By: Mat Nashed
دفع انعدام ثقة تركيا العميق في حلفائها الغربيين وخصومها العرب إلى تبني سياسةٍ خارجية عدوانية، ففي الآونة الأخيرة، تصدرت تركيا عناوين الصحف لدعمها هجوم أذربيجان على ناغورني- قرة باغ، وهي منطقة حكم ذاتي يسيطر عليها الانفصاليون العرقيون المدعومون من الأرمن. دفع العنف المشتعل المجتمع الدولي إلى الدعوة إلى وقفٍ لإطلاق النار، بيد أن أنقرة تصعد الصراع بدعم أذربيجان عسكرياً.
يتوافق رد فعل تركيا مع سلوك سياستها الخارجية مؤخراً. ففي حين أثبتت الخسائر المدنية في ناغورني قرة باغ أنها كارثية، إلا أن تنقيب تركيا عن اكتشافات الغاز في البحر الأبيض المتوسط لا تزال القضية الأكثر إثارةً للجدل بالنسبة للعديد من خصومها وحلفائها الإقليميين.
فقد تصاعدت التوترات بين اليونان وتركيا بشكلٍ خاص في الأشهر الأخيرة. باختصار، تعتقد أثينا أن الجزر اليونانية المنتشرة على الساحل التركي تمنحها حقوقاً إقليمية. ومع ذلك، أكدت أنقرة منذ فترة طويلة أن الجزر اليونانية لا ينبغي أن يكون لها حق الوصول إلى المناطق الاقتصادية الخالصة. تعود جذور حجة تركيا إلى الأحكام الدولية السابقة التي منعت الجزر من المطالبة بحدود بحرية حصرية، كما كان الحال في نزاع 1982 بين ليبيا وتونس.
كما أن قبرص وتركيا أيضاً على خلافٍ حول اكتشافات الغاز في البحر المتوسط. يعود الصراع إلى عام 1974 عندما غزت تركيا شمال قبرص في أعقاب انقلابٍ مدعوم من اليونان على الجزيرة. قسّم الغزو الجزيرة فعلياً إلى قسمين، مع اعتراف المجتمع الدولي بالحكومة في الجنوب باعتبارها السلطة الوحيدة على الجزيرة. نتيجةً لذلك، تطالب الحكومة الجنوبية في مدينة نيقوسيا بالحقوق البحرية للجزيرة بأكملها.
لكن أنقرة لا تقر بأن قبرص الجنوبية اليونانية لها حقوقٌ في منطقة اقتصادية خالصة تتجاوز 12 ميلاً بحرياً قبالة سواحلها، بل تعتقد أنه يجب تقسيم الحدود البحرية بين الإدارة في قبرص الجنوبية اليونانية والإدارة المدعومة من تركيا في الشمال. كما تجادل أيضاً بأن مطالبة نيقوسيا بالحدود البحرية تنتهك المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها التي تمتد جنوباً من ساحل البحر الأبيض المتوسط.
ولتعقيد المشكلة، ترفض أنقرة التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي تستخدم عادةً لتسوية مثل هذه النزاعات. وبدلاً من ذلك، وصل الخلاف إلى نقطة الغليان العام الماضي بعد أن إنتزعت تركيا مذكرة تفاهم من حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً.
جاء هذا الاتفاق من رحم الحرب الأهلية الليبية، التي شهدت قيام القوات الشرقية التابعة للجنرال خليفة حفتر بشن هجومٍ على العاصمة طرابلس في أبريل 2019، ورافق الهجوم دعمٌ جوي إماراتي ومرتزقة من شركة الأمن الروسية الخاصة، مجموعة فاغنر.
دفع هجوم حفتر على العاصمة حكومة الوفاق الوطني إلى اللجوء إلى تركيا طلباً للمساعدة، وعليه، هرولت أنقرة لإنقاذ حكومة الوفاق الوطني من خلال نشر طائرات مسيرة متطورة ومرتزقة سوريين. في المقابل، حددت مذكرة التفاهم حدوداً بحرية بين تركيا وليبيا تخترق الجزر اليونانية كريت ورودس وكاستيلوريزو.
اشتعلت اليونان غضباً من الاتفاقية وطردت بعد ذلك سفير ليبيا في حكومة الوفاق الوطني. كما أعربت كل من مصر وإسرائيل وقبرص وفرنسا عن غضبها أيضاً ذلك أن مذكرة التفاهم تقوض خطط إنشاء خط أنابيب تحت الماء لنقل الغاز الطبيعي من مصر وإسرائيل إلى أوروبا.
