دمر الإنفجار الذي هزّ مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020 العاصمة اللبنانية مما أسفر عن مقتل أكثر من 170 شخصاً وإصابة ما لا يقل عن 6 آلاف شخص وتشريد أكثر من 300 ألف من منازلهم.
بالنسبة للعديد من اللبنانيين، كان الانفجار الهائل بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد كانت البلاد تعاني بالفعل من أزمةٍ اقتصادية حادة تسببت في انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، مما أدى إلى فقرٍ مدقع ونقصٍ في الغذاء وتسريحٍ للعمالة. ووفقاً لأرقام البنك الدولي، كان ما يقرب من 50% من السكان يعيشون تحت خط الفقر في أبريل 2020، بينما يعيش أكثر من 20% في فقرٍ مدقع.
واليوم، جاء هذا الإنفجار الذي نتج عن سبع سنواتٍ من الفساد السياسي والمؤسسي والإهمال، بل إن مسؤولين أمنيين لبنانيين سبق وحذروا رئيس الوزراء حسّان دياب والرئيس ميشال عون في يوليو2020 من أن 2750 طناً من نترات الأمونيوم مخزنة في مستودعٍ بميناء بيروت، مما يشكل خطراً قد يؤدي إلى تدمير المدينة المكتظة بمليوني نسمة. وفي خطاب متلفز في 10 أغسطس، اعترف دياب أن منظومة الفساد “الأكبر من الدولة” عجلّت الأحداث التي أدت إلى الانفجار.
ومنذ ذلك الحين، استقالت حكومة حسان دياب، بيد أن اللبنانيين والنقاد لا يعتقدون أن ذلك من شأنه تغيير طريقة حكم البلاد. وفي الوقت الراهن، ما تزال حكومة دياب تؤدي دور تصريف الأعمال إلى أن يتم تشكيل حكومةٍ جديدة. ومن الجدير بالذكر أن مجلس الوزراء لا يمتلك سلطة اقتراح القوانين أو إصدار المراسيم. ففي خضم الأزمة المالية، أصبح الشلل السياسي أكثر إثارةَ للقلق من أي وقت مضى، إذ صرّح المسؤولون الفرنسيون والأمريكيون الذين زاروا بيروت في أعقاب الانفجار أن بلادهم لن تمد شريان الحياة المالي إلى لبنان ما لم تتبنى الطبقة السياسية إصلاحاتٍ هيكلية.
وعلى صعيدٍ متصل، ما زال بإمكان البلاد تلقي ما يصل إلى 298 مليون دولار كمساعداتٍ طارئة، بيد أن لبنان قد يحتاج إلى ما يفوق الـ30 مليار دولار- مبلغٌ مشروط بإصلاحاتٍ هيكلية عميقة من قِبل صندوق النقد الدولي- لإعادة بناء اقتصاده المنهار.
لكن في ظل الظروف الحالية، من غير المرجح إجراء إصلاحات هيكلية، إذ يشكك محللون في أن الرئيس ميشال عون قد يحاول تجاوز الانتخابات التشريعية وتعيين حكومة جديدة بالتشاور مع البرلمان. وعليه، قد تؤدي هذه الخطوة إلى اضطرابات شعبية في العاصمة، بالنظر إلى أن آلاف اللبنانيين لم يعد لديهم، حرفياً، ما يخسرونه في أعقاب الإنفجار.
علاوةً على ذلك، تبرز انقساماتٌ في صفوف الطبقة السياسية حول إجراء إنتخاباتٍ برلمانية مبكرة، إذ تعكس هذه الإنقسامات الهوة العميقة التي يعود تاريخها إلى انسحاب القوات السورية من البلاد في عام 2005.
فمنذ ذلك الحين، هيمن تحالفان سياسيان على العلاقات السياسية في البلاد؛ يضم التحالف الأول حركة أمل وحزب الله الشيعيتين والتيار الوطني الحر المسيحي. يُعرف هذا التحالف باسم 8 آذار وله علاقات ودية مع إيران والنظام السوري، وهناك تحالف 14 آذار الموالي للغرب، والذي يضم تيار المستقبل السُني بزعامة سعد الحريري، وحزب القوات اللبنانية المسيحي، وحزب الكتائب، والحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط. فالتحالف الأول يعارض إجراء انتخابات مبكرة ويطالب بدلاً من ذلك بتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم الأحزاب اللبنانية التقليدية الرئيسية.
