحتملة.

ومع الإتفاقية الأخيرة، أنشأت تركيا مطالبةً قانونية دولية قوية في معظم المناطق التي كانت تأمل بالمطالبة بها كحقولٍ هيدروكربونية خاصة بها.

وبالتالي، اشتكت اليونان من أن الإتفاقية تنتهك مطالباتها البحرية، بيد أن المسؤولين الأتراك واصلوا عنادهم، واصفين أنفسهم بالعمود الفقري في شرق البحر المتوسط. فقد كانت تركيا تضغط من أجل إتمام هذه الصفقة مع ليبيا منذ عام 2018، لكن طرابلس كانت مترددةً في السابق لعدم رغبتها بالخوض في الجغرافيا السياسية الإقليمية. ومع ذلك، مع قرع قوات حفتر المدعومة من روسيا أبواب طرابلس، لم يعد أمام حكومة الوفاق الوطني خيارٌ سوى الموافقة على عرض تركيا مقابل الحصول على مساعدة عسكرية لضمان بقائها.

ومن وجهة نظر تركيا، لا تكمن استفادتها من الإتفاقية فيما ستحققه فحسب من حقوق الإستغلال، بل تكمن أيضاً فيما يمكن لأنقرة إيقافه.

الطاقة أهم من السياسة

يمكن القول إن الصلة الأوسع للإتفاقية مرتبطة بسياسات الطاقة على المستوى الإقليمي. إن التهديد بسيطرة تركيا (وليبيا) الوصول مستقبلاً إلى طريقٍ رئيسي من طرق أسواق المواد الهيدروكربونية قد أثار غضب دول شرق البحر المتوسط.

فقد انتقدت كل من مصر وإسرائيل (اللتان لم يتمتع أي منهما بعلاقات ودية مع تركيا في السنوات الأخيرة) هذه الخطوة التركية الليبية، بل وصل الأمر إلى حد زعم مصر عدم قانونيتها. فالبلدان يتطلعان بنشاطٍ لتصدير الغاز الذي يعملون على استغلاله من حقولهم في البحر المتوسط إلى أوروبا. ومع وجود عقبة تركية على طريق التصدير، يترك هذا أمامهما خياراتٍ أقل لإيصال هذه المواد الهيدروكربونية إلى السوق الأكثر حيوية، إذ كانت إسرائيل تعتمد على مشروع خط الأنابيب بين إسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا للقيام بذلك. ولكن، إذا ما اعتبرت تركيا المشروع غير قابلٍ للتطبيق، فلربما لن تواجه إسرائيل مشكلةً كبيرة حيث بدأت بالفعل في تصدير الغاز الطبيعي المسال إلى مصر لإعادة تصديره.

بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من العلاقات السياسية المعقدة بين تركيا وإسرائيل، إلا أنهما حافظتا على علاقاتٍ تجارية قوية، والتي من المرجح أن تضمن استمرار تدفق الغاز الإسرائيلي بغض النظر عن النتائج السياسية أو العسكرية لهذه الأحداث الأخيرة. وفي أعقاب الإتفاقية التركية الليبية، وقعت ثلاث دول في مشروع خط الأنابيب الذي يبلغ طوله 1900 كيلومتر والذي يتضمن أربع دول إتفاقاً، وذلك حرصاً دون أدنى شك على حشد قواتها الدبلوماسية والاقتصادية.

ومع ذلك، لدى القاهرة الكثير لتخسره. فمصر، المتحالفة بشكلٍ وثيق مع الرجل العسكري القوي حفتر، تصطف على الجانب الآخر من النزاع الليبي ضد تركيا. وبالنظر إلى علاقات تركيا بالإخوان المسلمين – العدو اللدود للنظام الحاكم في القاهرة – فمن غير المرجح أن تحظى مصر بشروط سخية من تركيا إذا دخلت البلاد في مفاوضات بشأن الوصول إلى خطوط الأنابيب في البحر الأبيض المتوسط.

في حين يبدو من غير المحتمل أن تشارك مصر في عملٍ عسكري أكثر خطورة من الاشتباكات السابقة التي حرض عليها جيرانها على البحر المتوسط، فمن المرجح أن تضغط الإتفاقية التركية الليبية على القاهرة لمضاعفة دعمها لحفتر، وذلك بلا شك لإطالة أمد الصراع ومعاناة ليبيا. كما وضعت الإتفاقية مصر في مأزقٍ اقتصادي محتمل، مما زاد من الضغط على منطقة متوترة بالفعل. وإذا ما كانت تركيا مجبرةً على زيادة التزامها العسكري تجاه ليبيا لمكافحة دعم مصر (بعيداً عن مشروع القانون الذي تم الاتفاق عليه مؤخراً لنشر قوات في ليبيا)، فلربما ستندم أنقرة على اندفاعها لتأمين حقوقها البحرية.

كأسٌ مسمومة؟

تستغل الإتفاقية التركية الليبية الهوس الراهن باستشكاف المواد الهيدروكربونية بين قوى شرق البحر الأبيض المتوسط، مما يُقيّد ترتيبات الأمن الرئيسية والترتيبات الجيوسياسية لكلا البلدين. من جهتها، عززت تركيا موقفها ضد خصومها القدامى مثل اليونان وقبرص، في حين فازت حكومة الوفاق الوطني بتأييدٍ عسكري قوي لكفاحها الداخلي المسلح. وبالرغم من أن النفط والغاز كانت يوماً ما نعمةً تتغنى بها منطقة شرق المتوسط، إلا أنها جلبت مرةً أخرى مشاحناتٍ جيوسياسية. وعليه، تتطلع كلٌ من تركيا وليبيا إلى أن يكونا أحدث فصلٍ في هذه القصة الملحمية المستمرة.