وبالتالي، أجبرت خطوة تركيا منافسيها على إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، الذي يقول العديد من الخبراء إنه يعادل “أوبك” للدول المطلة على البحر المتوسط فحسب. تصدرت مصر المبادرة التي شهدت توقيع ست دول على منتدى للطاقة لمواجهة ما وصفته القاهرة بـ “انتهاك” تركيا لحقوقها الاقتصادية.
وعليه، يعتزم منتدى غاز شرق المتوسط تعزيز التعاون السياسي والعسكري لتعيين الحدود البحرية ومنع أنقرة من التنقيب عن الموارد الطبيعية في المنطقة. ومن بين الأعضاء أيضاً كل من اليونان وإسرائيل وإيطاليا ومصر والسلطة الفلسطينية والأردن، كما طلبت فرنسا العضوية أيضاً، بينما ترغب الولايات المتحدة في أن تكون مراقباً دائماً.
ومع ذلك، فقد يجبر المنتدى تركيا على مضاعفة سياستها الخارجية الحازمة، فقد انتقد حزب العدالة والتنمية، الذي يتزعمه أردوغان، في السابق حكاماً سابقين لتملقهم القوى الغربية على حساب مصالح تركيا، وعليه، وعد أردوغان باستعادة الإرث الإمبراطوري لتركيا بجعلها لاعباً إقليمياً مؤثراً. ومن الجدير بالذكر أن عدم ثقة أنقرة في حلفائها الأوروبيين يرجع بشكلٍ خاص إلى استبعادها من منتدى غاز شرق المتوسط والاتحاد الأوروبي.
قد يؤدي التوتر حول البحر الأبيض المتوسط إلى اشتباكاتٍ بين حلفاء الناتو، إذ أوشك حصول ذلك عندما واجهت فرقاطة فرنسية ثلاث سفن حربية تركية في 10 يونيو. آنذاك، كانت فرنسا تحاول تنفيذ فرض حظر توريد الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا، بيد أنها تعرضت لانتقاداتٍ لقيامها فحسب بقمع الشحنات البحرية التركية. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن الحظر لا يعيق نقل الأسلحة جواً، وهي الطريقة التي تساعد فيها الإمارات وفرنسا وروسيا قوات حفتر.
ومع ذلك، أوقفت السفينة الفرنسية سفينة شحن تنزانية يشتبه في أنها تحمل أسلحة إلى ليبيا، لكن سفينة تركية مرافقة للسفينة التنزانية هددت الفرقاطة الفرنسية بأجهزة الرادار المستهدف، مما دفع الطاقم الفرنسي إلى ارتداء سترات واقية من الرصاص واتخاذ مواقع دفاعية بأسلحتهم الخفيفة. بالكاد تم استبعاد حصول اشتباك، بينما زعمت تركيا في وقتٍ لاحق أن السفينة التنزانية كانت تحمل مساعداتٍ وليس أسلحة.
أياً كان ما تحمله سفينة الشحن، إلا أن ذلك لم يُخفِ طموح تركيا في تعزيز قوتها البحرية، المجهزة بالفعل بالسفن والغواصات المنتجة محلياً، التي ستنضم إليها سفنٌ حربية أكبر حجماً في العام المقبل.
من جانبه، رد الإتحاد الأوروبي بالتهديد بفرض عقوباتٍ على تركيا بسبب أفعالها أحادية الجانب في البحر المتوسط، إلا أن تركيا تحسب أن عضويتها في حلف الناتو تحميها من عواقب وخيمة. الوقت وحده كفيلٌ بإثبات صحة ذلك.
في الوقت الراهن، لا ينبغي عزل أردوغان أو مكافأته على التنمر على حلفائه وخصومه، بل يجب على الاتحاد الأوروبي بدلاً من ذلك التعاون والتوصل إلى حل وسط مع تركيا لمعالجة مصالحهما المشتركة. ويجب على الكتلة التغلب على الانقسامات الداخلية قبل القيام بأي محاولةٍ حقيقية للقيام بذلك. كما يتعين عليها تقبّل استعراض أردوغان لأي تنازل من أوروبا أمام قاعدته المحلية؛ فهذا ثمنٌ ضئيل يتوجب دفعه لتجنب الحرب في البحر الأبيض المتوسط.