من جانبه دعا حزب القوات اللبنانية إلى تقصير مدة ولاية المجلس النيابي الحالي البالغة أربع سنوات للاستعداد لإجراء انتخاباتٍ مبكرة، إلى جانب مطالبهم بتشكيل حكومةٍ محايدة ومعارضة تشكيل حكومة وحدة وطنية، بينما يدعم وليد جنبلاط “حكومة الحياد،” ويدعو سامي الجميل، زعيم حزب الكتائب، إلى إجراء إنتخاباتٍ مبكرة.
من جهته وصف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الذي وجه إليه المتظاهرون أصابع الإتهام بحمايته منظومةً سياسية فاسدة، “حكومة الحياد” بـ” المضيعة للوقت،” ذلك أن الأمين العام للحزب يُساوي “الحياد” بالتماشي مع المواقف الغربية. كما حذّر نصر الله من خطرٍ أكبر يتمثل بقوى سياسية تحاول “إسقاط الدولة ووضع لبنان على حافة الحرب الأهلية، لمصالح شخصية وخدمةً لمشاريع خارجية.”
لسنواتٍ عديدة، كان يُنظر إلى حزب الله باعتباره بعيداً كل البعد عن أي شبهات فساد فضلاً عن الإشادة الكبيرة التي يحظى بها من شرائح واسعة من المجتمع باعتباره قوةً بطولية حررت جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، بيد أن هذه القداسة أخذت تتآكل شيئاً فشيء مع التدخل المباشر للحزب في سوريا – رسمياً عام 2013 – دعماً لبشار الأسد، لتتدهور أكثر- بما في ذلك بين قاعدته الشيعية – مع تعمق الأزمة. وبالنسبة للمتظاهرين، أصبح حزب الله جزءاً من المؤسسة، ومع ذلك، لا يزال الحزب اليوم الأقوى على الساحة السياسية اللبنانية، رغم تأثره مالياً بالعقوبات الأمريكية ضد إيران.
وفي هذا الصدد، قال الدكتور كريم إميل بيطار، مدير معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، لنا في فَنَك: “لا أعتقد أن حزب الله ضعيف لكنه يدرك أن حلفائه المحليين والإقليميين ضعفاء.” وأضاف، “خسر حليفه المسيحي الرئيسي الكثير من الدعم في العامين الماضيين، كما تعرضت حركة أمل منذ فترةٍ طويلة – وخاصة في العام الماضي – لتهمٍ بالفساد، وعلى الصعيد الإقليمي تعاني إيران وسوريا اليوم من العديد من المشاكل الداخلية.”
وفي أعقاب استقالة حكومة دياب، لاحت في الأفق أسماء بعض البدلاء المحتملين، من بينهم رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، والدبلوماسي والقاضي نوّاف سلام، ونائب حاكم مصرف لبنان الأسبق محمد بعاصيري. وبالنسبة لحزب الله وأمل، يبدو أن الحريري الخيار الأمثل لهما إذ لا يمثل سلام وبعاصيري خياراتٍ محتملة باعتبارهما مقربيّن من الولايات المتحدة الأمريكية.
وبحسب ما قاله جوزيف باحوط، مدير معهد عصام فارس في الجامعة الأمريكية في بيروت، لفَنَك: “قبل ترشيح حسان دياب، كان الحريري الخيار الأول لحزب الله،” وتابع القول، “لم يتغير ذلك، لكن ما لا يريدونه حقاً هو حكومة حياد، فهم لا يخشون الاستقلال بل يخشون حكومة تخضع إلى حدٍ كبير لقوى موالية للغرب.”
كما أعربت العديد من الأصوات المنبثقة عن حركة الاحتجاج عن مخاوفها من إجراء الانتخابات البرلمانية دون أي تغيير في قانون الانتخابات المصمم برأيهم لحماية المؤسسة التقليدية الفاسدة بسبب المحاصصة الطائفية المحددة مسبقاً ضمن خطوطٍ جغرافية صارمة.
لكن المجتمع المدني فشل حتى الآن في إيجاد جبهةٍ موحدة تُمثل مطالب المحتجين، وفي ظل الظروف الراهنة، يرى باحوط أنه سيكون من شبه المستحيل على نشطاء المجتمع المدني منافسة الحرس القديم في حال إجراء إنتخاباتٍ نيابية في وقتٍ مبكر جداً، “إجراء انتخاباتٍ مبكرة انتحارٌ سياسي،” على حد تعبيره. وأضاف “ينبغي التحضير للإنتخابات ترافقها فترة إنتقالية طويلة من شأنها توفير الوقت لتنظيم المجتمع المدني.”